إعلام جديد » مرئيّات البؤس في حضرة الحبر الأعظم


محمود عمر

دأب أصحاب القضايا العادلة في مرحلة تاريخيّة سابقة على كشف المواضع التي تقاطع فيها نضالهم مع النضال الفلسطينيّ وتشابه معه. كان الفلسطينيّون في نضالهم ضدّ المنظومة الصهيونيّة مثلاً يحتذى ونموذجاً يملك مقوّمات وجوده المستقل والمتفاعل صحيًا مع نضالات الشعوب المُستعمرَة. أمّا معاناتهم فكانت معاناة قائمة في حدّ ذاتها؛ متحررة من هاجس المنافسة المرضيِّ على دموع العالم واهتمامه.
نَسفت اتفاقية أوسلو هذه الحالة التقدميّة، وأدخلت الفلسطينيين في زقاق بالغ الضيق والقسوة. ومن هذا الزقاق، بدأت في تسعينيات القرن الماضي رحلة البحث عن النموذج والصور الشبيهة. التجأ البعض تحت وطأة انحسار هامش السياسة ومحاولات ضرب التربة الاجتماعيّة في الأرض المحتلّة إلى جبال الأوراس في الجزائر، قبل أن تطلّ جنوب أفريقيا برأسها في مرحلة متقدّمة وتفرض نفسها وخطاب 'الفصل العنصريّ' على السّاحة.
بعد يوحنا بولس الثّاني وبيندكت السّادس عشر، يحلّ البابا فرانسيس الأول ضيفاً على 'الأراضي المقدّسة' في زيارة تبدأ في صباح الرابع والعشرين من أيار، وتنتهي مع غياب شمس السّادس والعشرين من الشهر نفسه. سيهبط البابا في عمّان قبل أن تحمله، في اليوم التالي، طائرة مروحيّة أردنيّة إلى بيت لحم التي سيلتقي فيها محمود عبّاس ويزور مغارة الميلاد ويقضي بعض الوقت مع أطفال من مخيمات الدهيشة وعايدة للاجئين قبل أن يتوجّه إلى 'إسرائيل'.
وقعت على عاتق اللجنة الرئاسيّة الفلسطينيّة لشؤون الكنائس مسؤولية الاستعداد لزيارة الحبر الأعظم. بدورها، أوعزت اللجنة إلى 'المتحف الفلسطيني' (وهو قيد الإنشاء) بتصميم مرئيّات يتمازج فيها الوجع الفلسطيني الرّاهن مع لوحات مسيحيّة من القرون الغابرة. ستعلّق المرئيّات في ساحة المهد ومخيّم الدهيشة حتى يراها الضيف ويتأثّر بها قبل أن يكمل رحلته إلى مصنع إنتاج البؤس الفلسطينيّ في تل أبيب.
يقدّم العنوان المُختار لهذه المرئيّات، بالإضافة إلى ماهيّتها، أمثلة صارخة على عقليّة الزقاق ومحاولات إيجاد الحيّز في مسرح العالم والسرديّات الميثولوجيّة الغالبة فيه. 'ضع إصبعك على الجرح وتأكّد من حقيقة وجودي'، بهذه الكلمات التي خاطب فيها المسيح توما المشكّك بقيامته، يخاطب الفلسطينيّون البابا فرانسيس الأوّل. يفترض القائمون على الفعاليّة بشكل شبه أوتوماتيكيّ أنّ البابا يشكك في الجرح الفلسطينيّ، ولهذا فهم يحاولون إقناعه.
لكنّ البابا لن يضع إصبعه من خلال المرئيّات على الجرح الفلسطينيّ، بل على الجرح الفلسطينيّ الملتبس بجروح زمن السيّد المسيح. سيرى الحبر الأعظم النصف السفليّ للوحة الرسّام الهولندي رامبرانت التي تظهر إبراهيم وهو على وشك التضحية بإسحاق، قبل أن تمتدّ يد ابراهيم خارج اللوحة لتصير يد جندي إسرائيليّ في الأرض المحتلّة. كما سيرى أيضاً النصف الأيسر للوحة الرسّام الاسباني موريّو التي تظهر شفاء المسيح لرجل كسيح، فيما سيحجز الجدار الأمني الذي أنشأته إسرائيل نصف اللوحة الأيمن.
ربّما، لو نُزعت هذه الأعمال من سياقها وتم النظر إليها باعتبارها منتجات مستقلّة، لوجب القول إنّ فيها من الإبداع والألمعيّة الشيء الكثير. لكنّ هذه المرئيّات في سياقها الذي أُنتجت فيه وفي ظلّ العلاقة التي تربطها بمشروع الحكم الذاتيّ الفلسطينيّ لا يمكن أن توصف إلا بأنها إبداعات بائسة يشوبها الخجل والتسوّل العاطفي، تماماً مثلما كان الحال مع الصور التي انتشرت في مرحلة سابقة ومزجت بين مشاهد راهنة في الضفة الغربيّة، وأخرى من الهجمات النازية على يهود أوروبا.
لا يحتاج الفلسطينيّ أن 'يقنع' أحداً غير نفسه بجروحه وآلامه. كما لا يحتاج الفلسطيني، بالتأكيد، إلى دعم أولئك الذين يطلبون إثباتاً، صريحاً أو مستتراً، على أن شلال الدم ليس عصير طماطم. السيّد المسيح نفسه قال ذلك لتوما: 'لأنك رأيتني بنفسك فقد آمنت. مباركون هم أولئك الذين لم يروا، ومع ذلك آمنوا'.
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد