قضايا وآراء » في ظل التحولات الدولية والفرص المُتاحة: نحو شراكة ألمانية ـ إيرانية؟

بشار اللقيس

تشكل الهيمنة، شأنها شأن المشروعية، ركناً مهماً في الصراع على التوازن العالمي. يؤدي الإخلال بإحداهما غالباً لانفلات توازن العنف واندلاع نزاعات غير معلومة المآل. كمثال، أحدث تحرير الصين الشعبية من الهيمنة اليابانية، نوعاً من الخلل في التوازن الدولي. لم يكن الاعتراف بالصين، بالنحو الذي هي عليه اليوم، ليمضي من دون ارتدادات في الشرق وفي الغرب. أواخر الأربعينيات من القرن الماضي عززت فرنسا من وجودها في جنوب غرب الصين من خلال تعزيز قواتها المنتشرة على الأراضي الفيتنامية. إلى الشمال الشرقي لم تكن القسمة بين الشرق والغرب واضحة كل الوضوح. دعم الاتحاد السوفياتي كوريا الشمالية قبيل دخول الصين. مع عبور القوات الأميركية خط عرض 38، صارت المسألة الكورية مسألة صينية بالدرجة الأولى. لم تؤيد القيادة السوفياتية مذاك الحلفاء الكوريين تأييدا مطلقا. من تحت الطاولة لم يكن ستالين ليتمنى انتصاراً صينياً سريعاً وهو ما استشعره ماو غير مرة. مطلع الستينيات، وعلى إثر إعلان الصين نجاح تجربتها النووية الأولى، شاع الحديث عن اتصالات سوفياتية أميركية لتنفيذ ضربة نووية مشتركة للصين. كلّفت هذه التسريبات جمال عبد الناصر أشهراً ثلاثة وهو يدق أبواب موسكو، طالباً ضمانات من الاتحاد السوفياتي كيما يُقدِم السوفيات على مثل هذه الخطوة.
خلاصة الأمر، كان لولادة الصين الشعبية الأثر في إعادة ترسيم نظام الهيمنة الثنائي في جنوب شرق آسيا. بُعيد تحول الصين لقضية، ظهر أن ثمة جزءاً كبيراً من أنظمة دول العالم الثالث كانت قد فقدت ثقتها بنظام الثنائية العالمي. تجربة &laqascii117o;دول عدم الانحياز" كانت تعبّر عن مساحة من عدم القناعة بالقسمة الحادة بين الشرق والغرب. كان عبد الناصر مقتنعاً في غير موضع بأن توازن المشروعية والهيمنة هو ما يشغل بال السوفيات والأميركيين. في تشيكيا العام 1969، آثرت الولايات المتحدة حفظ الهيمنة الروسية تاركة لهم دوبتشيك. في تركيا العام 1972، آثر السوفيات دعم القوميين ضد الشيوعيين لحفظ مصالح الأميركيين وكيما يختل توازن الأطلسي. لقد كانت المسألة أكثر سيولة من القسمة الايديولوجية المفترضة بين الشرق والغرب، وهي تبدو اليوم أكثر سيولة مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
لا يعيش عالم اليوم حالة مكتملة الرؤية في تحديد مجال الهيمنة والتوازنات كما في تحديد طبيعة المخاطر والأزمات. تتحمل الولايات المتحدة جزءاً كبيراً مما وصل إليه عالم اليوم. إن حالة السيولة التي يعيشها العالم منذ أواخر الثمانينيات، هي أحد إفرازات سياسات الولايات المتحدة التي لم تشأ الاعتراف بمشروعية القوى العالمية التقليدية في ملئها فراغ انهيار الاتحاد السوفياتي. في الآن عينه، يمكن اعتبار حالة السيولة هذه أحد نتاجات الهيمنة الأميركية التي لم تحدد أطراً ممأسسة لها. فبرغم تغني الولايات المتحدة بنظام السوق وقيم الديموقراطية، ظلت الأنظمة القمعية والرجعية حليفة لها من تايلند وحتى المغرب العربي. لقد كشفت الأحداث منذ أزمة تيانمن الصينية العام 1989، عدم وضوح رؤية الإدارة الأميركية في تعاطيها مع مسائل ثلاث؛ في تحديدها المستوى القانوني للدولة ـ الأمة كحيّز سيادي، في ترسيم جدل الداخل والخارج وآليات الضغط في أي تحوّل دولي، ثم في تحديد نظاق الأولويات وآليات التعاطي والضغط الجديد. هكذا مارست الحكومة الصينية في تيانمن سيادتها المطلقة من دون أن يستفز ذلك الولايات المتحدة والغرب. أما في شرق أوروبا فكانت أولوية الولايات المتحدة احتضان ألمانيا إلى درجة إعاقتها عن أي نهوض. منتصف التسعينيات باشرت الولايات المتحدة بنشر الدرع الصاروخية بغية تحقيق هدف مزدوج. من جهة هي أرادت تضييق الخناق على روسيا، ومن جهة أخرى هي أرادت احتواء الامتداد الألماني في كل من بولندا، النمسا، تشيكيا، وصولاً إلى غرب البلقان. الدخول المجتزأ، في ما بعد، لكل من تشيكيا، بولندا، والمجر لمنظمة حلف &laqascii117o;شمال الأطلسي" زاد من ميوعة الحيز السياسي هناك. لم تكن مسألة ضم هذه الدول سياسية بقدر ما كانت اقتصادية، لقد كان المركب النفطي العسكري في الولايات المتحدة طامعاً باقتصاديات شرق أوروبا، لكن انعكاسات ضم تلك الدول أفضت لخلل داخل توازن الأطلسي.
مجالان حيويان أظهرت أميركا فيهما حالاً من الارتباك؛ شرق أوروبا ووسط آسيا. في الاثنين تبدو الولايات المتحدة وكأنها تتعاطى مع نظام مؤقت ومرحلي. هي تريد في الأولى اعتماد براغماتية المواجهة مع روسيا واحتواء الدور الألماني، أما في الثانية فلا يبدو أنها متجهة للاعتراف بالمصالح الطبيعية لدول القلب هناك، كما للاعتراف بأي دور للدول المطلّة على قلب القارة الآسيوي. ومع افتقاد العالم القديم للتماسك الذي ينبغي أن يكون عليه، تبدو سياسات الولايات المتحدة كبريطانيا، إبّان القرن الثامن عشر، هي تحاول تسعير الصراعات في عالم اليوم. ثمة قناعة لدى الإدارة الأميركية بأن ما من طرف سيكون قادراً على الهيمنة بغير الدعم الأميركي. وبالمثل أيضاً، ما من طرف سيغدو قادراً على الحسم في ظل الوجود الأميركي. بحسب كيسنجر، ليست المسألة الأميركية حالة استثنائية في التاريخ السياسي. فرنسا نفسها بعد مرحلة &laqascii117o;وستفاليا" لعبت دوراً مشابهاً؛ سعى الفرنسيون آنذاك للحؤول دون توحد أوروبا الوسطى. على مدى قرنين من الزمن، ظل هدف السياسات الفرنسية إبقاء أوروبا في حال من التخبط والصراع. دعمت فرنسا الكاثوليكية، في وقت من الأوقات، تحالف أمراء هابسبورغ البروتستانتي. ثم عادت لتؤيد إقحام جيش الإمبراطورية الرومانية &laqascii117o;الكاثوليكي" في الحرب. أسست تلك الحرب لقرون تلت، ظلت معها أوروبا حتى قيام الامبراطورية البروسية رهينة السياسات الفرنسية ـ البريطانية. بالمثل تبدو أميركا اليوم. مع عوامل مضافة، ستؤهلها للذهاب بعيداً في تأجيج العنف في ضفتي العالم القديم. وحدها بروسيا قديماً أعادت رسم معالم النظام الدولي، ووحدها ألمانيا اليوم، وريثة بروسيا، قادرة على الفعل نفسه. يبقى أن ثمة مقاربة مختلفة للواقع الإيراني، تفرضه وقائع الميدان وإرادة إيران في نزع اعتراف مشروعية حضورها في الواقع الدولي.
كعبد الناصر والصين أواخر الخمسينيات تبدو حال إيران وألمانيا اليوم، تحاول كل منهما ـ وإن اختلفتا ـ الخروج من نظام الهيمنة الدولي. تقاتل ألمانيا من أجل حفظ حافتها المشرقية من الهيمنة الروسية والأميركية. أما إيران فتواجه على غير جبهة من أجل نزع اعتراف العالم بمشروعية وجودها كدولة وقضيّة في آن. تَعتبر الدولتان السنوات العشر الأخيرة بمثابة مخاض ولادة النظام الدولي الجديد. لقد استشعر الألمان في أحداث أوكرانيا العام 2005 أن الأميركيين يدفعون قوى الأوراسيا نحو مزيد من الاقتتال. بعيد وصول ميركل لسدة الحكم العام 2005 لم يبدِ الألمان الكثير من الحماسة للسياسات الأميركية بالنحو الذي أبداه الفرنسيون. أما الإيرانيون فلا زالوا مقتنعين بأن خسارة &laqascii117o;إيران ـ القضية" سيؤول بهم لخسارة &laqascii117o;إيران الدولة ـ الأمة". وبالضد مما يقوله كيسنجر في كتابه &laqascii117o;النظام العالمي"، لا تبدو الولايات المتحدة عابئة بحفظ الحيز القانوني لأي دولة أو أمة. هي لم تعترف أصلا بالدور الإيراني في طاجيكستان. وبرغم الجهد الإيراني طيلة مرحلة الحرب الأهلية هناك من أجل التوفيق بين أطراف النزاع، سلّمت الولايات المتحدة طاجيكستان مرة أخرى لروسيا في الاتفاقية العامة للسلام والوفاق الوطني في طاجيكستان العام 1997.
ثمة عالم يتحول اليوم، وقد لا تصح قراءة الواقع بذهنية عالم ما قبل سقوط جدار برلين. لقد أفضى تحليل الوقائع وفق خرائط تحالفات المحاور قديماً لمآلات غير محمودة الحال، وهو سيفضي اليوم لنتائج أكثر كارثية على مستوى تحديد المخاطر وقراءة الواقع السياسي. خطاب &laqascii117o;البريكس" كمثال حي، وبعيد سنوات من التعويل عليه بات أكثر مدعى للنقد إذا ما رصدنا تباين شركائه في غير موضع منذ تعثر توقيع موسكو وبكين تفاصيل اتفاق غاز سيبيريا العام 2014، بُعيد زيارة الرئيس بوتين لبكين. وهو يبدو اليوم أقل وهجاً مع الحديث عن تباين الأولويات الاقتصادية لشركائه وتعثر الاقتصاد البرازيلي. ليس مطلوباً اليوم من ألمانيا ولا من ايران الاتفاق على خريطة سياسية مشتركة بقدر ما يستوجب الواقع تحديد خريطة طريق، يتطلع من خلالها الطرفان لتحديد أولويات المصالح ومكامن النزاع في ما يخص كل منهما. مسألة الأكراد قد تكون أولوية بالنسبة للإيرانيين. الهجرة غير الشرعية من وسط آسيا باتجاه شرق أوروبا قد تحمل في طياتها الكثير بالنسبة للألمان. الاتفاق النووي إذا ما قُرئ كفرصة للتعاون في البدائل يمكن أن يحمل مشاريع لبحث إمكانية تطوير الطاقة البديلة بين الطرفين. المشروع الصاروخي الإيراني بات على عتبة الانتقال نحو تقانيات الفضاء، وهو قد يكون محط اهتمام شركات بريمن لتقنيات الفضاء الألمانية. أما قزوين كمجال للاستثمار، فهو يختصر على الألمان البحث في بدائل الحضور العسكري ـ غير الخلّاق ـ لـ&laqascii117o;الناتو"، في المنطقة الممتدة من البلقان إلى الهند. لقد تعلم الألمان من التجرية النازية أن ما ينبغي الوصول إليه قد لا تكون آلته الحرب فحسب. وهم اليوم الأقدر على فهم التحولات الأوروبية وما يحيط بها. لا يبدو &laqascii117o;الناتو" متماسكاً حتى بعيد تطمين أوباما لحلفائه الأوروبيين في وارسو. وهم سلفاً يعرفون، أن من لا يستثمر في فرص اليوم في الشرق، قد لا ترحمه وقائع الآتي في الغرب.

المصدر: جريدة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد