باريس ـ خالد بريش(*)
مع مطلع العام 2012 انتقلت مكتبة اللغات الشرقية من مقرها القديم، في الدائرة الباريسية السابعة، حيث كانت تستقر منذ عام 1873 إلى مبنى حديث، يتسع لقرابة 900 طالب وباحث، ويقدم خدماته للباحثين والدارسين من كل المستويات، فيفتح أمامهم خزائنه، التي تضم قرابة مليوني كتاب بأكثر من 30 لغة مختلفة. ولم يكن ذلك هو الحدث الجديد بحد ذاته، بل بفتح صناديق الكتب القديمة، والتي بقي بعضها مقفلا طيلة أكثر من قرن من الزمان، بحكم طبيعة المكان القديم وعدم استيعاب رفوفه لها، والتي يعتبر بعضها نادر ولا يوجد منه نسخة أخرى إلا في خزائن تلك المكتبة... وبالنسبة للكتب العربية، فإن بعضها يعود إلى بدايات التجارب الطباعية الأولى، أي الطباعة الحجرية أو الطباعة بالحرف العربي، في مطبعة بولاق، أو في المطبعة العثمانية باسطنبول أو بحيدر آباد في الهند...
وكان من محاسن الصدف اكتشاف صناديق حوت مخطوطات عربية قيّمة، يتجاوز عددها ألفي مخطوط، يعود تاريخها إلى شتى العصور الإسلامية، وقد بقيت حبيسة الصناديق طيلة سنوات طويلة، ولم تكن معروفة لديهم طبيعتها وقيمتها العلمية على وجه التحديد، بالإضافة إلى كم كبير من المراسلات والوثائق.
القيّمون على المكتبة يعلمون بأن لديهم قرابة خمسمائة مخطوط فقط، عمل على فهرستها كلا من المستشرق أبراهام دانون وجورج فاجدا، في بدايات وأواسط القرن الماضي، في كراريس بدائية، وكمرحلة أولى من العمل.
حالياً، أخذ بعض الموظفين في المكتبة على عاتقهم فرز هذه الثروة العلمية، ووضع لائحة فيها، تحوي المعلومات الأولية حول كل مخطوط وموضوعه وإدخالها على برنامج خاص على الكومبيوتر. ولكن تبقى مشكلة أساسية وتتركز حول أمرين أولهما : وضع فهرس كامل وواف، يسهل على الطلاب والباحثين الاطلاع عليها؛ وثانيهما، وهو الأهم: ويتمثل في إعادة ترميم هذه المخطوطات وإصلاحها. فبحكم عوامل الزمن وتعرض بعضها للهتك، أصبح كثير منها يصعب الاطلاع عليه أو حتى مجرد تصفح أوراقه.
بعض هذه المخطوطات والوثائق تم شراؤه من قبل مبعوثين خاصين للمدرسة إلى بعض الدول العربية، في القرن الثامن والتاسع عشر، بينما العدد الأكبر منها هو عبارة عن هبات من أساتذة ومستشرقين ومهتمين بالإسلام والعالم العربي، وكذلك من بعض العاملين في الحقل الدبلوماسي، وبعضها أحضرته السلطات الفرنسية من بعض البلاد العربية، وبالأخص بلاد المغرب العربي وأفريقيا، خلال فترات الاستعمار. وهناك قسم محدود تخلت عنه المكتبة الوطنية بباريس.
تتنوع مواضيع هذه المخطوطات وتشمل مختلف العلوم والفنون. فمن مخطوطات اللغة والنحو والصرف والأدب والتاريخ والفقه وعلم الكلام والمنطق والحديث والتفسير إلى الطب والهندسة والحساب والموسيقى والفلك والتنجيم وغيرها من العلوم. وهي بخطوط مختلفة بعضها مشرقي وآخر مغربي بأنواعه أو أفريقي تومبوكتي، والأهم من ذلك أن بعضها بخط مبدعيه ومسطريه.
وتعتبر كمية الوثائق والمراسلات الضخمة، بحد ذاتها، ثروة علمية ومرجع مهم ونبع جديد للباحثين، كونها تشكل وحدة متكاملة من حيث تناولها للمنطقة العربية، وخصوصا مصر والمغرب العربي، ووضعهما السياسي والاجتماعي وبعض جوانب تاريخهما في القرنين الأخيرين. إنها مراسلات سفراء ودبلوماسيين خدموا بلدهم فرنسا في بلاد المغرب العربي وغيرها من بلدان العالم العربي والإسلامي، أو هي رسائل بخطوط علماء وباحثين مستشرقين، تحدثوا فيها عن مشاهداتهم في بلادنا ووصفوا أحوالنا وأوضاعنا. ويتناول بعضها مواضيع فكرية وسياسية كانت مطروحة على بساط البحث، وبعضها يلقي الضوء على مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية في عالمنا العربي والإسلامي، ما يظهر بوضوح ملامح واهتمامات الساسة أو أفراد السلك الديبلوماسي والمستشرقين في حينها، وأطر عملهم وأساليب تقاريرهم أو مراسلاتهم... وعلى سبيل المثال تلك الرسالة أو التقرير إن صح التعبير عن بدايات الوهابية في تونس، في حينها، والتي تبين أن موضوع الوهابية كان مدار بحث وتساؤل كما هو الحال في أيامنا هذه.
إن إخراج هذا الكنز العلمي ضرورة لا بد منها لكل الدارسين، لأن مجموعة كبيرة من هذه المخطوطات توجد كاملة بينما نسخها في المكتبات الأخرى ناقصة، فتأتي هذه لتتممها أو العكس. ولأنها تؤرخ لحركة تطور العلوم في البلاد العربية عامة وبلاد المغرب العربي خاصة، ولمسارات واتجاهات الفكر فيها وتعطي أيضا فكرة واضحة عن حركة المخطوطات، ودورها، وكيف كانت تسير جنبا إلى جنب مع عملية الطباعة حينها، حيث بقيت مجموعة كبيرة من العلماء تعتمد في نشر المؤلفات على نسخها باليد، وهو ما نراه يتكرر في عصرنا الحاضر وبشكل مختلف، إذ أن مجموعة لا بأس بها من الكتّاب والباحثين تتشبث بالكتابة وتسطير المؤلفات على الورق، بدلا من استخدام أجهزة الحاسوب وبرامجه. المخطوطات المكتشفة تمكننا من الاطلاع على أساليب الترجمة في القرن التاسع عشر من العربية إلى الفرنسية وبالعكس. فقد قام بعض العلماء المستشرقين بنسخ بعض هذه المخطوطات وترجمتها ودراستها والتعليق عليها. وكذلك يوجد بينها بعض الترجمات بالعربية لمواضيع جديدة في العلوم لم يعرفها العرب والمسلمون من قبل، مثل موضوع الكوليرا أو موضوع وزن الماس بالقيراط، بالإضافة إلى مواضيع أخرى كثيرة.
(*) كاتب وباحث
المصدر: صحيفة المستقبل