أبحاث ودراسات » تحديات واقع وطني ضيق مقابل فضاء بث يتسع باستمرار ... الإعلام الخليجي بين الرقابة

صحيفة الحياة
«الإعلام الخليجي بين الحرية والرقابة» عنوان ورقة قدمها الزميل جميل الذيابي، في مؤتمر «الحريات الإعلامية في دول الخليج» الذي عُقد في أبو ظبي هذا الأسبوع ونظمه «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية».
تناول الذيابي في ورقته مشكلات الإعلام الخليجي في ظل قيود داخلية قديمة من جهة واتساع مدى البث الإعلامي بكثرة الفضائيات والمواقع الإلكترونية من خارج المنطقة من جهة أخرى، مركزاً على أهمية دور الوسائط الإعلامية الخليجية في صوغ مفهوم مجتمعي وبلورة سياسات تراعي مشكلات شعوب المنطقة، ما يتطلب الابتعاد عن «التجييش» الانفعالي وتجاوز بعض القيم القبلية الضيقة.
وهنا مقتطفات واسعة من الورقة:
يرى مراقبون أن الإعلام العربي، والخليجي أحياناً، يجر المجتمع إلى العمل ضد مصالحه، خصوصاً وسائط البث التلفزيوني الفضائي، وتركيزها على البرامج السجالية المبتذلة، وإشاعة جو كاذب وشعور وهمي بحصول تبادل حر للرؤى والفكر، بانتظار انتصار حتمي أو وهمي. إذ تعاني العملية الإعلامية في المنطقة ازدواجية خطرة مثيرة للقلق في جوانب عدة، وهنا يمكن التمثيل بالثنائية في تسمية العمليات الحربية في مناطق النزاعات في العالم العربي: هل هي فدائية؟ أم انتحارية؟ أم استشهادية؟ ومن الواضح أن هذا التذبذب الفكري والثقافي يزيد «البلبلة» في أذهان المتلقين من جماهير المنطقة، ما يؤدي إلى إضفاء قدر أكبر من التعقيد على قراءة المواقف السياسية الراهنة وفهمها.
في عصر العولمة، لا بد من بلورة دور إعلامي واضح، يهدف إلى الحفاظ على القيم السليمة بعيداً من التطرف والجهل، بما يدفع إلى تضامن المجتمعات في وجه الأيديولوجيا التي تستهدف شعوب المنطقة، كما أن هذا التوسع في الوسائط الإعلامية التي تنطلق من دون مواثيق تؤطّر عملها، يُسقط دور أجهزة الإعلام في عملية التوثيق التاريخي والسياسي والثقافي، ويُضعف دورها التعليمي والتربوي والبحثي، ويُصيب مهمتها في تعزيز الأسرة والمجتمع في مقتل. والأخطر من ذلك، أن هذا الانفتاح الخالي من الضوابط ومنظومة القيم والمفاهيم الجمعية التراثية يُضْعِف بوجه خاص أهم أوعية العروبة والإسلام، وهي اللغة العربية الفصحى التي تمثل مستودع ثقافة المنطقة وركيزتها التراثية، إذ إن كثرة الوسائط الإعلامية وسهولة تشغيلها أضحت تتطلب تشغيل مذيعين ومقدمي برامج من دون عناية بمستوياتهم اللغوية والفكرية.
وقد يكون جائزاً وَصْفُ ما يحدث على الساحة الإعلامية العربية والخليجية بـ «حالة زكام» إذ لا تحكمها منظومة ضوابط واضحة، ما يقود إلى القول إن الوضع الراهن للإعلام في المنطقة تعمُّه فوضى في شأن مفهوم حرية التعبير والنظرة إلى العلاقات والسياسات الخارجية.
الإعلام الخليجي
اعتقد ان صحف الخليج حالياً اكتسبت هويات خاصة، وأضحى ممكناً تحديد ملامح ما يمكن أن يُطلق عليه صحافة سعودية أو إماراتية أو كويتية ونحو ذلك.
ويجوز القول إن الصحافة الخليجية الجديدة نسبياً فرضت نفسها وهويتها وانتماءها الخليجي الجماعي بحيث أصبحت ماعوناً كبيراً للتعبير عن تطلعات أبناء الخليج وأشواقهم إلى التواصل والتفاعل مع المشرق والمغرب من دون حواجز.
استفادت الصحافة الخليجية في مطلع سبعينات القرن الماضي من الطفرة النفطية الأولى، وضخامة العائد الإعلاني، ما أدى إلى إغراء الكفاءات الصحافية العربية للانتقال إلى المؤسسات الصحافية الخليجية.
ولجأت التجربتان الكويتية والإماراتية إلى صحافة الأفراد المستقلة عن تدخل الدولة، فيما بادرت السعودية إلى تطبيق تجربة صحافة المؤسسات في مزج «مقبول» بين نفوذ الدولة ورأس المال الأهلي. وهي تجربة بلغت نهاياتها بإنشاء مؤسسات صحافية خارج البلاد العربية. ما أدى إلى انتشار الصحافة العربية الدولية وظهور قائمة من الأسماء الإعلامية اللامعة التي أضحت مؤثرة في الرأي العام الخليجي والعربي والدولي، بدلاً من شخصيات كانت تحتكر نجومية الصحافة العربية.
غير أن الصورة الزاهية للصحافة والإعلام في دول الخليج تعاني من مشكلات ظلت تؤرّق العاملين في حقلها على مدى عقود مثل: ضعف الجانب المهني، وقلة الكوادر المتمرسة والمتخصصة في مجالات المهنة، مقاومة تحديات العولمة الإعلامية، تحرير الإعلام الخليجي من المنتجات الإعلامية الاستهلاكية.
الصحافة بين الحرية والرقابة
يُمكن القول إن الإعلام الخليجي، أسوة بالإعلام العربي، ظل يخضع لرقابة مباشرة من السلطات الحكومية في بلدان المنطقة على مدى عقود. وكان ذلك أمراً متوقعاً في ظل ضرورات تأسيس البناء الوطني ومحاولات الحكومات الخليجية التشديد على ما تعتبره ثوابت وطنية ودينية وأخلاقية، يمكن أن يؤدي الإخلال بها إلى انهيار المؤسسة الاجتماعية بأكملها (...).
ومن الضروري أن نميز الفجوة بين ما تعلنه الحكومات وأفعالها في دعم حرية الإعلام. وحري بنا القول إن مما لا شك فيه أن أوضاع الصحافة تحسنت في بعض بلدان المنطقة خلال السنوات الأخيرة. كما أنه من الصعب على أجهزة الرقابة التأثير في الأخبار التي تصدر عن القنوات التلفزيونية الفضائية، والأخبار التي تُنشر عبر شبكة الإنترنت.
لكن حين يتعلق الأمر بالتغطية الإعلامية للقضايا المحلية الأهم، يظل الإعلاميون مقيدين بشدة بضوابط تفرضها الدولة على القضية أو المناسبة. ولم ينشأ عن الضجة الأخيرة حول ضرورة الديموقراطية والإصلاح السياسي أيُّ تحسن ملموس للصحافيين، الذين يحاولون تغطية القضايا الحساسة.
لذلك فإن الخطوة الأولى على المسار الصحيح هي تعديل قوانين الصحافة جذرياً، إذ تتضمن قواعد بالية تحظر تناول قضايا بعينها، وتضع عراقيل بيروقراطية تعوق التغطية الصحافية المستقلة (...).
في الأسبوع ذاته الذي اجتمع فيه وزراء الإعلام العرب في القاهرة لتحجيم حرية الإعلام، عبر التوقيع على «ميثاق شرف إعلامي» يضع ضوابط تحكم أداء المؤسسات الإعلامية التي تستهدف شعوب المنطقة، أصدرت منظمةُ «مراسلون بلا حدود» تقريرَها السنوي لعام 2008، الذي يلخص الواقع الإعلامي في دول العالم، ومن ضمنها دول الخليج.
أشارَ التقرير إلى وجود تطوّر في مجال الحريات في منطقة الخليج العربي، لكنه نوه إلى أن الطريق ما زال طويلاً. ورأى التقرير أن حرية الصحافة في دول الخليج تختلف من دولة إلى دولة، حيث يُعاني الصحافيون من مشكلات عدة، في مقدمها الرقابة الذاتية التي تلازمهم في شكل ملحوظ منعاً للاقتراب من الخطوط الحمر، كنتاج للقوانين المقيدة حرية التعبير، إن لم يكن من جانب الدولة، فمن جانب الجماعات الدينية والقبلية التي لها دورها وتأثيرها (...).
يلاحظ أن التضييق على حرية التعبير في بعض دول الخليج، أدى إلى عدم الجرأة والخوف، إضافة إلى خشية الاعتقال، ما أفرز إعلاميين وصحافيين أشبه بالجبناء، كما أن ذلك أدى إلى انخفاض المستويات المهنية للعاملين في المؤسسات الصحافية والإعلامية. ومن المؤكد أن هناك ضرورة للعمل على رفع الوعي القانوني لدى الإعلاميين ورفع مهاراتهم في التعامل مع القوانين المنظمة للإعلام في هذه الدول، لخلق وعي أفضل بأهمية إعلام حرّ يدفع بعملية الإصلاح السياسي والعمل معهم لبناء بيئة تشريعية سليمة.
دور الإعلام في صوغ مفهوم مجتمعي
أتاح التقدم التكنولوجي في مجالات الاتصال وتبادل المعلومات - فضلاً عن هيمنة العولمة على ما يُعرف بالنظام العالمي الجديد - تخلي الدول والحكومات عن سيطرتها التقليدية على الوسائط الإعلامية، سواء ذلك بتشجيع منها أم رغماً عنها. وأدى هذا التغير الكبير على ملكية وسائل الإعلام والتسهيلات، التي تقدمها دول داخل المنطقة وخارجها، لاستقطاب تلك الوسائل، إلى خلخلة المفاهيم التقليدية لأساليب التأثير الإعلامي في المجتمعات التي تستهدفها وسائل الإعلام، خصوصاً كيفية التأثير المباشر وغير المباشر. غير أن تلك المتغيرات لم تكن على الدوام في مصلحة أجهزة الإعلام، إذ إن تعدد الصحف والقنوات الفضائية ومحطات الإذاعة والمواقع الإخبارية والتحليلية على أثير شبكة المعلومات الدولية جعل جمهور المتلقين، على مختلف مستوياتهم، يرفعون سقف الصدقية التي ينشدونها من أداء تلك الأجهزة. لذلك ربما أضحى سهلاً على فئات معارِضة لأنظمة خليجية إطلاق فضائيات أو مواقع إلكترونية من خارج المنطقة، لكنها لم تحقق تقدماً يُذكر في ما يتعلق بشعبيتها وصدقية المعلومات التي تبثها.
تتضح أهمية دور الوسائط الإعلامية في إحداث التغير المجتمعي في منطقة الخليج في بلورة سياسات وحلول تراعي طبيعة مشكلات شعوب المنطقة، والابتعاد عن نشر ثقافة الابتذال، خصوصاً «التجييش» الانفعالي للمفاهيم السياسية والثقافية والاستهلاكية ، ويجب التركيز على:
- معالجة سيطرة النصرة القبلية وانعكاسات ذلك على سياسات التوظيف.
- تعزيز الدور التعليمي والتثقيفي والاتصالي للدولة.
- بلورة سياسات واستراتيجيات مستقبلية لشعوب الخليج العربي.
هنا لا يمكن تجاوز ضرورة الإشارة إلى أهمية الإجماع على أسلوب موحد للارتقاء بالقبلية، لتكون قيمة إيجابية مضافة في عصر التكتلات الدولية والإقليمية لتعميق التواصل الجغرافي، وتجاوز بعض قيم القبيلة الضيقة، التي لا تصلح لتوسيع مفاهيم الحرية والعقل الجمعي لتحقيق وحدة وطنية تصلح لتعزيز الوحدة الخليجية. والغريب هنا حماسة قنوات فضائية وإذاعية لبرامج تسعى إلى حشد الولاء القبلي وإنماء التعصب للعشيرة والقبيلة (...) ويتوجب التأمل في إمكان تجاوز القبلية، باتجاه إقامة مجتمع خليجي موحد خلف برامج وأفكار طموحة تقود في نهاية المطاف إلى تذويب القبلية العتيقة في ما يمكن اعتباره «قومية» خليجية جامعة
وتبرز أهمية تحديد مفهوم حرية التعبير ومدى خطوط الرقابة من جراء اتساع نطاق الفهم الخاطئ بأن الفضاءات المتنوعة تعني أن يتصرف كل جهاز إعلامي على هوى القائمين على تمويله أو تشغيله، ما دام الحصول على قمر اصطناعي للبث التلفزيوني أو عاصمة أجنبية خالية من فرض ضوابط على تراخيص الصحف والمجلات أمراً ميسوراً.
ويمكن الإشارة بوجه خاص في هذا الجانب إلى الفوضى المتمثلة في كثرة قنوات الفتاوى الدينية والعلاج بالأعشاب وقنوات الكسب بالكذب، من دون ضوابط واضحة تكفل تحقيق مقاصد تلك الوسائط الإعلامية. كما أن التوسع في مفهوم حرية التعبير أدى إلى استنساخ قنوات فضائية أضحت متخصصة وبارعة في خَلْق السجالات والانقسام بين الفئات والشعوب داخل المنطقة وخارجها.
أخيراً: لا إصلاح من دون حرية، ولا حرية من دون إصلاح. فمتى أرادت الدول الخليجية السير في العملية الإصلاحية وهي ضرورية، يتوجب عليها تشجيع الحرية الإعلامية من خلال سنّ تشريعات قانونية داعمة لها من دون فرض قوانين رقابية «عبثية» تحوّل العمل الإعلامي إلى ما يشبه حقول ألغام تنتظر الصحافيين لاصطيادهم واحتجازهم. ويبقى حجر الزاوية للإصلاح هو الحرية الإعلامية المسؤولة، التي تعتمد على الصدقية والحرفية والوضوح، من دون استفزاز للآخر أو تعدٍّ على حرياته، حكومات أو شعوباً وأفراداً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد