صحافة إقليمية » حكايات المشايخ الضاحكة في رمضان!

القاهرة ـ صلاح حسن رشيد

لن أنسى ما حييت، منظر فقهاء القرية، وشيوخها، وهم يتسابقون في شهر رمضان الفضيل، للاحتفاء به، من خلال استعراض مهاراتهم الصوتية في تجويد القرآن الكريم. كان لكل عائلة شيخ (مساهر) من القرية، أو خارجها، يأتي ليسمع الناس جمال صوته، ويتباهوا به أمام العائلات الأخرى! فالشيخ يصلي بهم التراويح، ويقرأ لهم في المضيفة أرباع المصحف كل ليلة. من نوادر الشيوخ في رمضان، أو نوادر أصحاب السهرات الرمضانية مع مشايخهم التي صارت مضرب الأمثال والحكايات، والتي سمعتها صغيراً من أفواه الكبار، وما زالت ترن كلماتها في وجداني، حكاية الحاج عبدالسميع أبو جامع التي حدثت في الثمانينات من القرن العشرين، وكان من أثرياء القرية، حتى إنه استقدم شيخاً أزهرياً مشهوراً من القاهرة، له وحده، معروفاً بجمال الصوت، والفقه في الدين.

وكان من حظ هذا (الفقيه) التعيس، أنه صار شيخ هذا الثري البخيل، بل البخيل جداً!

فبمجرد حضوره عصر اليوم الأول في رمضان إلى القرية، أمره الحاج عبدالسميع بأن يستعد لرفع أذان المغرب، بصوته الرخيم. ولم ينسَ عبدالسميع، أن يخبره بضرورة تجميل صوته، والتغني به، لكي يعجب الناس بشيخ الحاج عبدالسميع، ويصير حديث قرية الشوامين بدلتا مصر! فلم يكن في القرية مذياع، ولا يحزنون! وكانت أعراف الشوامين، أن الشيخ يؤذن من فوق إحدى التلال، ثم يتناول طعام الإفطار مع صاحب البيت. فلما ذهب الشيخ لرفع الأذان، أخذ بنصيحة عبدالسميع، فصار يؤذن أذان الشيخ محمد رفعت، مع استعراض جمال صوته! باختصار، استغرق رفع الأذان خمس دقائق، ظن بعد ذلك الشيخ، أنه سيجد من صاحبه الثناء الحسن، والذكر الجميل. لكنه، فوجئ بعبدالسميع، وقد التهم اللحوم، والفراخ من على صينية الطعام، ولم يبق له شيء! فاحتار، واهتم، واغتم! ونظر إلى عبدالسميع، وإلى نفسه، وإلى المائدة الخاوية من المشويات، والمحمرات، وقد اعتصره الألم! حتى أيقن أنه في قرية القرود، بل القرية التي ضحكت على القرود نفسها!

وفي اليوم التالي، طلب منه عبدالسميع الأمر نفسه، أن يذهب إلى التلة لرفع أذان المغرب، فما كان من الشيخ، إلا أن نهره بشدة قائلاً: إما أن نذهب معاً، وإما أن نأكل معاً! فالمؤمن، لا يلدغ من عبدالسميع مرتين!

أما حكاية الشيخ فراج، فليس لها مثيل، فهو مقرئ، ولديه إلمام بالقراءات، وهو خطيب وداعية. كان يبدأ إفطاره بمرقة البط، وعصير الحمام، وكوب كبير من قمر الدين، وسبع حبات من الفواكه، ثم يصلي المغرب. وبعد الصلاة يبدأ الإفطار، وكانت شروطه: فرخة، بطة، إوزة، كيلو من اللحم الأحمر، مع السَّلَطات والرز والثريد! وبعد فراغه من هذه المعركة المهولة، يطلب الحلويات: الكنافة، المهلبية، الزلابية وياميش رمضان! ولما رآه صاحب البيت أكولاً، لا يعرف لنفسه حقاً، ولا لمعدته راحة، نصحه بإرجاء الحلويات إلى وقت آخر، فرد عليه مفحماً من السنة النبوية المطهرة: (نعم الإدام الخل)! وأنا لم آكل عندكم سوى الخل! فتعجب صاحب البيت، حتى صاح فيه: لو كان هذا الذي هرسته، هو الخل، فمن أين آتي لك بالبهاريز!

وبالفعل، فبمجرد اعتلاء الشيخ فراج مقعده للتلاوة، جحظت عيناه، وضاق صدره، وتحشرجت أنفاسه، واصفر لونه، وغاب عن الوعي! فحملوه على الأعناق، وطرحوه على الأرض، قائلين: ائتوا له بالخل، فهو أعز صديق له في الدنيا والآخرة!

حكاية أخرى، بطلها هذه المرة، الشيخ إبراهيم، وكان حافظاً لكتاب الله تعالى، مع روح فكاهية شبابية، على رغم أنه تجاوز السبعين من عمره فمن طرائفه الشهيرة، أنه اتفق مع عائلة الجعايدة، وهي عائلة تمتاز بالدعابة، والقفشات، على غيرها من العائلات، فإن لم تجد ما تفرفش به على نفسها، قامت بعمل القفشة على نفسها!

كان من عادة الشيخ إبراهيم حب الأكل، لا سيما (البط، الإوز واللحوم) وكانت الجعايدة تعرف ذلك، ففي الليلة الأولى في رمضان جهزوا له مائدة عامرة، بالبط والفراخ، فقام عليها الشيخ إبراهيم وحده، فأتى على ثلاث بطات، وفرختين، مع ما لذ وطاب! وبعد صلاة العشاء، والتراويح، قرأ ربعاً من الذكر الحكيم، ثم طلب من الجعايدة عمل صينية كبيرة (قدوسية) له من اللبن والخبز والعسل، ففعلوا، وبعد أن التهم الصينية بمفرده، واستعد لقراءة ربع قرآني جديد، حدث له ما لم يكن له في الحسبان، أخذ بطنه يقرقر، ويصفر، فانتهى من القراءة على عجل! ثم همس في أذن صديقه كبير العائلة قائلاً: أريد الدخول إلى بيت الراحة بسرعة! فقال الرجل: على الرحب، والسعة! لكن الشيخ بادره بالسؤال: وهل هنا حريم؟! فأجاب صاحب البيت باستغراب شديد: نعم: أمي، وزوجتي، وبناتي، وأخواتي! عند ذلك، قال الشيخ: وهل هنا جِنينة؟! قال الرجل: نعم. قال الشيخ: دعني، أقضِ حاجتي فيها، فستخرج أصوات، وآهات، وصواريخ غازية، لا قبل لهن بها! وبالفعل، غاب إبراهيم نصف ساعة، ثم عاد وهو يبتسم، فهمس صاحب البيت في أذنه: ما أخبار صواريخك يا شيخ إبراهيم؟! فرد على الفور، وهو يقهقه: ائتوني بـ (قدوسية) أخرى، لزوم تسخين المعدة، والاستعداد للقراءة!

ذات يوم، فوجئ الشيخ إبراهيم، بمن يطرق عليه باب داره طرقاً مدوياً صباح أحد أيام رمضان، فقام مسرعاً، فوجد أحد أبناء الجعايدة يقول له: عمي مات يا شيخ الآن... أبي يطلب منك المجيء لتغسيله وتكفينه! وبالفعل، قام الشيخ إبراهيم بتجهيز الميت وتغسيله والقراءة في المأتم. وفي نهاية اليوم، وبعد أن انتهى الشيخ إبراهيم، وقرأ الفاتحة على روح المرحوم، قال له كبير العائلة: أنت معنا غداً يا شيخ! وفي اليوم التالي، قرأ الشيخ إبراهيم أرباعاً عدة حتى انتهى اليوم، فلما أراد الانصراف، همس كبير الجعايدة في أذنه: أنت معنا في الثالث يا شيخ.

وفي اليوم الثالث للمأتم، وبعد فراغ الشيخ إبراهيم من القراءة والتجويد، فوجئ بكبير الجعايدة، يضع يده في جيب الشيخ إبراهيم، وهو يقول: المحبة تستر، والله ما أنت عادِدهم! يقصد الأموال التي وضعها في سيالة إبراهيم!

لكن المفاجأة التي نزلت على إبراهيم كالصاعقة، أنه وهو يسير إلى بيته بالشوامين، كان يسمع أصوات خشخشة في جيبه، فلما أراد أن يتبين الأمر، وضع يده في جيبه، فاستغرب من شدة المفارقة: فقد وجد أربعين قرشاً مصرياً وضعها كبير الجعايدة ثمناً له، لتجهيز الميت، وتكفينه، والقراءة على روحه في المأتم؛ ولثلاث ليال متواصلات في الألفية الثالثة! لكنه، لفرط طيبته، وسذاجته، خاطب نفسه تطميناً لها قائلاً: وماذا أنت صنعت يا إبراهيم؛ لقد أكلت عندهم لحوماً ثلاثة أيام، فماذا تريد بعد ذلك؟! هذا هو الجشع يا إبراهيم! هذا هو البطر يا أبا خليل! ونسي الرجل مجهوده الذي ضاع، وعدم إعطائه حقه في العمل، والقراءة!

أما الشيخ عبدالفتاح، فحكاية مغايرة، وروح وثابة، فمن أجل المرق والدجاج، والهبر، يفعل أي شيء! اتفقت معه إحدى العائلات على (المساهرة) في رمضان بـ (30) جنيهاً في سبعينات القرن الماضي، مع الإفطار، والسحور كل يوم عندهم. وفي الإفطار الأول معهم، وجد عبدالفتاح أن له شريكاً على المائدة، هو صاحب البيت؛ فاحتال، من أجل إبعاده، للظفر بحبيبته المائدة، فطلب إحضار عصير دوم له، لعلمه أنه لن يجده في عموم القرية! وبالفعل دخل الرجل إلى أهل بيته، فغاب مدة طويلة، فلما عاد، وهو يتأسف من شدة الحياء للشيخ، لعدم وجود دوم في القرية! هاله، أن وجد عبدالفتاح يقوم بطرقعة أصابعه، وهو يزم شفتيه، ويتكئ على الأريكة، وهو ينفخ، وقد أشعل سيجارته قائلاً، بعد أن التهم المائدة التهاماً، فلم يبق له شيئاً: جوعتونا يا رجل! فنظر له صاحب البيت، الذي لم يتناول إفطاره بعد، وهو يقول له: كلني أحسن بقى... يا شيخ عبدالفتاح!
المصدر: صحيفة الحياة

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد