افتتاحيات » الاعترافات والمستقبل

وائل عبد الفتاح

ـ ١ ـ
ربما اننا لا نعرفهم، ولا نريد أن نتذكرهم... لكن اين نضع صورتهم في المستقبل؟
في هذا الموعد من كل عام تلاحقنا صورة طابور اسرى مصريين بالملابس الداخلية تحت شمس تلك الظهيرة الحارقة في حزيران (يونيو) 1967.... طابور من جنود يرفعون ايديهم فوق الرؤوس المنحنية وبعد قليل سيقودهم جنرال اسرائيلي إلى حفرة وهم أحياء..
كيف تنجح مؤامرة نسيانهم بعد 49 عاما؟ كيف استطاعت الانظمة السياسية تمويت الانسانية بالتدريج بحيث ان هذه الصورة تمر من دون وخزة في ضمير او حياة او ما تبقى من انسانية بعد سنوات الاستبداد الطويل؟
الذاكرة هنا ليست من اجل الأخذ بالثأر او اشعال مكامن الوطنية الباردة، ولكن من اجل تأكيد قيمة الانسان ووجوده وكيف نستعيد قصته دفاعا عن انسانيته وحمايته من جرائم جديدة...
الاعتراف يخص المستقبل لا مجرد الذاكرة/ او تدويرها لشحن خطب وطنية مجانية تحت الطلب. انها تتعلق بما نريده في عالم جديد/ بقيم واخلاق ومفاهيم وافكار غير تلك التي ادت إلى الكارثة التي نعيش على حافتها.
واتذكر هنا جيدا ما حدث في شباط (فبراير) 2010 عندما اقتحمت آلة حفر عملاقة المدرسة الثانوية الصناعية للبنات. اصيب أهالي قرية قرب مدينة الاسماعيلية بالدهشة لان الامر تم تحت ستار السرية والتكتم وبرعاية اجهزة امنية ايقظت مدير المدرسة من النوم.
الدهشة تحولت إلى غضب مكتوم عندما انكشف سر التنقيب في ساحة المدرسة التي تبعد 3 كيلومترات عن مدينة الاسماعيلية احدى مدن قناة السويس. انهم اسرائيليون يفتشون عن رفات جنودهم في واحدة من معارك الدبابات في حرب اكتوبر 1973.
نواب البرلمان عبروا وقتها عن الغضب ببيان عاجل يطالبون فيه بوقف الحفر وتدخل مبارك (الرئيس وقتها) لوقف التنقيب حتى تتم المعاملة بالمثل.
حملة التفتيش ايامها عن الرفات ايقظت شعورا مفرطا بالاهانة.. واعتبرت اعتداء على السيادة الوطنية ما دامت اسرائيل لا تسمح بالبحث عن رفات الاسرى المصريين ابطال الصورة في 1967؟
الاسرى جرح مصري مسكوت عنه، خاصة بعدما كشف فيلم وثائقي تفاصيل عمليات قتل الاسرى المصريين ودفنهم أحياء، ثم تحويلهم إلى قطع غيار بشرية. وحدة &laqascii117o;شاكيد" التي نفذت العملية طهرت روحها بالاعتراف الكامل عن جريمة حرب لم يتحرك المسؤولون في النظام من يومها إلى الآن لاجراء محاكمة لمرتكبي هذه الجريمة وعلى رأسهم بنيامين بن إليعزر الذي كان وزيرا للصناعة والتجارة ايام البحث عن الرفات الاسرائيلي في الاسماعيلية.
وبرغم ان مبارك جنرال وبطل ضربة جوية والسيسي ايضا جنرال وبطل التحرر من الاخوان واعادة الجيش إلى شعبه، الا ان لا هذا ولا ذاك سعى إلى ترميم ذاكرة مجروحة (يقال ان هذا تنفيذ لاتفاقيات سرية بعدم تبادل القضايا على المستوى الدولي).. وفي الوقت نفسه لا يترك للمجتمع المدني في مصر حرية الحركة لاستعادة الحق ومحاكمة المجرمين.
الجرح مفتوح لكنه مغطى بطبقات من اللامبالاة تليق بعقلية الموظفين الذين تضيق مساحات حركتهم بشكل خرافي يضيع معه الحق حفاظا على نص المعاهدات.. وتبدو فيه كل الموضوعات المتعلقة بالكرامة والروح والحقوق خطابات مجنونة تتساوى عندها صرخات الحناجر بالقواعد والقيم السياسية والاخلاقية.
من الممكن ان يكون كل جنرال منهما نجح في نسيان الجرح او تجاوزه، لكنه لم يخبر المصريين كيف استطاع ان يفعل، وهو عسكري يعرف ان النسيان له قواعد، والذاكرة لا يمكن ان تُداوى بالمسكنات او التناسي.
البحث عن الرفات جزء من العقيدة الاسرائيلية السياسية والدينية. يبحث اليهود عن اليد والفم في رفات الميت استعدادا للبعث والقيامة. وسياسيا لا تترك الدولة والمجتمع قتلاها من اجل الدولة بعيدا عن ارض الميعاد ويمكنها ان تستبدل برفات قتيل واحد مئات الاسرى. يشترون ذاكرتهم بحياة الاعداء.
اين هي العقيدة او الثقافة التي وراء نسيان &laqascii117o;جريمة حرب" ضد جنود مصريين؟
التحول من الحرب إلى السلم لا يعني النسيان ولكن الذاكرة. ولا سلام من دون ايمان بالحق الغائب.. وهو حق لا يسقط بالتقادم كما قالت القوانين الدولية. ومن دون غفران رسمي سيتحول الحق المنسي إلى ألم دائم وشعور بالكرامة المهانة.
في الغضب المصري على حملة الرفات اعجاب خفي بالاصرار الاسرائيلي على اصغر تفصيل. وهو بناء مثير بالفعل يعتمد في ثناياه على النداء الديني للحرب.. لكنه في الوقت نفسه يحترم قواعد مدنية في الدفاع عن حق الجندي حتى ولو كان عظاما تحت الارض.
الدولة كلها قامت على سر تاريخي.. قالت العصابات الصهيونية إنه وعد إلهي بالعودة إلى ارض الميعاد... ووعد باعادة بناء الهيكل للرب... الذاكرة عنصر اساسي في هذه التركيبة... انتقلت إلى السياسة ولم تنس في لحظات السلم مع الاعداء.
الرفات هنا هي وصل بين الماضي والمستقبل، والعثور عليها هو مد الجسور بين الاجيال المدافعة عن اسرائيل، وهو ما يشعر المصريون بغيابه... غياب اهمية الفرد وحياته. لماذا لم يُعَد تضميدُ جراحِ أُسَرِ المدفونين أحياء؟ لماذا تذهب ارواحهم ويتحولون كما في ساعتهم الاخيرة إلى استعراضات ألم دائم؟
لماذا يتعامل الحكام مع مثل هذه الحكايات الرمزية بعقل موظف يعتبر ان الحكمة هي في &laqascii117o;غض النظر" عن قضايا قد تغضب الاطراف الاخرى... ولم يتعلموا مثلا ان اليهود ليدافعوا عن وجودهم الانساني لم يدخلوا في حرب مع الالمان لكنهم لم ينسوا الهولوكست.. حولوها لعنة لا ينام بسببها الالمان ويعتذرون ليل نهار.
بينما طابور الاسرى المصريين ما زال مجرد وخزة موسمية... مجرد وخزة في جسد شبه ميت.
ـ 2 ـ
وهل الاعتراف بمذبحة الارمن سيعيد الضحايا؟
الاعتراف هو رحلة إلى عدالة جديدة/ او ترميم لذاكرة معطوبة وجد آخر الخلفاء من يمنحه حق صلب آلاف النساء عرايا قبل الذبح.
الرئيس المنتمي إلى الجمهورية العلمانية انكر جرائم الخلافة، وفي هذا تحالف من الماضي (القديم) مع الماضي (الذي لا يريد ان يمضي) على المستقبل.
انها محاولة تثبيت الماضي، والحفاظ على صورة &laqascii117o;الذات" عن نفسها وعن مستقبلها في العلاقة مع الآخر.
هي محاولة لصد التغيير.
ـ 3 ـ
لا تغيير بدون عدالة انتقالية.
فالعبور من الاستبداد إلى الديموقراطية لا يعني تغيير الحاكم/او وجوه الحاشية/او استبدال عصابة بجماعة/وجماعة بعصابة.
التغيير ليس صناديق انتخابات/ بقدر ما هو تفكيك بنية استبداد حاكمة/ وهذا لن يتم بمجرد تنظيف الواجهات، بينما يبقى العفن يحتل البيت/ويعيد انتاج المستبد كل مرة بوجه جديد.
العدالة الانتقالية هي جسر العبور من الاستبداد إلى الديموقراطية، وهناك محاولات لقطع هذا الجسر مرة بالانكار ومرات بالقفز المظلاتي على مؤسسات هذه العدالة.
يتعطل مشروع العدالة الانتقالية كجزء من عملية عرقلة او فرملة التغيير/ ولهذا كان القرار الاول بعد سقوط مبارك هو اختيار القضاء العادي لمحاكمات ما بعد الثورة.
القرار كان جزءا من خطة السيطرة على الثورة (حتى لو كانت نية مساندتها صادقة ومخلصة).
القرار كان يعني: وضع حصان جامح في حلبة ضيقة... واجبار الثورة التي غيرت هندسة الشوارع على السير بحسب اشارات المرور.
كيف تمكن محاكمة نظام بالقوانين نفسها التي وفرت له الحماية طوال 30 سنة؟
وهل يمكن لنظام قضائي عاش معاناة طويلة من سيطرة مبارك وتليفوناته واوامره وتدخلاته ان يتخلص من الميراث الثقيل في ايام ويحقق عدالة الثورة؟
المسار الطبيعي للمحاكمات هو البراءة لان القوانين في عصر مبارك صممت على قياس حماية النظام/او مساعدة النظام في ترويض المجتمع.
واصطياد رجال مبارك في مزرعة طرة لا هدف له الا التهدئة... لان الثورات لا تقيم عدلها بالمسار الطبيعي. ولا يعني هذا المطالبة بمحاكمات الثورة، وضرب استقلال القضاء وسيادة الانتقام بدلا من سيادة القانون.
نعرف ان الثورة لن تنجح الا بالعدالة... ونعرف ان من حق القاضي صاحب احكام البراءات ان يعلنها بقوة: &laqascii117o;لن اتأثر بصوت الشارع" لأن التأثر في الاحكام بصوت الشارع او همسات (اوامر) السلطة يلغي استقلال القضاء وسيادة القانون.
لكن الثورة ليست معركة عابرة بين وجهتي نظر، انها التغيير الكبير الذي يعدل كل المسارات من اجل اعادة بناء جديدة.
الثورة لا يمكنها ان تتوقف عند الانتقام من مبارك ورجال حراسته القتلة وعصابته التي تشعر بالغدر لان جنتها سرقت منها.
الثورة تحتاج عدالة انتقالية، وهي العدالة التي لا تعني الانتقام/او التطهير/ولكنها تهتم بالحقيقة اي معرفة ما حدث/لكي لا يتكرر ذلك /واعادة بناء مؤسسات حوّلها الاستبداد إلى &laqascii117o;مستوطنات عفن".
هي عدالة تستوعب الانفجار الكبير الذي خرج فيه المصريون يوم 25 كانون الثاني (يناير) مطالبين بدولة محترمة/يتحقق فيها &laqascii117o;العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"/دولة لا يكون ثمن الامن فيها كرامة الشعب/ويركب فيها القوي على ظهر الضعيف ويدفنه في متاهات اليأس والاحباط...عدالة تستلهم الثورة ولا تحاول استيعابها بمحاكمة اكباش فداء في &laqascii117o;قضايا" يظهر كل يوم انها عشوائية وضعيفة، وكان معروفا من البداية ان مصيرها: البراءات.
فلا قوانين تلزم اجهزة الدولة بالافصاح عن الحقيقة/والاوراق في صناديق سوداء/والحقيقة في سراديب سرية/والعدالة تعاني من الاستبداد.
العدالة مفهوم اكثر تطورا من &laqascii117o;القصاص" لانها تتضمن العقاب وتضمن الا تتكرر الجريمة وايضا تعيد إدماج المجرم في المجتمع عبر &laqascii117o;التهذيب والاصلاح"/اي انها تجاوز المفهوم الاولي للقصاص وتدفعه إلى مستويات تساهم في تطور المجتمع وتحارب الجريمة.
والعدالة الانتقالية عرفتها بلاد اخرى عاشت لحظة التغيير الكبرى مثل جنوب افريقيا وتشيلي والمغرب... وكان هدفها الاول: تحقيق عدالة توفر ظروف اعادة بناء نظام جديد.
العدالة العادية لا تصلح للثورات.
والانتقام لا يحقق العدالة.
...وانهي كما بدأت: بدون عدالة انتقالية... لا تغيير.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد