صحافة دولية » بين بيروت وباريس.. الكاميرا ترسم حدودها


afp_300
جويل بطرس

في بيروت، يتحدث المراسلون عن أربعة انتحاريين، ويربطونهم سريعاً بمشتبه به ألقي القبض عليه في طرابلس. يتداولون صور إرهابيين مفترضين، يعتذرون بعد دقائق لعدم دقّتها. تعود الصور لعمليات انتحارية في العراق وسوريا. يسردون أسماء الضحايا، ولا يهمّ إن كان أهلهم قد تبلّغوا أم لم يبلغوا بعد.
على &laqascii117o;أورونيوز" يكشف المراسل عن الاشتباه بسيارة تتعقّبها الشرطة. لا يعطي المزيد من المعلومات احتراماً لسرية التحقيق. في موازاة ذلك، تصدر &laqascii117o;تي أف 1" بياناً توضح فيه أنها ستكتفي بالبلاغات الرسمية. لا يرد عبرها أي ذكر لقتيل أو جريح. مهمة اطلاع عائلاتهم تعود للسلطات المختصة.
ينصبّ تركيز الشاشات في بيروت على المشاهد الدمويّة. يجهد بعض المراسلين في توصيف الأشلاء المتناثرة. يركض أحدهم نحو جريح ينزف، يطلب منه تصوير ثيابه المضرجة بالدماء. لا يكتفي بساحة الانفجار. يلحق بالأهالي إلى الجنازة. يتحدث مع الأقارب، يصوّر الجثامين. يتناسى أن هؤلاء بحاجة للحداد بمفردهم.
في المقلب الآخر، في باريس، لا اثر لبقايا الانتحاريين. الجثث مغلفة بغطاء ابيض. الصورة لا تقترب حتى من الغطاء. حرمة الموت فوق كل اعتبار. الإعلام يحترم العائلات المفجوعة ومشاعر المشاهدين.
ينتقل المراسلون اللبنانيّون من ساحة الاعتداء إلى المستشفيات لتصوير الجرحى. كان للطفل حيدر حسين مصطفى (3 سنوات) الحصة الأكبر في &laqascii117o;السبق". يطلق عليه مراسل تلفزيون &laqascii117o;المنار" علي رسلان لقب &laqascii117o;الجريح الاستثنائي". يدخل مع الكاميرا، يقف إلى جانب سريره، يعرّف عنه على انه &laqascii117o;الطفل الذي فقد والديه في التفجير" ويشدِّد على أن حيدر لا يعلم أن &laqascii117o;والديه قد استشهدا". لكن لا ضير من تذكير المشاهدين مراراً بوفاة الأهل، على مسمع الطفل. يسأله: &laqascii117o;حيدر كيفك؟ شو صار معك؟ مين يلي عمل فيك هيك؟ شو كمان عمل الانفجار؟ وبابا وماما وينن؟" يجيبه حيدر ببراءة والكثير من الوجع، &laqascii117o;بالسيارة بعدن". لا تكتفي المذيعة في الأستوديو. القصة مؤثرة لذا لا بدّ من الحديث مع الأقارب أيضاً. البكاء المباشر على الهواء سينال من قلب المشاهد بالتأكيد.
على الجديد، يطلّ جورج صليبي مباشرة من ساحة الجريمة. يطلب من أحمد شحيمي (11 عاماً) الجلوس في حضنه. يسأله: &laqascii117o;شو بتقول لوالدك الشهيد يلي ممكن يكون عم يسمعنا هلأ من شي مطرح؟" يطلب من أحمد أن يسرد بالتفاصيل لحظة وقوع الانفجار. لا يهتمّ صليبي لصوت احمد المرتجف. يسأله مجدداً، &laqascii117o;شو عملت انت لمّا سمعت انو بيّك استشهد؟" يكتفي احمد بـ &laqascii117o;انقهرت". لا يشفي هذا الجواب غليل صليبي. &laqascii117o;بكيت؟ صرّخت؟" يطرح الأسئلة، ينظر إلى احمد ويهزّ برأسه. يريد أن يرى دموع احمد مباشرة على الهواء. هذه اللحظة هي نقطة تحوّل في مسار الحلقة. دموع الأطفال تأسر المشاهد وتساهم في ارتفاع الـ &laqascii117o;رايتنغ".
على &laqascii117o;تي أف 1" تبحث المراسلة عن شهود على المجزرة في مسرح &laqascii117o;باتكلان". يحاول احد الناجين إخبارها بما جرى. تغلبه الغصة، يتوقَّف عن الكلام. لا تصرّ على أسئلتها. يلتزم المصوِّر بإطار الصورة البعيد، لا يبحثان عن التقاط الدموع. تطلب المراسلة العودة إلى الأستوديو: &laqascii117o;أنا افهم ما تشعر به الآن. شكراً لأنك قبلت بالتحدث معنا". انتهى.
تسأل ندى اندراوس على &laqascii117o;ال بي سي" والدة سامر حوحو إن رأت جثة ابنها. &laqascii117o;شو بتقوليلو لسامر اليوم؟" تنهار الوالدة بالبكاء. تتركها أندراوس لدقائق طويلة تندب مصير ابنها الوحيد.
في باريس، يقف المراسلون على بعد كيلومترات من مداخل المستشفيات. لا يتهافتون لتصوير أب يصرخ بحثاً عن ابنه. لا يركضون وراء سيدة تسأل عن مصير قريبها. لا يدخلون إلى غرف الجرحى، لا يحاولون استنطاقهم. الضحايا يتألّمون والصحافيون يحترمون آلامهم.
هنا، على هذه البقعة، تتكرَّر التفجيرات ويتجدَّد معها الحديث عن الأداء الإعلامي. الصحافي هو أول الواصلين إلى ساحة الجريمة، بجانب فرق الإسعاف والقوى الأمنية. بالرغم من ذلك، فإنّ بعض حاملي الميكرفون لا يعون الأثر النفسي الذي يخلفونه على الضحيّة والمشاهد، بكلمة متفلّتة هنا، وصورة جارحة هناك. لكنّ الأخطاء (إن اعترف بوجودها) سببها &laqascii117o;السرعة وحجم الواقعة". الاستعانة بالأهالي المنكوبين حجته النقل المباشر المتواصل. ويقال إنّ &laqascii117o;حفلة الجنون" تلك، إنّما تأتي تلبية لرغبة المشاهدين.
الهواء المفتوح لنقل عذابات الضحايا قرار، وبالتالي ليس وليد هول اللحظة. هناك، في العاصمة الفرنسية، الجريمة مفاجأة. إنها المرة الأولى التي تشهد فيها باريس اعتداءات بهذا الحجم. لكن الجسم الإعلامي لم يصب بالهلع ولم ينهر. نقل الحدث بأقل ضرر ممكن تجاه المشاهد. تسكت مذيعة &laqascii117o;أورونيوز" طويلاً، تاركة للكاميرا مهمة نقل ما يجري. الصمت أفضل من الكلام الثقيل في هذه الحالات. لا يطلب المراسل من الأهالي &laqascii117o;توجيه رسالة" لأولادهم الذين قضوا خلال إطلاق النار.
في بيروت، يلهف المذيع وراء السبق الإعلامي. يتعامل مع الضحايا كمادة جاهزة للاستغلال. يتاجر برواياتهم، يبيعها للمشاهد الخائف وراء شاشته. ينتشر الفيديو، يحقق نسب مشاهدة عالية. يعتبر المراسل أن ما حققه انجاز. يبحث بين الضحايا عن مكافأة جديدة. في باريس، يعتبر الإعلاميون أنّ ما جرى كارثة وطنية. يتعاملون مع الحدث على هذا الأساس. الضحايا ليسوا سلعة. الاعتداءات ليست منتجا. والحصيلة لن تشكلّ أرباحاً إضافية تضيفها المحطة إلى رصيدها.
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد