تحقيقات » أناشيد حزب الله من أمّاه إنّي راحل إلى أمريكا مصاصة دم

رضا حريري

في طريقهم لتنفيذ عملياتهم ضد ميليشيا أنطوان لحد والجيش الإسرائيلي، كان مقاتلو «حزب الله» الأوائل يردّدون كلمات ندبيات الرادود الإيراني «عساكري» ويلطمون الصدور. كان هذا أول شكلٍ لعلاقة الحزب بـ«الغناء»: تنغيم للكلام من دون موسيقى ومن دون آلات، والاعتماد على الإيقاع فقط.

ربطت ندبيات «عساكري» بين التاريخ، متمثّلاً بمعركة كربلاء، وبين الحاضر المتمثّل في الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، ووظّفت في تلك الفترة في الترويج لخطاب الحزب السياسي. يظهر ذلك واضحاً في كلمات هذه اللطميات، التي لا تزال تستخدم من وقتٍ لآخر، كما في «ولّى يوم الرقاد» أو «في درب الحسين» أو «يا عاشق الجهاد» وغيرها. وسنجد استحضاراً للثورة الخمينيّة وللمعارك في الجنوب: «فينا الخميني صاح نحمل السلاح في وجه الظالمين لا تتركوا الكفاح»، «بايعنا الخميني لأمر القيادة»، «يا عاشق الجهاد في كربلاء ميدون قد أرعبت الأعادي»...

مع الوقت، ظهر العديد من الفرق والكثير من المنشدين التابعين لـ «حزب الله»، وتلاشى حضور «عساكري» حتّى كاد يختفي.
اليوم يملك الحزب كادراً فنيّاً كبيراً وعدداً من الفرق، إلى جانب الكثير من المنشدين الذين يدورون في فلكه.
وهذه محاولة لتتبع التغيّرات التي طرأت على علاقة الحزب بـ «الأغنية السياسية» إن صح التعبير، وتتبّع ما طرأ على هذه «الأغنية»، كلماتٍ ولحناً، منذ صعود الحزب في الثمانينيات وحتّى اليوم.    
نشأة الفرق الإنشادية وتطوّرها
يعدّ أحمد همداني واحداً من أوائل العاملين في مجال الإنتاج الموسيقي في «حزب الله». عمل لفترةٍ طويلة في فرقة «الإسراء» التابعة للحزب قبل أن يتّجه للإنتاج المستقل. اليوم يُحضّر همداني لرسالة ماجستير في الموسيقى في الجامعة «الأنطونية»، بعنوان «المأتم الحسيني عند الشيعة في لبنان: مقاربة موسيقية تحليلية». ويدير أيضاً «مركز أطوار» الذي يهتم بالتثقيف والتطوير الموسيقي، حسب تعريفه.
يقول همداني: «كانت كشافة المهدي القناة الوحيدة للعمل الموسيقي في إطار المؤسسات التابعة للحزب، إذ يعدّ استخدام بعض الآلات الموسيقية كالترومبيت والطنبور من صميم العمل الكشفي».
داخل الكشّاف نشأت جميع الفرق التي ظهرت لاحقاً، كـ «الولاية» و «الإسراء» و «الغدير» و «الفجر» و «العهد». ولم تكن جميعها تتبع في البدايات للهيكلية التنظيمية للحزب. يعود ذلك، بحسب همداني، إلى الموقف الملتبس من الموسيقى في نظر الخميني، الذي يمثّل المرجعية الدينية للحزب: «عدم ارتباط هذه الفرق بشكل مباشر بالتنظيم كان أفضل له من الناحية الفقهية. إذا خالفت واحدة منها الفقه من ناحية معينة، لا يكون الحزب مسؤولاً عن ذلك».
هذا التشدد سيلين قليلاً مع تغيير مرشد الثورة الإيرانية الخميني موقفه من الموسيقى، من التحريم التام إلى جواز الاستماع للموسيقى ذات المضمون الجيّد.
لكن في الفترة الأولى، كان تطوير الثقافة الموسيقية على عاتق المتطوعين في الكشاف، في ظل عدم التشجيع على الموسيقى ودراستها، وبالتالي ظلت المعرفة في هذا الإطار محصورة بقراءة النوتة وكتابتها.
جميع هذه الفرق انفصلت عن الكشاف لاحقاً. «بمجرد أن تكبر هذه الفرق وتزداد حاجاتها الإنتاجية، كانت تنفصل عن الكشاف، وبالتالي عن أي ارتباط بالحزب»، يقول همداني. في منتصف التسعينيات، صارت تصدر ألبومات مستقلّة، وتنتج أغنيات مصوّرة وتبيعها لقناة «المنار» التابعة للحزب، كما صارت تنال بدلات مالية عن مشاركاتها في الاحتفالات التي يقيمها التنظيم. يتابع همداني: «تحسن مستوى الإنتاج في تلك الفترة بفضل المنافسة بين الفرق. قمنا في فرقة الإسراء مثلاً، قبيل العام 2000، ولأول مرّة، بالاستعانة بموسيقيين من خارج التنظيم، كزياد بطرس وعبدو منذر وميشال فاضل»... «لكن، وبعد العام ألفين تحوّل التنافس من تنافس على الجودة إلى تنافس على المال والشهرة، وحصلت العديد من المشاكل بين الفرق والمنشدين».
كان هذا السبب من جملة أسبابٍ عدة دفعت الحزب في العام 2006 لإنشاء «الجمعية اللبنانية للفنون»، المعروفة باسم «رسالات»، لتنظيم الأنشطة الفنية للمؤسّسات التابعة أو المؤيّدة له، وضبط علاقاتها ببعضها البعض.
عندها، صارت الفرق الإنشادية ولأوّل مرّة مرتبطةً مباشرةً بالهيكلية التنظيمية للحزب.
تحوّلات الموسيقى في «حزب الله»
يعتبر همداني أنّ ربط الفرق بالتنظيم جاء متأخّرا. بالنسبة له تدنّى مستوى النشيد كثيراً في السنوات الأخيرة. يحمّل الموسيقي مسؤولية «التدهور» لطرفين أساسيين: المنتجين أي الفرق الإنشادية، والمروّج أي قناة «المنار». يسأل: «على أي أساس يتم تقييم الأناشيد التي تعرض على التلفزيون؟ ومن يقوم بتقييمها؟».
بالعودة إلى المراحل الأولى، وباستثناء «فترة عساكري» القصيرة، دخلت الموسيقى وآلاتها منذ منتصف الثمانينيات إلى أعمال الحزب. كانت بداية ذلك مع فرقة «الولاية» التي ألّفت ولحّنت النشيد الرسمي للتنظيم.

كما قدّمت في العام 1984 مجموعة من الأناشيد الجهادية مثل «امضِ ودمّر عروش الطغاة»، «يا جيوش الحق سيري» وغيرها.

لحقت فرقة «الإسراء» بالـ«ولاية» في العام 1987، وقدّمت هي الأخرى مجموعة من الأناشيد كـ«جبل الأبطال»، و«مسجد الرضا» و«القدس».


تشابهت أناشيد تلك المرحلة لجهة مدتها الزمنية التي تتجاوز الخمس دقائق غالباً، وفي اعتمادها على جملةٍ موسيقية واحدة تتكرّر طوال الوقت، مستوحاة من الموسيقى الكشفية، وشبيهة جدّاً بالمارشات العسكرية. كان الـ «أورغ» وقتها الآلة شبه الوحيدة المستخدمة.
أمّا من ناحية الكلمات، فهي تظهر مقدار ارتباط الحزب الناشئ بإيران («نحن جندٌ للخميني، للخميني ما من نظير»). كما امتازت كلماتها بارتباطها بمفاهيم ومصطلحات كبرى، معظمها مستوحى من الثورة الإيرانية، ولكنّها في الوقت نفسه بقيت متواضعة واعية بإمكانيات حزبها في تلك الفترة. واستخدمت عبارات كالجهاد والمستضعفين والظلم والحق والخير («لا نخضع ولا نركع»، «صوت المقهور ينادينا ويقض مضاجع ليالينا»)، وإن كانت في النهاية تبشر بمستقبل مشرق («كفكفي دمع الثكالى جاءك صبح النصير»، «امضِ ودمّر عرش الطغاة»).
في نهاية الثمانينيات دخلت الآلات النفخية، كالكلارينت والترومبيت. وفي النصف الأول من التسعينيات حافظت على مددها الزمنية الطويلة نسبياً، وعلى الجملة الموسيقية الواحدة، مع استثناءات قليلة، لكن أضيفت في تلك الفترة المقدمات الموسيقية التي يتخلّلها إلقاء لأبياتٍ شعرية، كما في «الشعب استيقظ يا عباس» لفرقة «الولاية»، أو في «أبي الشهيد» لفرقة «براعم الشهداء».

في الوقت الذي تراجع فيه حضور رموز الثورة الخمينية في الكلمات التي ركّزت أكثر على تضحيات الشهداء والحزن على فراقهم («عندما حضنتني بالأمس يا أبي/ قلت لي وداعاً وقبلتني». «أمّاه حان فراقنا والملتقى عند الحسين، أمّاه ذابت مهجتي فالخلد مثوى الراحلين»).
في النصف الثاني من التسعينيات بدأت الأناشيد تتّخذ طابعاً أكثر حماسةً، وصار بعضها لا يتجاوز مدة الثلاث دقائق (إصدار «آيات النصر» لفرقة «الإسراء، عام 1997). وبعد تحرير الجنوب في العام 2000، بدأ التنوّع في الألحان التي أصبحت أكثر احتفالية («الحمد الله لتحررنا» لفرقة «الإسراء» مثالاً)، وتراجع حضور «المفاهيم الأممية» كالحق والخير والباطل والشر والجهاد والضعفاء الخ... فيما دخلت اللهجة المحكية بقوة إلى الكلمات («فرح الشعب اللي ناطرنا»)، رغبة من الحزب ربّما في شمل شريحةٍ أكبر من اللبنانيين وإعطاء الانتصار والتحرير طابعاً وطنياً أوسع من الطابع العقائدي.

طوال هذه الفترة حافظت الأناشيد على سوية معيّنة في اللحن والكلمات. لكن مع التوغّل أكثر في العقد الأول من الألفية الثانية، بدأت الأناشيد تأخذ منحاً مختلفاً أكثر التصاقاً بالأحداث المعيشة (إصدار «وطني صامد» لفرقة «الولاية» في العام 2005 مثلاً). ثم جاءت ذروة ذلك في العامين 2006 و2007، في الفترة التي تلت حرب تموز والتي رافقها الاعتصام الذي نفذته المعارضة في قلب العاصمة بيروت. وظهرت أناشيد شديدة الشعبوية، بألحانٍ حماسية وتعابير مستقاة من الشائع في كلام الناس. لكن ما يمكن ملاحظته ابتداءً من تلك الفترة وحتّى اليوم هو دخول معظم الآلات الموسيقية إلى الأناشيد، وهي التي كان معظمها ممنوعاً من الاستخدام سابقاً أو محرّماً.
من ناحية أخرى، سيطرت اللهجة المحكيّة على الأغاني، و «تلبنن» نشيد الحزب وامتلأ بالافتخار، بالتزامن مع توسّع جمهوره وازدياد قوته. حفلت أناشيد تلك الفترة بتشابيه تستحضر الصخر وجبال لبنان والأرز الذي لا تهزّه الريح، والجباه المرفوعة التي لا تنحني. كما عرفت كلماتٍ ركيكة (أمريكا مصّاصة دم وبتشبه راس الأفعى» و «بيروت حرة حرة أمريكا طلعي برا»)، ومسايرة لتيار حليفه عون: «حيّ على التغيير، حي على الإصلاح، حيّ على التحرير قوموا سوا نبني الوطن»).

لاحقاً، ومع تطوّر البرامج الموسيقية ووسائل التواصل الاجتماعي صار من السهل على أيٍّ كان تأليف أغنية وتلحينها وغناؤها وبثّها على «يوتيوب» أو «فايسبوك». أدّى ذلك بطبيعة الحال إلى انحدار مستوى الأناشيد، وتزايد عدد منشديها بشكلٍ غير مسبوق.
ماذا عن اليوم؟
لا يمكن عزل التدّني الذي لحق بمستوى موسيقى الحزب عن تدّني مستوى الموسيقى عموماً. فعندما تحتل دومينيك حوراني وعلي الديك وغيرهما شاشات التلفزيون، لا يمكننا أن نتوقّع ظهور محمد عبد الوهاب جديد في حزب ديني تشوب علاقته بالموسيقى أساساً الكثير من الحواجز والشكوك.
في الوقت نفسه من الصعب تجاهل التحوّلات السياسية التي طرأت على الحزب وتأثيرها.
أدّى دخول الحزب، الذي عمل دوماً على تقديم نفسه بصورة ثوريّة «يوتوبية»، همّه الوحيد قتال المحتل الصهيوني، في الصراعات السياسية الداخلية بدايةً، ومن ثمّ المعترك السوري لاحقاً، إلى تبدّل في أغراض أناشيده، رافقه غالبا تراجع في مستواها. هو الذي حفلت أناشيده، في فترةٍ من الفترات، بالكثير من الشحنات العاطفية والروحية، كما بمفاهيم تحيل إلى قيمٍ إنسانية كبرى، انتقل ليحكي عن «حكومةٍ عميلة» و «عوكر مركز الغدر والظلم»، ثم عاد ليتمدّد إنما باتجاه آخر: «تحرير مدينةٍ في سوريا» أو «استرداد قريةٍ في القلمون» أو «ملايين السوريين جينا نعاهد عهد الله معك يا أسدنا».
وجود «المنشد» علي بركات، وإن كان لا يتبع تنظيمياً للحزب، يعبّر من نواحٍ كثيرة عن المزاج الطاغي اليوم.
 
المصدر: جريدة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد