نور أبو فرّاج
في العام المنصرم، بثّت صحيفة &laqascii117o;ذا غارديان" فيلماً تسجيلياً بعنوان &laqascii117o;موت في البحر"، يوثق الرحلة المحفوفة بالمخاطر لخمسة شبان سوريين، صوّرت بعض محطّاته عبر عدسة هاتف محمول (راجع &laqascii117o;السفير" عدد 2014/10/23). كان الفيلم في ذلك الحين، بمثابة فاتحة لمقاربة ملف المهاجرين غير الشرعيين، وتحديداً من صحيفة بريطانية لها مكانتها. وبعد ذلك تحوّل ملف الهجرة غير الشرعية إلى ضيف دائم على صفحات الجريدة الآخذة على عاتقها تقديم وجهة نظر تظهر تعاطفاً أكبر مع المهاجرين، وتعترف بمسؤولية السياسات الغربية، بما فيها الحكومة البريطانية، عن أوضاع بلدانهم. ظهر موقف الصحيفة من قضايا اللجوء والمهاجرين في أوضح صوره ضمن سلسلة من المقالات التحليلية المطولة أثناء الانتخابات العامة في بريطانيا، لتبرز &laqascii117o;ذا غارديان" بصورة &laqascii117o;محامي الدفاع" المتعاطف، مقابل صحيفة &laqascii117o;ذا صن" اليمينية المتطرفة التي لم تجد كاتبتها كيت هوبكنز ضيراً في نعت المهاجرين غير الشرعيين بـ &laqascii117o;الصراصير"، ووصولاً إلى المطالبة بقتلهم.
حالياً، تطالع الصحيفة اليسارية جمهورها بمشروع استقصائي ضخم حول &laqascii117o;الرحلة الأوديسية لمهاجر من سوريا إلى السويد". يوثِّق المشروع بالكلمة والصوت والصورة ومقاطع الفيديو، رحلة السوري الأربعيني هاشم السوكي، المحفوفة بالمخاطر والتقلّبات، أو الشبيهة بمغامرات الملاحم الأوديسية، كما شاءت &laqascii117o;ذا غارديان" أن تصفها، من مصر مروراً بإيطاليا وفرنسا وألمانيا ووصولاً إلى لحظة الصعود بالقطار المتوجّه إلى السويد.
يحمل التحقيق توقيع الصحافي باتريك كنغسلي، مراسل الصحيفة في مصر، المتخصص بملف الهجرة، والحائز جائزة أفضل صحافي شاب العام 2014 في جوائز الصحافة البريطانية المطبوعة، إلى جانب المصوّرة سيما دياب وفريق ضخم من العاملين في الصحيفة البريطانيّة.
اختار كنغلسي صيغة روائيّة يوثّق عبرها تفاصيل رحلة هاشم السوكي مستعيناً بمذكرات المهاجر. نرى الكاتب يستخدم تقنيات الخطف خلفاً، ويرجع في الزمن إلى الساعة السادسة من مساء يوم طبيعي في حياة عائلة سورية قبل الحرب، أو يعود لتوثيق ما يختبره بطله من عثرات في رحلته، بدءاً من مصر ومروراً بالأحداث اليومية التي تحصل على متن القارب. ينتقل بعد ذلك لوصف المغامرات التي تحصل لتجنب الشرطة الإيطالية، والخيارات المتشعبة التي يجد المهاجر نفسه أمامها عند كل خطوة: الحيرة أمام جهاز قطع التذاكر الذي لا يفهم لغته، ورسائل الزوجة الخائفة عبر &laqascii117o;واتسأب".
وبالرغم من الإغراق في التفاصيل، لا يفوت الكاتب فرصة لشرح دوافع المهاجر السوري لخوض هذه الرحلة، إذ نقرأ في أحد المواضع وصفاً لدوافع المهاجر: &laqascii117o;في الأربعين، وبعدما تدمرت بلاده. يعتقد هاشم أن أحلامه قد ضاعت، ولكن أطفاله يستحقون أن يموت المرء من أجلهم".
وعلى صعيد اللغة البصرية، أخذت &laqascii117o;ذا غارديان" على عاتقها إيصال رسائل محدّدة تستجيب إلى مخاوف المجتمعات الغربية من المهاجرين. على سبيل المثال، نرى هاشم يجلس في كنيسة باريسية، مختبئاً من مدينة غريبة يخافها، وشرطة قد تعتقله، ليصبح المشهد بكليته رداً مبطناً على الخوف من المهاجرين المسلمين المتعصبين. وفي موضع آخر، نرى هاشم يقلب جريدة &laqascii117o;شارلي إيبدو". بالرغم من جهله اللغة الفرنسية، يتأمل الغلاف الذي يهاجم المهاجرين ويسخر من أن &laqascii117o;تايتانك جديدة تغرق كلّ أسبوع".
وفي تعليق نشرته &laqascii117o;ذا غارديان"، يتحدّث باتريك كنغسلي عن تجربته الجديدة. يقص كيف التقى في مصر بالشخصية التي سوف تصبح في ما بعد، بطله المحوري. وكيف بدأ مشروعه بتوثيق الأيام الأخيرة لهاشم في مصر مع أسرته. يكتب كنغسلي: &laqascii117o;كصحافي، كثيراً ما تنال امتياز لقاء أشخاص ملهمين. لكن لسوء الحظ قد لا ترى الكثير منهم مرة أخرى، لكن لسببٍ ما بقيت على اتصال مع هاشم وعائلته، حتى بعد نشر هذه القصة". ويضيف في موضع آخر أنَّه سعيد لأنَّه نال شرف قص حكايته، وحكاية الآلاف غيره ممن يقطعون البحر المتوسط كل عام بحثاً عن حياةٍ أفضل.
يشابه المشروع &laqascii117o;غارديان" في بنيته &laqascii117o;برامج تلفزيون الواقع" التي تواكب فيها الكاميرا جميع تحركات الأبطال، وتطالبهم في الوقت ذاته بالتصرّف بعفوية، كأنها &laqascii117o;غير موجودة". نجم تلك البرامج الذي كان في السابق مراهقاً أو &laqascii117o;مغنية مترفة" تختبر العيش في مزرعة، أصبح اليوم مهاجراً يحاول أن يجد طريقه في محطات القطار، ويختبئ عن عيون الشرطة. ذلك أثّر في بعض المواضع سلباً على الحكاية، وأفقدها جزءاً من واقعيتها. إلى جانب كونه حمل تهديداً بتحويل قضية المهاجرين إلى موضوع للمتاجرة والتسليع، تركّز فقط على الجانب الإنساني من القضية، وتفقدها أبعادها الأخرى.
هاشم السوكي وصل إلى بر الأمان ولم يغرق في المحيط، لكن ماذا عن الآلاف غيره ممن يخوضون رحلات مشابهة كل عام؟ ماذا عن الملايين الذين ما زالوا يصارعون الحرب في بلدانهم من دون نيّة في السفر. لأن لا كاميرات تكفي لتوثيق حياة كل هؤلاء، لا بد من البحث عن حلول وتقييمات موضوعية تضمن مخارج سياسية لإنهاء الحروب في المنطقة... تلك هي ربما المهمة الأسمى اليوم لأي وسيلة إعلامية تدّعي أنها تأبه لألم الناس حقاً: مهاجرين كانوا أم نازحين أم شعوباً تحت النار.
المصدر: صحيفة السفير