مقالات ودراسات » ثقافة العنف في المجتمع الأميركي

محمد السمّاك
تقدّر الولايات المتحدة عدد قطع السلاح المنتشرة بين الأميركيين بحوالي 300 مليون قطعة بين مسدس ورشاش وبندقية. ومن المعروف انه بموجب الدستور الأميركي فان اقتناء الأسلحة مباح وهو مرتبط بحرية الدفاع عن النفس. وبالتالي فان بيع الأسلحة تجارة مفتوحة ومشروعة. تعني النسبة التقديرية لعدد قطع الاسلحة المنتشرة، ان في كل بيت أميركي أكثر من قطعة سلاح واحدة. ونتيجة لذلك فان الاحصاءات الرسمية الأميركية تسجل اطلاق النار كل 16 دقيقة من مواطن أميركي على مواطن أميركي آخر. وقد أدى هذا الواقع الى حدوث سلسلة متواصلة من المآسي الانسانية.

مع ذلك لم تنجح كل المحاولات لفرض حظر على بيع الاسلحة التي تباع من المواطنين كما تباع السلع الأخرى في الأسواق. بعد محاولة اغتياله، حاول الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة لدى اليمين السياسي (الحزب الجمهوري) أن يفرض قيوداً ولو محدودة- على بيع الأسلحة. يومها برر محاولته بقوله: &laqascii117o; في كل عام يُقتل 9200 أميركي بواسطة المسدسات والبنادق داخل أميركا.. ولذلك فان علينا أن نفرض حظراً على حرية امتلاك هذه الأسلحة لوقف هذا العنف المتزايد والمتصاعد". غير ان محاولته أجهضت، واقتصرت على فرض اجراء تنظيمي محدود أثناء عملية البيع.

وقبل ريغان، جرت محاولتان لفرض قانون اتحادي على سائر الولايات الأميركية. كانت المحاولة الأولى في عام 1934، والثانية في عام 1968. ولكن المحاولتين لم تثمرا إلاّ فرض تنظيم شكلي لم يقارب القضية الاساس. وهي حرية اقتناء السلاح.. وحرية بيعه في الاسواق.

الذين يدافعون عن مبدأ حرية تداول السلاح يقولون ان السلاح لا يقتل. بل ان الانسان هو الذي يقتل. ولذلك يجب التوجه لمعالجة الانسان المريض نفسياً.. وليس الحد من &laqascii117o;حرية" امتلاك السلاح.

ولكن في المحصلة العامة، فان الدراسات الاحصائية تؤكد انه خلال السنوات الأربع الماضية فقط (2011-2015) قُتل داخل الولايات المتحدة أكثر مما قتل من جنود أميركيين في الحروب الخارجية الأربع التي خاضتها بعد الحرب العالمية الثانية. وهي حروب كوريا، وفيتنام وافغانستان والعراق. ويشمل هذا الاحصاء ضحايا الانتحار بالسلاح وضحايا اطلاق النار عن طريق الخطأ.

ولعل من الأمثلة المعبرة على ذلك حادثة المواطن الأميركي برنت نيكلسون الذي أوقفته دورية من رجال الأمن لارتكابه مخالفة مرورية في مدينة في ساوث كارولينا، فاذا بالدورية تكتشف ان في سيارته 20 بندقية. وفي التحقيق معه تبين انه يملك في منزله 5000 قطعة سلاح مختلفة الأنواع من مسدس ورشاش وبندقية اوتوماتيكية وحتى قاذفات آر.بي.جي.، اضافة الى عشرات الآلاف من الذخيرة.

مع ذلك، ونظراً لقوة الضغط الذي تمارسه المؤسسات الصناعية المنتجة للأسلحة على عملية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، يستمر تساقط الضحايا فيما تدور محاولات حظر بيع الاسلحة المحلية في حلقة مفرغة. وتحتمي هذه المؤسسات تحت منظمة تعرف باسم &laqascii117o;الهيئة الوطنية للبندقية". تحتل هذه المنظمة التي تموّلها مصانع الاسلحة، المرتبة الثانية بعد اللوبي الصهيوني في القدرة على ممارسة الضغط السياسي على الكونغرس بمجلسيْه. وللخروج من هذه الحلقة المفرغة، وضع تنظيم اداري يجبر محلات بيع الاسلحة على إبلاغ السلطات المحلية عن كل عمبية بيع. كذلك فرض على المشتري ان يملأ قسيمة باسمه وعنوانه ونوع السلاح الذي اشتراه. ورغم ان هذا التنظيم اعتُمد منذ سنوات عديدة، الا ان دراسة أعدتها جامعة هارفرد تقدم نتيجة سلبية. وتقول الدراسة ان أربعين بالمائة من عمليات بيع الأسلحة في أميركا تتم بصورة غير شرعية، اي من دون تسجيل. فالبائع يهمه أن يبيع حتى الى المتهمين بالارهاب. وتؤكد الدراسة أيضاً، استناداً الى الاحصاءات الرسمية الأميركية &laqascii117o;ان اكثر من 2000 من المتهمين او المشبوهين والمراقَبين لاحتمال قيامهم بأعمال ارهابية، تمكنوا من شراء الأسلحة من محلات البيع داخل الولايات المتحدة بين عامي 2004 و2014 &laqascii117o;.

وبالنتيجة، تؤكد الاحصاءات الرسمية انه لا تغيب شمس يوم، إلا وتقع فيه عملية اطلاق نار جماعي يذهب ضحيتها ما معدله أربع ضحايا في كل حادث. وكان الحادث المأساوي الذي وقع في بلدة سان برنردينو في كاليفورنيا قد أودى بحياة 14 أميركياً.

يعترف الرئيس باراك أوباما بأمرين هامين. الأمر الأول هو ان عملية القتل الجماعي في المدن الأميركية باتت روتينية.. وان المجتمع الأميركي بات يألف استقبال نبأ وقوعها وكأنها شيء عادي..

اما الأمر الثاني فهو اقراره بفشله أو بعجزه- في فرض تشريع جديد يضع حداً للتداول الحر للاسلحة الاوتوماتيكية داخل المدن والبلدات الأميركية أو على الأقل بفرض قيود عملية وجدية تحدّ من هذا التداول.

من هنا السؤال: هل صحيح ان المشكلة ليست في السلاح بل في من يحمله؟ للإجابة على هذا السؤال تجدر الاشارة الى ان المجتمع الأميركي ليس المجتمع الوحيد في العالم الذي يبيح الاحتفاظ بالاسلحة الاوتوماتيكية في المنازل. ان سويسرا تبيح ذلك ايضاً. فكل مواطن سويسري يؤدي الخدمة العسكرية (والخدمة العسكرية الزامية في سويسرا) يحتفظ بسلاحه في منزله بعد انتهاء فترة خدمته العسكرية. ولكن من النادر جداً وقوع جريمة قتل أو حادثة تبادل اطلاق نار بين السويسريين. فلماذا تقع جرائم القتل الفردي والجماعي- في المجتمع الأميركي، ولا تقع مثل هذه الجرائم في المجتمع السويسري؟

مرت سويسرا بحرب أهلية (بين الكاثوليك والبروتستانت) وتقسّمت الى كانتونات عرقية (ألمانية فرنسية إيطالية). كذلك مرت الولايات المتحدة بحرب أهلية بين الشمال والجنوب. وهي تضم جماعات عرقية ومهاجرين من مختلف أنحاء العالم، جرى ويجري تذويبهم في بوتقة الديمقراطية. فلماذا تستمر فيها &laqascii117o;ثقافة" اطلاق النار (التي انطلقت منذ المواجهات الأولى مع الهنود الحمر والتي ادت الى تصفيتهم تقريباً)، فيما تلاشت هذه الثقافة تماماً في المجتمع السويسري؟

يعتبر وقوع حادث اطلاق نار يؤدي الى القتل في سويسرا، حادثاً استثنائياً. اما في الولايات المتحدة فانه يُعتبر حادثاً روتينياً يومياً. من هنا التساؤل هل صحيح ان المشكلة في الانسان وليست في السلاح؟
المصدر: صحيفة المستقبل

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد