- صحيفة 'السفير'
غسان رزق
لم تكد تنقضي ساعات قليلة على سقوط &laqascii117o;أو تي في" في حمأة الوعي المتردي حيال كارثة الطائرة الإثيوبية المنكوبة، عبر الإعلان عن &laqascii117o;اكتشاف هيكل الطائرة على بعد 3 كلم وعمق 100م"، حتى جاء نموذج آخر من التردي عينه في برنامج &laqascii117o;دمى قراطية" (إخراج شربل أبو خليل)، الذي عرض أمس الأول على شاشة &laqascii117o;ال بي سي أي". لم يستفد البرنامج من سابقة &laqascii117o;أو تي في" في عدم تحسّس الرهافة المؤلمة لمشاعر الناس في هذه الكارثة، فانغمس في توظيفها في ما يفترض أنه ...فكاهة! أي وعي ذلك الذي يرى في عصب مأساوي مكشوف ومؤلم، موضعاً للفكاهة والتندّر؟ حاولت الحلقة استجلاب &laqascii117o;الفكاهة" عِبر إظهار مسؤولين (الحريري، العريضي، السنيورة...) يتداولون معلومات متضاربة تأتي من سفينة الإنقاذ &laqascii117o;أوشن ألرت" عن مكان وجود هيكل الطائرة، ثم يظهر بينهم من &laqascii117o;ينصحهم" بالبقاء في العموميات وبإغراق الناس في العبارات العامة والمُبهمة كالاكتفاء بالقول إن السفينة موجودة في البحر الأبيض المتوسط! هل حاول صُنّاع البرنامج ان يتخيلوا ما هو أثر هذه &laqascii117o;الفكاهة" على أهل الضحايا الذي أسروا في زمن مُعلق تطحنهم ثوانيه من الانتظار القلق والمتلهف والمؤلم واليائس؟
يبدو ان الوعي الإعلامي قد وصل الى درجة هائلة في التردي، وإلا كيف سمحت شاشة عميقة الصلة بالجمهور ببث هذه الحلقة؟ وكيف أُعطي السِجال السياسي و&laqascii117o;نقاراته" أولوية على المأساة وتفاعلاتها والمشاعر المحيطة بها؟
ليس مثالاً مفرداً
الارجح ان &laqascii117o;دمى قراطية" ليست مثالاً مفرداً عن تردي الوعي الإعلامي، خصوصاً المرئي - المسموع، في التعامل مع كارثة إنسانية مثل الطائرة المنكوبة. ليس ثمة من يفكر بحال أهل الضحايا، وقد بات هؤلاء الأحياء - الأموات هم الضحايا المتحركون لهذه الكارثة. يتردى وعي المرئي - المسموع في مشاكل أهله، يصبح هاجسه كيف يمكن الحصول على &laqascii117o;الخبطة" والـ&laqascii117o;سكوب"، كيف يمكن &laqascii117o;التفنن" في إبراز الحدث من زاوية &laqascii117o;مميزة" وغيرها. هكذا، غرقت الشاشات المتلفزة في مياه الوعي البائس. تسأل مذيعة بـ&laqascii117o;ذكاء" منقطع النظير طفل أحد الضحايا &laqascii117o;أين البابا الآن"؟ هل فكّرت لو كان ابنها ولو كان يُسأل عن زوجها الغارق؟ ما الذي دار في بال الطفل، وأي صور عبرت عقله وأي ألم؟ بدل التعاطف مع الناس، ثمة قسوة جاهلة في التعاطي معهم. وبدل بث همومهم وهواجسهم وآلامهم، ثمة من لا يرى سوى مساحة لـ&laqascii117o;اللمعة" المدقعة الفكر. تصل الكاميرا الى طفل لتقول إنه تنبأ بسقوط الطائرة، وتضيف إنه توقع حرباً وشيكة مع إسرائيل! كيف يقع هذا الكلام في أعين أهالي الضحايا في الجنوب مثلاً، في ما أفكارهم لا تكف عن مغادرة مياه البحر؟
واستطراداً، لم يعفّ إعلام مُسطّح عن تحويل الكارثة الى جائزة للمتنبئين والعُرّاف وقرّاء الغيب، وكأن الأمر يتعلق بجائزة أوسكار وليس بموت ماحق لتسعين كائناً بشرياً محقتهم كارثة في إغماضة عين!
لنترك جانباً محاولات &laqascii117o;مَذْهَبَة" الكارثة (الطائفية والمذهبية جنون مستشر، ويطول البحث فيه)، ولنترك محاولات التجيير السياسي البائس للكارثة، كمثل ما فعلته فضائية &laqascii117o;العربية" عندما خصّصت حلقة للإيحاء بأن سقوط الطائرة عملية موجّهة ضد &laqascii117o;حزب الله". وليس بعيداً من ذلك، ترويج قناة &laqascii117o;المنار" لفكرة ان السفن المشاركة في البحث عن هيكل الطائرة، مثل &laqascii117o;أوشن ألرت" و&laqascii117o;أوديسي اكسبلورر"، إنما جاءت بمهمات غير معلن عنها (تجسس؟) وليس للمشاركة في البحث والإنقاذ. وكيف يتأتى ان يُقال ان الدولة تستطيع ان تبحث بنفسها عن الضحايا وتنتشلهم، وأن يُشار الى عجز الدولة نفسها عن تمييز مهمة السفن التي طلبتها للبحث عمن فقدوا، بعد أن تعدت الأمور التقنية قدراتها؟ كأنما ثمة تصميم على عدم وعي الدروس المتكرّرة من حروب داحس والغبراء التي اكتوى الناس بنيرانها، ومازالوا يعيشون جمرها يومياً.
حتى عندما كان دم المأساة حاراً، بدا الإعلام مأساوياً في تخبطّه. فلم يجر التدقيق في رواية &laqascii117o;الشهود" الذين وصل بعضهم الى دقّة &laqascii117o;مدهشة" في ما رأه بالعين المجردة، على رغم ان الكارثة حدثت بعد أكثر من ساعتين بعد منتصف الليل، في ظلام دامس وشديد المطر، وكثيف الغيوم وعاتي الرياح. أليس من السطحية ان يجري تبني كل قول، باعتباره &laqascii117o;رأياً"، وكأن الموضوع لا يتصل بمأساة عامة، تستوجب رفع الوعي والتفكير والنقد الى أقصى حدّ! والمؤسف ايضاً أن بعض وسائل الإعلام، خصوصاً المرئية - المسموعة، استخدمت تعبير &laqascii117o;الناجين" في وصف من لم يصعدوا الى تلك الطائرة أصلاً! الحق انه &laqascii117o;إنجاز" يصل الى حدّ إبداع تعريف جديد لـ&laqascii117o;النجاة" من حادث تحطم طائرة وسقوطها في البحر.
وقد بلغ المشهد الإعلامي ذروة بؤسه، عندما ناشد الوزير العريضي وسائل الاعلام توخي الدقة وعدم الانجرار وراء الشائعات والحرص على تحري مصادر الأخبار قبل نشرها. أليس تردياً ان يكون مأخذ السلطة الرسمية على &laqascii117o;السلطة الرابعة" هو حثّها على الالتزام ببديهيات المهنة؟ أليس انقلاباً للأدوار ان تتمكن السلطة الرسمية من هدم رواية الإعلام عن حدث عام، بدل ان يكون الإعلام العام هو من يتصدى لهدم ما يروّج له الممسكون بالسلطة، عندما يتعدى ذلك الترويج حدود الحقيقة؟
2010-02-05 00:00:00