إعلام جديد » غرافيتي فلسطين.. مقاومة على الجدران

المقداد جميل

يجتمع مُهنّد حلبي، وفادي علّون، برفقة مهند العقبي وخالد جوابرة ومُعتزّ زواهرة، مع غيرهم من شهداء انتفاضة القُدس، على الحائط الأكبر أمام مفترق الأزهر، وسط مدينة غزّة. يتزيّنُ الطريق الذي يمرّ أمامه آلاف الناس بشكلٍ يوميّ، برسومٍ لصورهم جميعاً أقامها عددٌ من فنانّي غزّة مؤخراً.
الشُهداء يعودون. ستون يوماً كانت كفيلة أنّ يعود الشهيد مهنّد حلبي، مفجّر انتفاضة القُدس، لكنّ هذه المرّة ليست العودة إلى مدينته الأمّ، إنما لغزّة. لا يمرّ شخصٌ في هذا الطريق إلّا ويرى صورته الراسخة في الذاكرة. الذاكرة التي تحتفظ بهم جميعاً، لكن في فلسطين توجد الذاكرة أيضاً على الجدران، في الصور المعلّقة في المنازل، في خطب المساجد، وتتردّدُ في وقفات الطلّاب أمام مدارسهم وجامعاتهم، مستغلّين كافّة الوسائل التي تجعل منهم راسخين في ذاكرة الأجيال كلّها.
حال هذا الجدار الكبير كغيره من الجدران في فلسطين. لا يكاد يخلو شارعٌ في مخيماتها، حاراتها، ومدنها، من صورةٍ لشهيدٍ، أو اسمه. أو أنواعٌ متفرّقة من العبارات التي تدعو للثورة، وغيرها التي كانت تخطّها فصائل المقاومة.
الانتفاضة
تتحدّث أمي عن تاريخ الكتابات التي كانت تُخَطّ على الجدران. تقول إنّ بدايات الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى عام 1987 تميّزت بهذا النوع من الكتابات. يقف اثنان من الملثمين، يمسك الأول ساطوراً ليحمي ظهر الآخر، الذي يمسكُ أدواته التي يكتب بها بياناً للمقاومة على جدران المخيّم.
استخدمت المقاومة في بدايات الانتفاضة الجدران لإيصال رسائلها، وبياناتها، ولإعلان أسماء شهدائها. الأمر نفسه الذي استمرّ حتى بدء الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، عام 2000، والذي لم يُفارق العمل الفدائي الفلسطيني يوماً ما.
كنّا صغاراً. عندما يرتقي شهيدٌ في إحدى الحارات، ينطلق الأطفال وفي أيديهم 'بخاخات' الألوان، يرشّون الجدران بعباراتٍ تعلّموها تحثّ على المقاومة، وتطالب بالانتقام. وفي الجانب الآخر، يقفُ الناس وبشكلٍ رسميّ، يخطّون اسم الشهيد على الجدران يرافقه اسم فلسطين واسم تنظيمه، حتى يعرِف الشخص الذي يمرّ أنّ في هذه الحارة شهيداً، فلا يغيبُ عنها ولا عن بال كلّ من يمرّ منها.
لم يترك الفلسطيني أيّة وسيلة متاحة أمامه إلّا واستغلّها في ترسيخ فكرة 'المقاومة'. بشكلٍ أساسي، كان أسلوب 'الغرافيتي'، أو الكتابة على الجدران، واحداً من أهم الأساليب المستخدمة في إيصال أفكار المقاومة، وفصائل العمل المسلّح خلال الانتفاضة، قبل نشوء مواقع التواصل الاجتماعيّ وحتى بعدها. لم يترك الفلسطينيون يوماً هذا الأمر.
ناجي العلي
تزيّن أعمال رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي، الذي اغتيل في لندن، بالإضافة لرسوم أخرى، من بينها صورة كبيرة للسيّدة فيروز، جدراناً في قرية صفا، الواقعة في قضاء مدينة رام الله.
يهدف الشابّ سند كراجة (20 عامًا) إلى إيصال رسوم الشهيد ناجي العلي إلى الناس، بشكلٍ أساسيّ، ليوصل الرسائل ذاتها التي دعا إليها العلي في رسومه، والتي تحمل أهدافاً عدّة، من بينها الدعوة للمقاومة، أو رسائل تتعلّق بالصراع العربي وصراعات الأنظمة.
المساهمة في جعل شكل القرية أجمل، وتغيير لون جدرانها، والذي يحملُ بعضها الشعارات العنصريّة، والرسوم غير المرغوبة، أيضًا. كان واحدًا من الأهداف التي حملها الشاب كراجة، والذي بدأ رحلة الرسم على الجدران منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
دعوةٌ للتمرّد. هذا ما يراه كراجة في الرسوم التي يُوصل من خلالها رسائل وعبارات تدعو للقيم التي يؤمن بها، أيضًا، تمامًا مثل عشرات الرسوم التي امتلأت بها جدران العواصم العربية، مع بدء ثورات التغيير في العام 2011، والتي انتشرت خلالها دعواتٌ لإسقاط الأنظمة، وأخرى للتظاهر. بالإضافة لاستغلال المساحات البيضاء الواسعة في الشوارع، للمطالبة بحقوق بعض الفئات.
هناك ترابط كبير ما بين الواقع والجدران. يقول كراجة، الذي يهتم بشكلٍ ما لجعل الرسوم التي يخطّها على الجدران تلامس الواقع من خلال نقل قضاياه الأساسيّة. كما يؤكد وجود اهتمام عامّ لدى فنانيّ الغرافيتي في فلسطين بنقل قضايا الشعب المقاوم للاحتلال من خلال الجدران. السعي إلى ترسيخ صور الشهداء، في ذاكرة أبناء فلسطين، جعله يهتم كثيراً برسم أبناء قريته على جدرانها.
جدار الفصل العنصري
في محاولةٍ لاستغلال المساحات الواسعة، التي يأخذها جدار الفصل العنصريّ، والذي يمنعُ أحلام الناس ويقطع عليهم المسافات للوصول لأحبائهم وأقربائهم في مناطق الضفة الفلسطينيّة. أصبح الجدار الواسع الذي بدأ الاحتلال بإنشائه في العام 2002 ليكسر الناس، أكبر معرضٍ فنيّ تشكيليّ، حسب وصف الكثير من الفنانين والصحافيين.
لم يكُن هذا المعرض، مقتصراً على فناني الشعب الفلسطينيّ فقط. إنما استغلّه العشرات من الفنانين العالميين، بينهم الفنان الفرنسيّ ستيفن سيفا، الذي رسم صورةً للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وأخرى للشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش.
الجدار يمنع حياتهم، ويترك آمالهم وحيدة بعيداً عن الواقع الذي حاولت اقتصاصه كتلة الاسمنت الكبيرة، والتي تمتدّ على مساحاتٍ واسعة في أراضي الفلسطينيين. لكن صورة الطفلة التي تحمل بالونًا تحاولُ الطيران من فوق الجدار، والأخرى التي تصعد سلّماً مرسوماً على الجدار في محاولةٍ ثانية لتخطّي هذا الحاجز، تعبّر عن أحلامهم التي لم تجعلها كتلة الاسمنت، تذوب صبّاً فيها. إنّما حرّكتها بشكلٍ أكبر، وأكدت أنّ الفلسطينيّ يحوّل كلّ وسيلةٍ يحاول الاحتلال قتله فيها، أو منعه من الحياة، إلى وسيلةٍ أخرى، إن لم تساعده في الحياة، فهي تساعدهُ في رسم أحلامه.
 
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد