أخبار دولية » سنودن بعد 6 سنوات من «التسريب الأكبر»: كأن العالم لم يتغيّر...

بعد ستّ سنوات من حدوث التسريب الأكبر في التاريخ، لم يتغيّر العالم كثيراً، أو لعلّه تغيّر إلى ما هو أشدّ قتامة. يمكن استخلاص ذلك من جملة مؤشرات، مثل انتخاب دونالد ترامب رئيساً مثلاً، أو حتى صعود حركات اليمين في العالم، في مقابل انحسار حركات اليسار: البرازيل مثالاً. لكن تعويل إدوارد سنودن، أحد أشهر المسرّبين في عصرنا، والموظف السابق لدى وكالَتي الاستخبارات المركزية والأمن القومي الأميركيتين، لطالما كان منْصبّاً على قدرة هذه الأحداث على تغيير الوعي أو ربما تصويبه نحو هدف محدد: التنبّه من الحكومات التي تتجسّس على مواطنيها. كشف سنودن في عام 2013 عن وجود منظومة مراقبة شاملة للتجسّس على الناس في جميع أنحاء العالم. كشفٌ لا يزال يدفع ثمنه لغاية الآن، بعد اتهامه من قِبَل وزارة العدل الأميركية في ذلك العام بثلاث جنايات، من بينها «انتهاك قانون التجسس» لعام 1917، وسرقة الممتلكات الحكومية. في حوارٍ مع فاليريان غوتييه لـ«فرانس 24» يُعرض يوم الاثنين المقبل في الساعة 8:40 بتوقيت باريس، وتنشره «الأخبار» في عددها اليوم بعدما خصّتها به القناة، يجيب سنودن عن أسئلة محاورته: ما الذي تغيّر بعد ستة أعوام على فضيحة التجسس التي لحقت بوكالة الأمن القومي؟ هل لا تزال الوكالة الأميركية تتجسّس على المواطنين والقادة في جميع أنحاء العالم؟ هل يجري سماع وتسجيل المكالمات الهاتفية ومكالمات الإنترنت؟ هل تقوم الشركات العملاقة بحماية البيانات الرقمية للأفراد كما تدّعي؟

لم تكن فضيحة وكالة الأمن القومي الأميركية التي كشف عنها إدوارد سنودن في عام 2013، حدثاً عابراً. تلك قد تكون إحدى المحطات الأهم في التاريخ الحديث، خصوصاً أنها جاءت لتستكمل ما بدأه «ويكيليكس» في عام 2010، أي تحكّم المنظومات والقوى الكبرى ليس في مفاصل الأحداث وحسب، بل في حياة الأفراد أيضاً. «الحرج» الذي سبّبته منظومة التجسس التي أدارتها وكالة الأمن القومي أدى إلى إعادة النظر في هذه البرامج، ولكن «ليس بالطريقة التي كنا نرغبها»، يقول سنودن. لم تُجرِ الوكالة مراجعة عميقة ومنهجية، ولكنها بدلاً من ذلك، غيّرت في القوانين، إن كان في الولايات المتحدة أو في مناطق أخرى من العالم. تغييراتٌ من شأنها أن «تشرعن عملية المراقبة بالاستناد إلى أسس قانونية». بعد إقرار «قانون حرية الولايات المتحدة الأميركية»، أقدمت الحكومة الأميركية، بهدف المحافظة على مستوى التجسس ذاته، على إبرام «عقد شيطاني» مع شركات الاتصالات، إذ اعتبرت «(أننا) كحكومة لم نعد نودّ الاحتفاظ بهذه المعلومات (برنامج وكالة الأمن القومي للمراقبة الجماعية الشاملة للمراسلات والمحادثات الهاتفية)، ولكن أنتِ أيّتها الشركات، عليكِ الاحتفاظ بكل البيانات والمعلومات الخاصة بالمشتركين، وإذا أردنا بيانات شخص ما، فأنتِ ستعطيننا إياها». من ناحية ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى الأشخاص العاديين، فإن الحكومة لا تزال تتجسّس على كل من تريد التجسّس عليه، وعلى نطاق متطرف جداً. ولكن «بات لدينا الآن مشاركة أكبر، وإن قليلاً، من قِبَل القضاء... إنه تقدمٌ، لكنه ليس قريباً حتى مما نطمح إليه»، يضيف.

في عام 2013، أشار سنودن إلى أن خوفه الأكبر هو من ألا يتغير أي شيء بعد التسريبات... «هل تشعر بأن شيئاً تغيّر الآن؟»، تسأله غوتييه. الجواب هو «نعم». لكنه يوضح أنه كان يتكلّم، حينذاك، في سياق «القصة الشاملة المتعلّقة بالتجسّس وجمع المعلومات وملفات التعريف للحياة الشخصية لكل واحد منا». وما حدث بعد ذلك «أن كل محاولات الحكومة لإخفاء المعلومات وشرح انتهاكاتها» أدت في الحقيقة إلى تسليط الضوء على هذه القضية، وتالياً مزيد من الاهتمام من قبل الرأي العام. من هنا، يخلص إلى أن «الجميع بات، الآن، يفهم بصورة عامة ما يجري. لكن مشكلة أن يكون هناك فهم عام لشيء تقني ومعقّد ليس كافياً لتحمي نفسك. الذي تغير حقيقة، اليوم، أن الجميع بات مدركاً، مثلاً، أن فايسبوك ليس جيداً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى غوغل. هذه الشركات تسعى إلى خلق تأثير، ليس في مجتمعاتنا وحسب، بل في حياتنا وعاداتنا، وحتى في سلوكياتنا».

من جانب آخر، يؤكّد سنودن أنه لم يعد في حوزته أي وثيقة سرية من الوثائق وعددها مليون و700 ألف وثيقة، فهو دمّر نسخته من الأرشيف قبل مغادرته هونغ كونغ في عام 2013، لأن «الطريقة الوحيدة لحماية هذه المعلومات كانت عدم الاحتفاظ بها على الإطلاق، والوثوق بالصحافيين في شأن ما الذي يجب نشره وما يجب حجبه». يوضح، في هذا السياق، أنه لن تكون هناك تسريبات جديدة، «لكن ما أودّ رؤيته في السنوات المقبلة هو المواد الأولية التي لم تُنشر، والتي قد نضعها في عهدة مؤسسات أكاديمية تنشر بطرقٍ تختلف عن الشبكات الإخبارية أو حتى الصحافة المطبوعة».

لدى الانتقال إلى مسألة البيانات المشفّرة، يؤكد سنودن أنه «من دون التشفير القوي، لا أستطيع التواصل مع الصحافيين». لكن التشفير لا يجيب على كل المسائل الأمنية، وفق ما يشير. ويعطي مثالاً أنه «حين نتحدّث عن التواصل عبر تطبيق «مسنجر» مثلاً، فإن قمتم بإرسال رسالة مشفرة، فهذا أشبه بانتقال شاحنة مصفّحة من مكان ما إلى منطقة أخرى. نحن لا نعرف مضمون هذه الشاحنة، لكن نعرف مكان الانطلاق ومكان الوصول. وتالياً، نَعرف بمَن اتصلت، وهو ما يؤثر في حياة المواطنين الذين يستخدمون هذه التطبيقات. وبالتالي، نحن لا نستطيع قراءة الرسائل مباشرة، لكن نستطيع أن نعرف كل شخص تحدَّثت إليه، وتواتر هذه المحادثات. من هنا، نستطيع وضع مخطّط بياني اجتماعي عنك، وعن كل من يستخدمون هذه المنصة، وهذا يشمل عدداً ضخماً جداً في العالم، وهو أمر خطير جداً... لا ينبغي له أن يكون قانونياً».

المَنفى
أكثر ما يفتقده سنودن في المنفى الروسي، حيث يعمل محاضراً لحساب شركات وجامعات، أسرته. هذا ما يؤكّده، مع إشارته إلى صعوبة «أن تكون بعيداً عن موطنك... وهو أمر متواصل منذ ست سنوات». «جاءت العائلة لزيارتي في روسيا، لكن لا أستطيع بدوري القيام بذلك، وهذا أمر محزن. أنا موجود في موسكو، لأنه ليس لدي أيّ خيار آخر، هذا ما أقوله لهم... ولكن بفضل التكنولوجيا، أستطيع أن أتواصل مع جميع أنحاء العالم... وهذا الأمر لم يكن ممكناً في الماضي، وهو يحدّ حالياً من وطأة المنفى كسلاح في أيدي الحكومات من أجل إسكات المنشقّين». يقول إنه لا يزال يتوخّى الحذر في تنقلاته، وإنه يقوم بذلك منذ فترة طويلة جداً، «إلى درجة أنني لم أعد أفكر في ذلك». أما حياته، فهي «عادية»، كما يصفها، «لكنني لا أستخدم أبداً البطاقات المصرفية الائتمانية. إن قمت بذلك، فعليّ أن أعطي عنواني وأفصح عن اسمي الحقيقي. وكما تعرفون، فإن الوكالات تنهب هذه المعلومات لتعرف التفاصيل الصغيرة في شأن حياتنا الخاصة. المخاطر موجودة، ولكني أتعايش معها».

ولدى سؤاله عن احتمال تسليمه للولايات المتحدة، يؤكد أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إزاء ذلك: «سيكون أمراً لا سابق له في التاريخ». وما إذا كان سيحظى بمحاكمة عادلة في حال تسليمه، يقول: «جاء اتهامي بموجب قانون غير عادي، هو "قانون مكافحة التجسس" لعام 1917. بموجب هذا القانون، لا يمكن المتّهم أن يدافع عن نفسه أو أن يشرح لهيئة المحلّفين أسباب عمله أو الفعل الذي قام به. وهناك إجراءات محاكمة غريبة تتيح الجلسات المغلقة والتقدم بشهادات سرية... إن المحاكمة الوحيدة الممكنة بموجب قانون كهذا، هي ألّا يستطيع المتهم أن يشرح سبب فعلته، وهذا طبعاً لا يشكل محاكمة عادلة».

لا يزال لدى سنودن أمل بأن يعود إلى بلده «في نهاية المطاف»، لأن هناك «أموراً ستتضح سنة بعد أخرى». يشير إلى أنه حين اتخذ قراره اللجوء إلى موسكو في عام 2014، فإن جميع من هم في عالم السياسة الأميركية تحالفوا ضده وضد الصحافيين الذين سرّبوا المعلومات. معلوماتٌ كانت «تتّهم كل الفروع الحكومية المنخرطة في أنشطة إجرامية لم تحدث فقط داخلياً، ولكن كانت تحدث في جميع أنحاء العالم. وهذا كان يمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان، هذا كان يحدث مليارات المرات يومياً. في الماضي الذين حاولوا شيطنتي، إذا جاز التعبير، كانوا يريدون النيل مني، عبر اتهامي بأني جاسوس صيني أو روسي. ولكن إذا نظروا في ما فعلت وعرفوا ما قامت به حكومتهم، فإن ما فعلته لم يهدد بالخطر حياة الناس، بل أنقذ حياتهم».

بطاقة تعريفية

إدوارد سنودن (1983) هو عميل سابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»، ومتعاقد تقني سابق لدى وكالة الأمن القومي «NSA». اعتباراً من عام 2013، صار اسم سنودن معروفاً على نطاق عالمي، بعدما كشف، من خلال أضخم تسريب في التاريخ، كيف تتجسّس وكالة الأمن القومي على العالم كله، عبر اتباع ممارسات غير قانونية تنتهك الخصوصية، مثل التنصت على الهواتف وإمكانية الدخول إلى حسابات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بأي شخص في أي مكان في العالم. بعد حصوله على الوثائق، غادر سنودن الولايات المتحدة متجهاً إلى هونغ كونغ، حيث التقى الصحافي الاستقصائي، غلين غرينوالد، الذي كان يعمل حينها مراسلاً لصحيفة «غارديان»، التي نشرت الوثائق.

جريدة الاخبار

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد