افتتاحيات » الجزيرة توبّخ العدو بلباقة

عروبة عثمان
 قبل يومين، فعلت «الجزيرة» الشيء ونقيضه. تصدّت للتطبيع ومارسته بحذلقة في آنٍ واحد. نشرت المحطّة تقريرًا عمّا أسمته «التطبيع الناعم» الإسرائيلي، تعالج فيه مخاطبة بعض الشخصيات الصهيونية للجمهور العربي عبر منصات التواصل الاجتماعي. آثرت القناة أن تُرخي نفسها للخيبة ذاتها، فاستضافت الناطق باسم جيش العدوّ، أفيخاي أدرعي، كمعقّب على التقرير. ربما لا تعترف «الجزيرة» بأيّ موقعٍ ازدواجي لها، بل يمكن لها الادعاء بأنّ استضافتها لأفيخاي أدرعي جاء كتصدٍّ لخطابه، لكنْ من مدخلها الخاص. حِجج المنطق العميق والتفسير الصعب لهذه الأفعال باتت بالمناسبة الحيلة الكسولة التي يمتطيها كثيرون، ممّن لا يملكون شيئاً سواها. لكن السؤال المشروع هنا، هل ثمّة فرق بين أن يتّخذ أحد الصهاينة صفحته مكانًا رحبًا ليطبّع «إسرائيل» في الذهنية العربية، وبين أن تأتي «الجزيرة» به على شاشتها، وتبدأ استعراضها الكاريكاتوري عليه وعلينا في آن؟ قد تبدو التقنية واحدة، وإن اختلفت الهوّيات. وقد تبدو جدوى الفعل متشابهة، وإن تفاوت قليلًا مستوى كفاءتها بين الحالتين. لا يمكن لنا التحكّم بما ينشره الصهاينة على صفحاتهم. لا يمكن لنا فرض سلطتنا عليهم. ما يمكننا فعله هو أن نخضع لسلطة صفحاتهم ونتفّهم خطابها أو أن نكسر سلطة الخطاب تلك. أمّا في حالة «الجزيرة»، فالأمر مختلف تمامًا، حيث بإمكان المحطّة التحكّم في ما تنشر ومَن تستضيف، وما يترتّب عليه من ضرورة الاتساق بين المسألتين. لكن يبدو أنّ «الجزيرة» تعتبر فتح أثيرها للشخصيات الصهيونية حربًا نفسيَة من الطراز الرفيع. ماذا يعني أن أرفع صوتي على أدرعي أو غيره، وأحاول توبيخه بطريقة لبقة؟ وماذا يعني أن أرفع سقف موهبتي وبراعتي في استفزازه إلى حدّه الأعلى؟ وماذا يعني أيضًا أن أجلس قبالته، وأبدأ بقول كلامٍ أعرف سلفًا أنه سيتنكَّر له ولن يعجبه، لكنّه سيلتف عليه ويفنّده بطريقة ذكية؟ وهل يمكن لنوع الرسالة ومضمونها أن يتغلّبا أصلًا على فكرة التعامل مع العدوّ؟
كلّ ذلك لا يعني بطولة منقطعة النظير أو شجاعة أبدًا، كما تحاول «الجزيرة» تصويرها. إنّها لا تحتمل أيّ معنى إلا التطبيع، بدون أن نصنّفه بين ناعم أو خشن. إنها أيضًا لا تحمل أيّ جدوى لصالحنا، فلم نكسب من وراء التقريع المضحك لأدرعي على الهواء مباشرة أيّ ملمح من ملامح طرد واقعنا الفلسطيني المفروض علينا، والتعويل على غدنا كما نراه. إنها لا تعني أبدًا الانتقام لنا، بل منّا.
ما فعلته وتفعله «الجزيرة» هو عكس ذلك تمامًا. إنّها بذلك تكسر الحاجز تدريجيًا، وتجعلنا نتقبّل وجوه الصهاينة على الشاشة ونعتاد عليها. كما تولّد لدينا بذلك شغفًا خاصًا بالاستماع للفعل وردّ الفعل من الطرفين. إنّها أيضًا تؤسّس لنظرية جديدة تقضي بأنّ تجريم التعامل مع العدوّ نسبي، وأن معايير التطبيع زئبقية تتحدّد بموجب نوع الرسالة ومضمونها وهوّية صاحبها.
معظم مَن انتقد سلوك «الجزيرة» الأخير، قفز عن السياسة العامة للمحطّة، واتخذ من راهنية الحدث رافعة أساسيّة للنقد. تمامًا كمن يعترف بالنتيجة ويشيح بنظره عن المكوّن الأمّ. بمعنى هل كان التقرير سيمرّ على خير، لو لم تتبعه المحطة باستضافة أدرعي؟ هل كنّا سنسمع همسًا ولو خفيفًا إن اكتفت «الجزيرة» بالتقرير، على الرغم من أن عرضها للتقرير كافٍ لإدانتها؟ إنّه كافٍ لإدانتها على اعتبار أن ذاكرتها تحفل بما اعترضت عليه في التقرير، فلطالما استضافت صهاينة قتلة حتى باتت الاستضافة روتينًا لا مفرّ منه.
لنسأل سؤالًا آخرَ هنا. هل التحذير من أدرعي ويؤاف مردخاي، منسّق الشؤون المدنية والتنسيق الأمني في الضفة، حين يهنئاننا بأعيادنا ويدّعيان متابعتهما لشكاوانا كفلسطينيين، كما جاء في التقرير، أكثر إلحاحًا من فتح الهواء العربيّ لهما؟ الإجابة هنا واضحة، إذ إنّ كثيرين لا يأخذون مردخاي وأدرعي وغيرهما على محمل الجدّ، بل يدّعون أن لعبتهم باتت مكشوفة، لكون الفلسطينيين يمتلكون وعيًا فطريًا بالعداء. لكن بالمقابل، لا يمكن لنا إنكار تمتّع «الجزيرة» بالصدقيّة عند كثيرين، واستساغتهم كل ما تبثّه على شاشتها.
قبل عامين، كانت الساعة تشير إلى الحرب الإسرائيلية على غزّة، وكان الدمّّ ينسكب على الأرصفة بلا حساب. كان صوتا المذيعة غادة عويس وضيفها أدرعي يخترقان آذاننا، وهما يتصارعان علينا. أدرعي كان يقول إن دمّ أهل الشجاعية في رقبة «حماس»، فيما عويس كانت ترفع صوتها وتقول عكس ذلك تمامًا. معركة دونكيشوتية لا تهمّنا. إلى أن سقط صاروخ آخر بجوارنا، فانقطع البث ولم نعد نسمع صدى صوتيهما.
المصدر: صحيفة السفير ـ  صوت وصورة ـ تاريخ المقال: 07-12-2016

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد