- صحيفة 'السفير'
فاتن قبيسي
بعد مرور أكثر من أسبوعين على سقوط الطائرة الاثيوبية، لا تبدو هناك نية لدى بعض وسائل الإعلام اللبنانية المكتوبة منها والمرئية والمسموعة لتغليب المهنية على حس السبق، فصارت تبدو كمن يصب الزيت على النار. والنار هنا، ليست شهباً بسيطاً، بل ناتجة عن انفجار طائرة عند الشاطئ اللبناني، شكلت كارثة حقيقية على صعيد وطني. كأن وجع أهالي الضحايا لا يكفيهم، فقرر بعض الإعلام &laqascii117o;تأجيج" جراحاتهم بشكل متواصل على مدار اليوم، وهي الجراح المفتوحة أساساً على وجع انتظار العثور على جثث معظم الضحايا.
تتعاطى محطات تلفزيونية وإذاعية وصحف اليوم مع الكارثة متناسية أن الحد الأدنى من المهنية يفترض التدقيق بأي خبر لدى أكثر من مصدر قبل اتخاذ قرار بثه أو نشره. كما أن بعضها يتعاطى من دون مراعاة البعد الإنساني، المتعلق بواقع أهالي الضحايا، فتبدو نشرات الأخبار غالباً كنذير شؤم للأهالي، تعمل على تفريغ آخر شحنات الصبر المتبقية في نفوسهم، فتنتقد الجهاز الرسمي في تعاطيه مع الكارثة، وتشكك بعمليات البحث عن جثث الضحايا، وتتهم إدارات أو وزارات بالتقصير واللامبالاة. كما تعمل بعض المقالات المكتوبة على تحليل الوقائع وتسييس خلفياتها في الاتجاه ذاته، وهو الاتجاه الذي يدفع الأهالي المفجوعين إلى الإحساس بالنقمة والحرقة إزاء التعاطي الرسمي مع الكارثة، بدلا من أن نشعرهم بالعزاء والتعاطف الكلي.
لسنا في صدد الدفاع عن الأداء الحكومي في هذا المجال، علماً بأن الوزارات والجهات الأمنية المعنية &laqascii117o;هبت" منذ اليوم الأول لتدارك تداعيات الكارثة. ربما ينتج التخبط أو الضياع الذي شاب عمليات البحث عن كون لبنان يتعرض للمرة الأولى، لحدث مأسوي من هذا النوع، وبالتالي لا خبرة رسمية لإدارة هذا النوع من الكوارث، وهو ما اعترفت به الحكومة ورئيسها. وحتى إن لم يكن الأمر كذلك، فالوقت الحالي ليس مناسباً لمحاسبة المسؤولين أو &laqascii117o;تجريمهم"، بما &laqascii117o;يجلد" أهالي الضحايا.
والحدث جديد أيضاً على الإعلاميين، الذين يقع بعضهم بمغالطات لا حصر لها. فيبادر إلى نقل خبر أو معلومة قبل التدقيق في صحتها، منساقاً وراء إغراء &laqascii117o;السبق الصحافي"، وذلك برغم مناشدة الجهات الرسمية المعنية كلها غير مرة، استقاء المعلومات من مصادرها الرسمية.
يبدو أن بعض الإعلام يعمد من خلال هذه القضية إلى تصفية حسابات سياسية. فإذا كان الإعلام، المعارض منه والموالي، قد فُرز بحدة، في مرحلة سابقة عاكساً الاصطفاف السياسي الحاد بين فريقي &laqascii117o;14 آذار" و&laqascii117o;8 آذار"، وإذا كان بعض الإعلام المعارض محقاً في انتقاده للسلطة أو الحكومة في قضايا كثيرة أثارها في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ &laqascii117o;عدوان تموز"، فان كارثة الطائرة اليوم ليست الوسيلة المناسبة لشن حملات في غير وقتها.
قد تكون هناك أسئلة مشروعة حول أهداف السفن الأميركية والاستعانة بها مثلاً، لكن يمكن إرجاء ذلك كله ليأتي في سياقه السياسي والأمني، بعدما يكون البعد الإنساني للقضية قد أخذ مداه.
وفي الإطار ذاته نسأل، ما معنى أن تفتح محطات إذاعية أثيرها بلا هوادة لتحليلات المستمعين، وهي أشبه بتكهنات اعتباطية تتلاعب بأعصاب الناس وتتهاون بعقولهم؟ أو أن تبث بعض الأقلام اليأس في نفوس الأهالي، جراء إيهامهم بوجود تواطؤ سياسي عليهم، أو أن تستخدم نشرات إخبارية متلفزة تعبير &laqascii117o;تمريك" الوقت في عمليات البحث على حساب أهالي الضحايا؟ أو أن تشيع بأن مهمة السفن الأجنبية هي البحث عن الذهب والنفط فقط؟ أو أن تستعين بتقارير مبنية على آراء من لون واحد من الشارع لانتقاد الأداء الرسمي، أو أن تستثمر بعض الأهالي المنكوبين أنفسهم مستخدمة أقوالهم كجزء من حملتها، بعدما حرضهم إعلامها أساساً، أو أن تستطلع أراء ضيوف لتصبح وقودا لمعاركها، فيقول أحدهم على سبيل المثال &laqascii117o;لا نية صادقة ولا إخلاص لدى الدولة لايجاد الجثث".
ألم يسأل القيمون على هذا الإعلام أنفسهم، عن مفاعيله على مفجوعين، تحولوا جراء تعاظم المأساة من مبتهلين لعودة مفقوديهم أحياء، إلى داعين لإيجاد جثثهم، ثم متلهفين للعثور حتى على أجزاء منها. والطموح، كل الطموح اليوم هو إيجاد قبور لأحباء، تحمل أسماءهم وتحضن أرواحهم.
نطرح كل هذه الأسئلة، لنتساءل من خلالها أيضاً عن أسباب عدم وجود قوانين منظمة في مثل هذه الحالات، وغياب دور وزارة الإعلام و&laqascii117o;المجلس الوطني للإعلام"، بما يضع حداً لهذه المعمعة. أليس ثمة ضوابط تضع حداً لما يحصل وتحول دون تكرار مثل هذه التجربة الإعلامية في حال تعرض لبنان، لا سمح الله، لأحداث مأسوية مشابهة؟
إن المخطئ يجب أن يحاسَب كائناً من كان.