خاص » قراءة في المشروع الأسود.. المال الصهيوني وتخريب الوعي العربي

"صراعنا مع إسرائيل حقوقي".. "المشروع الإمبريالي الفارسي".. "دور حزب الله في سوريا".. "سيطرة الحوثيين على اليمن".. "غزو العراق".. "العربي السني يتقبل اليهودي واليهودية لكنه يمقت الشيعة".. "التعاون الخفي بين إيران وإسرائيل" لافتات تلخص كتاب "المشروع الأسود"، لكاتبة مصرية متخصصة في الشأن الصهيوني، وتحظى بدعم لافت وقوي، في إعلام الصوت الواحد النظامي بمصر، تسعى في مقالات وتحليلات ـ منقولة نصًا من الصحف الصهيونية والدوريات المنشورة ـ لتثبيت نوع من الوعي الزائف بوجود مساحات مشتركة بين الصهاينة والمصريين، وفي الوقت ذاته تطعن مشروع المقاومة بقلم عربي، يتوافر له الانتشار والتلميع المناسب، بدفع من علاقات مشبوهة، تربط الحكم في مصر بالكيان المغتصب.

وفي ظل التطورات التي مثلها صعود حكم الثورة المضادة في القاهرة، بعد الالتفاف على ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير، وصرختها الزاعقة ضد كل توجهات حكم كامب ديفيد، يوم أن اقتحم المتظاهرون الشبان السفارة الصهيونية وحرقوا علمها، في مشهد ظل عالقًا بالأذهان، عادت "كامب ديفيد" للحكم، وهي تريد تأسيس طبقة أوسع من المستفيدين بالتقارب مع الصهاينة، عن طريق الاتفاقات الاقتصادية ـ الكويز وغيرها ـ والأهم: تزييف وتدمير الشخصية المصرية العربية، التي ترفض الوجود الصهيوني أصلًا، وتجذر ثقافة الاستسلام أمام العدو المتفوق!.

والحال كذلك، تبقى المقاومة وإنجازاتها في السنوات الأخيرة أضخم من الحصر أو السرد، هي حجر العثرة الكؤود في وجه مخطط نفخ البالونة الصهيونية في عيون المصريين خاصة، والعرب بوجه عام، فلم يعد من سبيل للظن بتفوق صهيوني ما، وصواريخ المقاومة خلال الأيام الأولى من شهر أيلول/ سبتمبر الحالي تسببت في شلل نصف مساحة فلسطين المحتلة، ثم جاءت ضربة حزب الله كاسحة لكل وساوس الشيطان ونعيقه عن دولة فائقة التطور والتسلح، وإذا أمامنا تمر على الشاشات صورة نفر من رجال الله، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ينفذون وعد سيد المقاومة، سماحة الأمين العام حسن نصر الله، بالثأر لشهداء الحزب، وفي وضح النهار، وبقلب فلسطين المحتلة، وينسحبون بسلام آمنين، ويبتلع الكيان اللطمة العنيفة في عجز وذل شديدين.

عودة إلى 1400 عام

ما من سبيل للاعتراف بالتفوق الصهيوني، إلا بمقاربة طائفية حقودة، ضد الجمهورية الإسلامية، تعيد فتح كتب الأمويين، ونقل سمومها، وإعادة طلائها لتناسب العصر الحالي، فالإيراني شيعي، يبتغي السيطرة على العالم السني، وهو غير عربي، ينظر بطمع للخليج والعراق، والكاتبة تنقل بحبر شيطاني أكاذيب صرعتها القرون عن دين ضد الإسلام، وبالتالي تحاول نقل كل الاهتمام العربي من فلسطين الواقعة في قلب العالم العربي بالضبط، جغرافيًا ودينيًا، إلى إيران، الجار الأقرب للوطن العربي.

وكل صفحات الكتاب تنضح بالدعاوى الطائفية المقيتة، التي طالما روجتها أبواق خليجية مدفوعة الأجر، بداية من كذبة سب الصحابة إلى فرية الهجوم على النبي من جانب فقهاء الشيعة! والمقابل بالطبع كان تمجيد التمسك الصهيوني بمصادر دينهم، أول الأديان الإبراهيمية، في سياق تمرير فكرة القبول بالغريب الأبعد ـ اليهودي ـ ورفض المسلم القريب ـ الشيعي ـ وهو اجترار للفتنة وتجارة فيها.

بدأت الكاتبة ما خطته يداها بالإثم والعدوان، فعقدت مقارنة بين الصهيونية المسيطرة على كيان العدو، بتفسيراتها التلمودية المخاصمة لليهودية، وفكرة الولي الفقيه الحاكمة للجمهورية الإسلامية، وهي كما يقول عنوانها دولة إسلامية تجتهد في نقل فهم الأئمة للتطبيق في عصر جديد، وتشهد تجربتها الديموقراطية على ثراء هائل ـ سواء بالتجربة أو التطبيق ـ فعرفت بعكس كل دول العالم العربي تداولًا سلميًا للسلطة، بين رؤساء عشرة، ومجلسًا للنواب يأتي معبرًا عن اهتمامات الشارع، وتجربة تنموية هي الأنجح في الإقليم كله، وشواهد قوتها حاضرة في قدرة على تخطي آثار الحصار الأميركي المستمر لعقود طويلة، ورغم افتقادها لآليات التبادل التجاري الحر مع العالم، والحصار العربي المكمل للأميركي، فقد استطاعت تحقيق شرطي الكفاءة والعدالة، في مجتمع فوار بالحيوية، يخرج للمظاهرات، ويعمل بكد، ويبدع في امتلاك تكنولوجيا محلية، أثبتت تفوقًا هائلًا على غيرها، وكلها بإمكانات محلية محضة.

أمّة مقابل مشروع

الغريب في أمر المقارنة التي عقدتها الكاتبة، كان تخصيص أغلب فصول كتابها للحديث عن تاريخ إيران مقابل تاريخ الكيان، ولا يعلم أحد هل من المنطق والعلم مقارنة دولة قامت واستمرت لألوف الأعوام، وتركت في التاريخ علامات شاهقة، منذ الألف الثاني قبل الميلاد على الأقل، بطول الهضبة الإيرانية وعرضها، وبين كيان شيطاني، قام بوعد بريطاني، ونتيجة لاتفاقية بين مستعمرين (سايكس ـ بيكو).

لكن للتغلب على الأزمة تعود الكاتبة للخلف سنوات طويلة، تذكر بالتفصيل الممل حكاية بني إسرائيل، انتهاء بالشتات في عهد الإمبراطور الروماني تراجان، ثم تقفز ألفي عام، بدون سابق إنذار، وتستمر في سرد حكايتها، التي تقول إنها تاريخ هذه البقعة من الأرض، وكأن شعبًا لم يوجد قبل دخول يوشع بن نون إلى فلسطين، ثم ترويج القصة الصهيونية عن أرض الميعاد، بعبارات منمقة، وإيحاء بفراغ سيطر على المنطقة، أو أنها جُمدت تمامًا لعشرين قرنًا، حتى عاد الصهاينة إليها.

جمال حمدان: غزو بالإثم والعدوان

وفي هذه النقطة تحديدًا، من الأفضل العودة لأحد أفضل العقول المصرية المستنيرة في التاريخ الحديث، العالم العبقري جمال حمدان، جغرافي مصر الأول، ومفكرها الكبير، وهو قدم منذ أربعين عامًا كاملة رؤيته عن قيام الكيان الصهيوني، في كتابه الأهم "اليهود إنثربولوجيًا"، وفند فيه بفكر العالم وجهد الباحث ورشاقة قلمه المميزة، أي ـ وكل ـ وهم حول انتماء الصهاينة الحاليين لـ"بني إسرائيل" القدامى، وقال إن الغالبية الساحقة من مغتصبي فلسطين حاليًا لا ينتمون بأي شكل إلى العبرانيين القدامى.

ويقول "حمدان" في كتابه، الذي كتب مقدمته المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري، "لقد بدأ اليهود رحلاً في عصر التوراة، وظلوا رحلا في عالمِ الشتات، وككل قطعان الرحل أبوا إلا أن يعيشوا في حظائر مسورة داخل مدن الشتات"، واستخلص الكتاب في نهايته: "فليست هذه عودة الابن القديم بعد رحلةٍ طالت عبر الزمان والمكان، وإنما هي غزو الأجنبي الغريب بالإثم والعدوان".

ويقول "المسيري"، صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، في مقدمته لكتاب "حمدان" الأهم: "كتاب جمال حمدان ليس دراسة أكاديمية بهذا المعنى، وإنما هو دراسة عميقة كتبها مثقف، صاحب موقف، لا يكتب إلا انطلاقا من لحظة معاناة وكشف، وهو لا شك يتبع معظم الأعراف الأكاديمية ويستخدم كل الآليات البحثية من توثيق وعنعنة، ولكن الآليات هي مجرد آليات، والوسائل لا تتحول أبدا إلى غايات، والمعلومات موجودة وبكثرة، وربما تفوق بمراحل ما تأتي به المراجع المعلوماتية، ولكنها مجرد معلومات، فنقطة البدء هي قلق وجودي عميق أدى إلى ظهور مشروع فكرى متكامل، والهدف يظل دائما هو الوصول إلى الحقيقة وكيف يمكن تحويل الحقيقة إلى موقف".

وبالطبع ينبغي الإشارة إلى عمل "المسيري" الهائل، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الصادر في 1999، والذي يتتبع تاريخ جماعات اليهود قديمًا وحديثًا، ويعطي للعقل العربي فرصة التعرف على هذه الجماعات المشتتة، الضعيفة، التي طالما استخدمت تاريخيًا من قبل إمبراطوريات وقوى عظمى، وينسف فكرة التفوق العرقي أو العلمي للصهاينة، وهي موسوعة أضخم من تعريفها في هذه المساحة، وإحدى أهم الإضافات للمكتبة العربية خلال العقود الأخيرة.

مجتمع تلمودي

والمجتمع الصهيوني السرطاني الناشئ على أرض فلسطين المحتلة، عاش بالكراهية، ورهن استمراره بها، ابتداء من تعليم تلمودي، به كل مظاهر التعصب والانغلاق والتشدد والدموية. ويقول العلامة أسعد رزوق، في دراسته "التلمود والصهيونية"، إن "العرب في إسرائيل يواجهون مظاهر التعصّب والانغلاق والتشّدد الدّيني ، وتظهر دائماً كتابات معادية للعرب على الجدران مثل: " الموت للعرب، إسرائيل لنا، لا نريد العرب، هذه المدرسة لنا وليست للعرب، لا تنازل عن الحدود، إلى ما هنالك من جمل وعبارات تلمودية تكرّس النزعة العنصرية والعدوانية واستحضار التاريخ، وتساهم في خلق جيل يهودي منغلق متعصّب شديد التدّين بالغيبيات التوراتية والتلمودية، يسعى لترجمتها إلى واقع، فالتلمود يفسّر القدس السماوية بمفهومها الرّوحي على أساس القدس الأرضية، ويشترط لتحقيق القدس الرّوحية عودة اليهود إلى قاعدتها الأرضية".

ويضيف رزوق: "في إسرائيل مئات الآلاف من الشبّان الذين تثقفوا على تلك النزعات الدينية الغيبية، وهم يرفضون أي شيء يسمى مساواة أو عدالة مع الأغيار ويحاولون دوماً ترسيخ فكرة الاختيار والقداسة، والحدود التاريخية المقدّسة وضرورة التمسّك بالتراث، ويعمل المسؤولون الصهاينة بدأب لتشكيل الشخصية اليهودية بناء على نموذج عنصري انطلاقاً من المقولة إنّ اليهود شعب الّله المختار، وهم أسمى الأجناس وأرقاها".

تعليم "دموي"

استمرت الأكاذيب تجري عبر صفحات الكتاب، فلا تدري أيها أسبق، الكلمة أم الكذبة، ومن أخطرها مساواة التعليم في كل من الجمهورية الإسلامية والكيان، ومن يقرأ نصف صفحة عن التعليم وفلسفته في الكيان، لن يخرج غير بنتيجة واحدة مؤكدة، هي أنه ليس تعليمًا دينيًا، لكنه تعليم القتل والكراهية ونشر الموت، يستهدف تحويل خريجي المدارس الصهيونية إلى قتلة بدم بارد.

الاهتمام بالتعليم بدأ في الكيان قبل زرعه على أرض فلسطين، وفي "غيتوهات" أوروبا، نشطت الحركة الصهيونية في إنشاء المدارس التلمودية، من خلال هذا التعليم الديني المشبع بالغيبية والعنصرية، يقف اليهودي من الدولة التي يقيم فيها موقف اليهودي المتفّوق المقدّس المعارض للقومية الحقيقية بقوميته الوهمية التي صوّرها له الحاخامات على أنهّا حقيقة ثابتة، ويشعر أنّ من حّقه الانفصال عن سائر البشر، وفي هذه الأحياء اليهودّية المنعزلة بالطقوس والتعاليم الدينية الغيبية والعنصرية، حصدتْ الحركة الصهيونية ثمارها بعد أن حققت تأثير هذه التربية الدينية على عقلية النشء اليهودي، عبر عدة أجيال.

والخطاب الشائع لدى قادة الكيان يؤكد هذه الحقيقة، الحجة التوراتية لترسيخ الوجود في أرض فلسطين، وتجذير فكرة التمدد في أراض عربية أخرى، وتقبل فكرة الإرهاب الممارس ضد كل عربي، وفي دراسة "الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية"، للدكتور رشاد عبد الله الشامي، يقول إن محتوى التعليم الديني اليهودي وأثره في بناء الشخصية اليهودية السلبية، لم يكن فقط وراء الاهتمام بهذا التعليم، بل الأهم دور الصهيونية العالمية في توظيف هذا التعليم واستحضاره وإعادة تشكيله بما يتفق وأهدافها التوسعية والنفعية، وفرض روح الإحساس بالعزلة الشاملة والحصار الدائم على اليهودي في كل البلدان، وخلق جيل يهودي متعّصب، منغلق دينياً ونفسياً ومؤيد للغيتو الدولي الكبير "الكيان".

ويضيف "الشامي"، أن السلوكية اليهودية "الفكرية ـ الحركية" نمت وترعرعت في جو مشبع بالأفكار الدينية السلفية التي كانت ولا تزال المحور الرئيسي الذي تدور من حوله كل شؤون الحياة اليهودية، نظراً للعزلة التي عاشوها عبر التاريخ في أكثر بلدان العالم القديم والحديث والمعاصر، والتي تعتبر ركناً هاماً من أركان الديانة اليهودية. فقد ظلّت العزلة اختيارية في أوربا حتى الفترة التي أصدر فيها البابا "بولس الرابع" نشرة بابوية تقضي بعزلة اليهود إجبارياً سنة 1555 ميلادي، على الرغم من أنّ هذا الأمر لم يكن مهماً، نظراً لأنّ اليهود أنفسهم لم يكونوا ليرغبوا في الاختلاط لأسباب دينية وطقسية. وقد استمّر هذا حتى الثورة الفرنسية 1848-1850 التي منحت اليهود حقوق المواطنة، وخضعوا للقوانين الفرنسية.

التعاليم الدينية اليهودية كانت دوماً وراء هذه العزلة، لأنّها تحضُّ على الاستعلاء والتوجّس من الأغيار، وعدم الاختلاط بالشعوب وضرورة التقّيد بالقوانين والأنظمة الدينية الصارمة، وقد لعب الحاخامات والأثرياء اليهود دوراً هاماً في تكريس هذه العزلة وتعميق الشعور بالانتماء إلى عرق متضامن متفوق، فأنشأوا في أحيائهم المغلقة كلّ أسباب التعلّق بهذه التعاليم والالتزام بها، كالمعبد والمقابر الخاصة والطقوس والذبائح والأزياء الخاصّة.

وينتهي إلى أن "المعبد هو المركز الدّيني والثقافي والتعليمي والاجتماعي، وقوانين "الشولحان عاروخ" تنّظم اللوائح الأخلاقية للحياة الخاصّة، ومدارسهم التعليمية تبدأ بـ "الحيدر" وهو المدرسة الابتدائية حيث يتعّرف الطفل خلالها وهو في سن الرابعة على هويته وأسلافه ويدرّب على الاحتراز من الأغيار وعدم مخالطتهم وتزرع في عقله الباطن فكرة التفوق والاختيار والقداسة، ويتعّلم الأبجدية العبرّية وقصص أسلافه وأعمالهم المجيدة وفتوحاتهم وما أصابهم من النفي والتشريد على أيدي الكفرة، فينشأ الطفل حاقداً مؤمناً بعدالة قضيته وصحة انحداره من أعرق الأصول، وفي سن المراهقة يستّمر نظام التعليم اليهودي مع " تلمود توراة" وتتوّج بـ "اليشيفا"، الأكاديمية التلمودية التي تماثل الدراسات العليا، فيتشبّع اليهودي بالأفكار الدينية التعصبية، وتتبلور شخصيته الانعزالية المتوجسة، والمؤهلة لتقبّل ممارسة القتل والعدوان".

 

جمال عبد الكريم يوسف - خاص ميديا اوبزرفر

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد