ـ صحيفة 'الأخبار'
المحكمة الخاصّة بلبنان: شرط مسبّق لإحقاق اللاعدل؟
عمر نشابة *:
اغتيل رفيق الحريري في بيروت في 14/2/2005، فسارع مجلسُ الأمن إلى إطلاق مبادرة دوليّة لتحقيق العدالة. يُذكر أنّ اغتيالات عديدةً وقعتْ سابقاً في لبنان لم تسترعِ هذا المستوى العالي من الاهتمام الدوليّ، ربّما لأنّ معظمها حدث خلال الحرب الأهليّة. ولكنْ في هذه الحال بالتحديد، أنشأ مجلسُ الأمن محكمة يُزعم أنّها تهدف إلى إنهاء الإفلات من العقاب و&laqascii117o;تستند الى أرقى المعايير الدوليّة المعمول بها على صعيد العدالة الجنائيّة". ومع ذلك، تُظهر شوائبُ بنيويّةٌ وإجرائيّةٌ كثيرةٌ عكس هذا الأمر.
في 29/3/2006، أصدر مجلسُ الأمن القرار رقم 1664 الذي أنشأ محكمة دوليّة، وطلب من الأمين العامّ كوفي أنان التفاوضَ مع الحكومة اللبنانيّة لعقد اتفاق يرمي &laqascii117o;إلى إنشاء محكمة ذات طابع دوليّ". وكان قد سبق قرارَ مجلس الأمن هذا إنشاءُ لجنة تقصّي حقائق، ومن ثمّ لجنة تحقيق دوليّة. ولكنْ، بحلول موعد توقيع الاتفاق بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانيّة، كانت حربٌ مدمّرةٌ قد وقعتْ صيف 2006 واستقال ستةُ وزراء، فقال رئيسُ مجلس النوّاب نبيه برّي إنّ توقيع الاتفاق لم يكن دستورياً. وبعد التوقيع، بدأتْ أزمة دامت أربعة أشهر لم يلتئم فيها مجلسُ النوّاب. ثمّ قرّرت القوى الغربيّة في 30/5/2007 أن تتجاوز الدستور اللبنانيّ، فاعتبرت الاتفاقَ ملزِماً قانونياً، على الرغم من عدم تصويت مجلس النوّاب عليه، علماً بأنّه لا يمكن إقرارُ هذا الانتهاك الذي أقدم عليه مجلسُ الأمن لسيادة عضو مؤسِّس فيه إلا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على أنّ &laqascii117o;الأعمال اللازمة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن لحفظ السلم والأمن الدوليين يقوم بها جميعُ أعضاء الأمم المتحدة".
1 ـ مكامن الخلل
أ ـ قواعد الإجراءات والإثبات المريبة. اجتمع قضاةُ المحكمة الخاصّة بلبنان في هيئة عامّة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010 للنظر في تعديلات اقتُرح إدخالُها على قواعد الإجراءات والإثبات التي اعتُمدت في 20/3/2009 (وسبق أن عُدّلتْ مرتين في العام نفسه). من بين أهمّ التعديلات الجديدة تلك المتعلقة بالقواعد التي &laqascii117o;ترعى عمليّة تبليغ قرار الاتّهام، والتي تبيّن بالتفصيل التدابيرَ العمليّة التي يجب اتّخاذُها بعد تصديق قرار الاتهام، ولا سيّما في ما يخصّ مباشرةَ إجراءات المحاكمة غيابياً". ويُفترض بهذا الإطار الجديد أن ينشئ &laqascii117o;اليقينَ القانونيَّ لدى المتّهمين وغيرهم من الفرقاء المعنيين بالإجراءات". ووضّح القضاة أيضاً إمكان قبول الإفادات الخطّيّة للشهود الذين تَحُول &laqascii117o;أسبابٌ وجيهةٌ" دون حضورهم للإدلاء بشهادتهم. قد يكون الدافع إلى هذه التعديلات سياسياً، إذ إنّها أُدخلتْ بعد بضعة أسابيع من إعلان السيّد حسن نصر الله أنّه لا يعترف بشرعيّة المحكمة الخاصّة بلبنان؛ وبالتالي إذا صدر قرارٌ اتهاميٌّ في حقّ أيٍّ من أعضاء حزبه فتجب محاكمتُه غيابياً.
بيْد أنّ هذه التعديلات لا تمثّل المشكلة الوحيدة: فقواعدُ أخرى تتعلّق بالمحكمة الخاصّة بلبنان تثير قلقاً كبيراً بشأن الشفافيّة والكفاءة الضروريتَيْن لإحقاق العدل. فالفقرة (واو) من المادة 118 تنصّ على أنّه &laqascii117o;إذا طلب المدّعي العامّ شاهداً ليقدِّم، كوسيلة إثبات، أيّ معلومات معيّنة بموجب هذه المادّة، فلا يجوز لقاضي الإجراءات التمهيديّة، ولا لغرفة الدرجة الأولى، إلزامُ هذا الشاهد بالإجابة عن أيّ سؤال يتعلّق بالمعلومات أو بمصدرها إذا امتنع الشاهدُ عن الإجابة بداعي السرّيّة" (عادة، يتمتّع القضاةُ بسلطة تخوّلهم السؤال عن مصدر &laqascii117o;الإثبات").
كما أنّ المادة 117 تسمح بعدم الإبلاغ عن المعلومات من أجل حماية &laqascii117o;المصالح الأمنيّة لإحدى الدول أو الهيئات الدوليّة". وتنصّ أيضاً على أنّه في حال تأدية الإبلاغ &laqascii117o;إلى المساس بالمصالح الأمنيّة لإحدى الدول أو الهيئات الدوليّة، فإنّه يجوز للمدّعي العام الطلبُ من قاضي الإجراءات التمهيديّة في غرفة المذاكرة، وبصورة وجاهيّة، إعفاءه كلياً أو جزئياً من موجب الإبلاغ الملحوظ". وتعود المادة 118 فتتوسّع في ذلك من خلال الإشارة إلى أنّه &laqascii117o;عندما تكون بحوزة المدّعي العامّ معلوماتٌ قُدّمتْ إليه بصفة سرّيّة، وتمسّ بالمصالح الأمنيّة لدولة ما أو هيئة دوليّة أو ممثّل عنها، فلا يعمد المدّعي العامّ إلى إبلاغ تلك المعلومات ومصدرِها إلا بموافقة الشخص أو الهيئة اللذين قدّماها".
ب ـ التصميم السياسيّ للإجراءات القضائيّة الدوليّة. في 16/11/2007، عيّن الأمينُ العامّ للأمم المتحدة، بان كي مون، دانيال بلمار رئيساً للجنة التحقيق الدوليّة المستقلّة، ليصبح المدّعي العامّ للمحكمة الخاصّة بلبنان لدى إطلاق عملها (1/3/2009). وفي 31/8/2010، سئل بلمار: &laqascii117o;هل استجوبتم أيَّ شخص في إسرائيل أو أيَّ مواطن إسرائيليّ؟" فأجاب: &laqascii117o;في هذه المرحلة، هذا جزءٌ من التحقيق المستمرّ. ما قلتُه قبل الآن هو أنني سأذهب إلى حيث تقودني الأدلّة". وعندما لم يقتنع صاحبُ السؤال بالجواب سأل مجدّداً: &laqascii117o;هذا جميل جداً، لكنّ سؤالي كان: هل كلّمتم أيَّ إسرائيليّ؟"، فأجاب: &laqascii117o;لستُ مستعداً للإجابة عن هذا السؤال. هذا جزءٌ من التحقيق". وأصرّ مُجري المقابلة: &laqascii117o;لمَ لا تجيبون ببساطة بنعم أو لا؟ إنّها مسألة حسّاسة جداً بالنسبة إلى اللبنانيين. أنتم لا تنْكرون أنّكم استجوبتم عناصرَ من حزب الله، ولم يكتمْ فريقُ التحقيق يوماً أنّه تحدّث إلى مواطنين سوريين. أفليْس الأمرُ سيّان؟" فرد بلمار ببساطة: &laqascii117o;ما أقوله هو أنّنا نراجع كلّ الأدلة الموجودة المحتملة".
لكنّ بلمار اعترف باستجواب مسؤولين في حزب الله؛ فعندما سُئل: &laqascii117o;تكلمتم مع العديد من مسؤولي حزب الله، فهل أتوْا على ذكر المعلومات التي قدّمها نصرُ الله؟". أجاب: &laqascii117o;كلا، لا علاقة لاستجوابهم بذلك أبداً. لقد تمّ استجوابُهم ككلّ الشهود الآخرين. لا علاقة لذلك بما عرضه السيّد نصر الله على شاشة التلفاز". خلاصة الكلام، إذاً، هي أنّ بلمار أعلن أنّه استجوب مسؤولين في حزب الله لكنّه رفض أن يجيب عن أسئلة تتعلق باستجواب إسرائيليين.
واضح أنّ بلمار لا يفكّر في تحديد هويّات الشهود. فقد أصدر بياناً بعد ثلاثة أشهر من اعتبار مسؤولين في حزب الله شهوداً (في 23/11/2010) يزعم أنّ قرار مكتبه &laqascii117o;بعدم التعليق على المسائل المتّصلة بالتحقيق لن يتغيّر. ويرتكز هذا القرار على اعتبارات ناجمة عن قلقه الشديد حيال نزاهة التحقيق وسلامة المتضرّرين والشهود والمشتبه فيهم والموظّفين...".
ب ـ استقالات وخلافات داخليّة وأسئلة بلا إجابات. في 27/9/2010، أعرب مكتبُ بلمار &laqascii117o;عن أسفه لمغادرة الناطقة باسمه السيدة هنرييتا الأسْود المحكمة الخاصّة بلبنان لأسباب شخصيّة غير متوقّعة". وكانت الأسْود قد عُيّنت قبل بضعة أسابيع فقط لتحلّ محلّ راضية عاشوري التي قدّمت استقالتها في أيار/ مايو 2010 للأسباب المزعومة نفسها. وكان رئيسُ مكتب العلاقات العامّة في هذه المحكمة بيتر فوستر قد غادر لاهاي أيضاً في تموز/ يونيو 2010. وقبل ذلك، في 12/1/2010، أعلنت المحكمة أنّ مقرّرها ديفيد تولبرت قدّم استقالته من أجل تسلّم مهماته رئيساً للمركز الدوليّ للعدالة الانتقاليّة. كذلك أعلن مديرُ قسم التحقيق في مكتب المدّعي العامّ أنّه غير مستعد لتجديد عقده، وغادر لاهاي في 28/2/2010. وقبل ذلك بأربعة أشهر، استقال القاضي هوارد موريسون لأسباب مجهولة. وسبق هذا، ببضعة أيّام، تقديمُ الناطقة باسم المحكمة سوزان خان استقالتها أيضاً. أما فاطمة العيساوي التي حلّت محلّها فقدّمت استقالتها هي الأخرى في 11/12/2010.
ليست الاستقالاتُ مسألةً غيرَ عاديّة في المحاكم الدوليّة، لكنّها في حال المحكمة الخاصة بلبنان متعدّدة وسريعة ومتكرّرة وغامضة. فتولبرت، الذي عيّنه بان كي مون في 10/7/2009 وتسلّم مهماته في 26/8/2009، حلّ محل روبن فنسنت الذي استقال في 21/4/2009. وقد قال لي الرئيس كاسيزي إنّ أسباب استقالة فنسنت &laqascii117o;شخصيّة"، فيما شرح فنسنت أنّ خلافات بينه وبين بلمار أدّت إلى رحيله.
ج ـ الإفلات من معاقبة الاحتجاز التعسفيّ. حتى الآن، يُمنع الضبّاطُ الأربعة الذين احتُجزوا تعسفياً حوالى أربع سنوات في هذه القضيّة، وهم: جميل السيّد، علي الحاج، ريمون عازار ومصطفى حمدان، من إخضاع المسؤولين عن احتجازهم للملاحقة القانونيّة. فقد عَوّق مكتبُ المدّعي العام محاولات جميل السيّد من الوصول إلى بعض المستندات الموجودة في حوزة المكتب، علماً بأنّها تسمح لمحاميه بمتابعة دعاوى قُدّمتْ أمام محاكم في باريس ودمشق. والمستندات التي طلبها السيّد هي الآتية: 1) نسخة مصدّقة عن الملفّات المتعلّقة بشكاوى السيّد، كانت السلطاتُ اللبنانيّةُ قد أرسلتها إلى المحكمة في 1/3/2009؛ 2) نسخة مصدّقة عن الملفّات المتعلقة بشهادات الشهود التي يُزعم أنّها ورّطت السيّد في اغتيال الحريري؛ 3) التقارير التي قُدّمت إلى المدّعي العامّ اللبنانيّ والمتعلّقة بتقويم الشهادات المذكورة أعلاه، ولا سيّما التقارير التي أعدّها سيرج برامريتز وقدّمها في 8/12/2006؛ 4) رأي بلمار في ما يخصّ احتجاز السيّد والمحتجزين الآخرين، ويُزعم أنّه أُرسل إلى المدّعي العامّ اللبنانيّ؛ 5) أيّ مستند ثبوتيّ آخر يَلْزم لملاحقة الجرائم ممّا قد يكون في حوزة الرئيس كاسيزي.
لقد زعم مكتبُ بلمار أنّه يُفترض بمعظم هذه الوثائق أن يبقى سرّياً حتى تقديم قرار الاتهام. غير أنّه ما من سبب وجيه يدعو إلى اعتبار خلاصة آراء بلمار ومحقّقين آخرين في لجنة التحقيق الدوليّة المستقلّة في مسألة الاحتجاز (وهي خلاصة قُدّمتْ إلى القضاء اللبنانيّ) سرّيّة. لكنّ مساعدة الأمين العامّ للأمم المتحدة للشؤون القانونيّة، باتريسيا أوبراين، أعلنتْ أنّ الأمم المتّحدة تطلب من المحكمة والمدّعين العامّين ومحامي الدفاع، في ما يخصّ النظر في طلب السيّد الحصولَ على ملفّه الجزائيّ وفي أيّ إجراءات أخرى، الامتناعَ عن تقديم أيّ أدلّة في ما يتعلّق بأيٍّ من وثائق الأمم المتحدة من دون إذن مسبّق من الأمم المتحدة. غير أنّ إقامة أوبراين الاعتبارَ لملكيّة الأمم المتحدة لقسم من سجلات التحقيق الجنائيّ تمثّل خرقاً لاستقلاليّة المحكمة الخاصّة بلبنان، وتُعدُّ من ثمّ إشارة إلى تدخّل سياسيّ دوليّ في إجراءات الدعوى القضائيّة.
في الجوهر، إذاً، يُفلت المسؤولون عن الاحتجاز التعسّفيّ من المحاسبة بفضل محكمة دوليّة أنشئتْ، كما يُزعم، &laqascii117o;لإنهاء الإفلات من العقاب"!
د ـ تحقيقات مثيرة للريبة وقراراتُ اتهام مشكوكٌ في أمرها. يؤدّي مديرُ قسم التحقيق مايكل تايلور دوراً محورياً في إعداد قرارات الاتهام الصادرة عن المحكمة الخاصّة بلبنان. وكان تايلور قد عمل &laqascii117o;رئيساً للاستخبارات برتبة مفوّض لفرقة مكافحة الإرهاب التابعة لشرطة نيو سكوتلاند يارد من آذار/ مارس 2004 إلى آب/ أغسطس 2006". ويُزعم أنّه أدار أيضاً التحقيقات المتعلّقة بحزب الله؛ فقد أعلن تقريرٌ صادرٌ عن إحدى لجان الكونغرس الأميركيّ في 8/10/2010 أنّه &laqascii117o;في آذار/ مارس 2010، استجوب المدّعي العامّ للمحكمة الخاصّة بلبنان العديدَ من المسؤولين في حزب الله، بمن فيهم الحاج سليم الذي يقود وحدة العمليّات الخاصّة، ومصطفى بدر الدين، رئيس وحدة مكافحة المخابرات، ووفيق صفا، المسؤول الأمنيّ". منذ عام 2009، أوقفتْ قوى الأمن اللبنانيّة عدداً كبيراً من الأشخاص، بمن فيهم موظّفون حكوميون في مجال الاتصالات، للاشتباه بتجسّسهم لمصلحة إسرائيل. وقد ربطتْ قيادةُ حزب الله بين شبكات التجسّس ومخطّط أوسع لاستغلال التحقيقات التي تجريها المحكمةُ الخاصّةُ بلبنان، إذ إنّ معظم تقارير لجنة التحقيق الدوليّة والتقارير التي يُزعم أنّها تسرّبتْ من مكتب بلمار استندتْ إلى معلومات جُمعتْ من هواتف خلويّة ومن شبكات الاتصالات.
د ـ 1 ـ تايلور يتحرّك. يستطيع تايلور، بصفته مدير قسم التحقيق، الوصول إلى مقدار كبير من البيانات والسجلات الرسميّة من الحكومة اللبنانيّة وأجهزتها الأمنيّة والاستخباريّة، بما فيها ملفّات تتعلق بالأوضاع الشخصيّة، وسجلات الهواتف، وتسجيل السيّارات، وملفّات طلاب الجامعة اللبنانيّة. وقد قام محقّقان يعملان ضمن فريقه، وهما أوستراليّ وفرنسيّ، في 27/10/2010، بمحاولة جمع معلومات عن عناصر من حزب الله من مكتب الطبيبة النسائيّة إيمان شرارة في معقل لحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبيّة، &laqascii117o;بعد تحديد موعد من أجل معاينة ملفّات 14 شخصاً على الأقلّ، قاموا بزيارة عيادتها منذ عام 2003". لم يُسمح للمحققين بإنهاء مهمّتهما، إذ هاجمتهما نساءٌ استوليْن على حقيبة كان يحملها أحدُهما وتحوي حاسوباً محمولاً ووثائقَ رسميّةً تتعلّق بالمحكمة. إذّاك، توجّه كاسيزي إلى بان كي مون وسعد الحريري، في 29/10/2010، لينقل إليهما &laqascii117o;قلق المحكمة الشديد حيال الحادثة". وأضاف &laqascii117o;لن نسمح بأن تؤثّر هذه الحادثة المؤسفة على سير عمل المحكمة". لكنّ فريق تايلور لم يحاول أن يزور مكتب شرارة أو أيّ موقع آخر في الضاحية مجدّداً. ويُذكر أنّه لم يُقبضْ على أيّ كان ولم تُعَد الأغراضُ الخاصّةُ بالمحكمة.
د ـ 2ـ إثبات كاذب: الاتصالات. أشار تقريرُ لجنة التحقيق الدوليّة الصادر في 20/10/2005 إلى أنّ أعضاء رفيعي المستوى في الحكومتَين السوريّة واللبنانيّة متورّطون في اغتيال الحريري. واستند التقرير إلى مخابرات هاتفيّة أُجريت بين بطاقات محدّدة مسبقة الدفع أقامت صلات بين مسؤولين بارزين لبنانيين وسوريين وأحداث محيطة بالجريمة.
لكنّ تقريراً صحافياً كندياً مثيراً للجدل، بُثّ في أواخر عام 2010 واستند إلى محقّقين عملوا مع بلمار وعرض نسخاً من سجلات تحقيق سرّيّة، ادّعى بأنّ &laqascii117o;إثباتات جمعتْها الشرطةُ اللبنانيّة، ثم الأممُ المتحدة بعدها بأمد طويل، تشير بشكل قويّ جداً إلى أنّ القتلة هم من حزب الله المجاهد الذي يحظى برعاية كبيرة من سوريا وإيران. وقد استحصلتْ محطّة سي بي سي نيوز على إثباتات تستند إلى هواتف خلويّة وثابتة وتمثّل محور القضيّة". وخلص التقرير إلى أنّ تحليل الاتصالات قاد إلى &laqascii117o;الخرق الأكبر والأوحد الذي حقّقتْه اللجنةُ منذ إنشائها". لكنْ في 22/10/2010، أدان الاتحادُ الدوليّ للاتصالات &laqascii117o;انتهاكَ إسرائيل لقطاع الاتصالات في لبنان". وشدّد على &laqascii117o;الحقّ الكامل" الذي يتمتّع به لبنان في تعويض الضرر الذي لحق بشبكة اتصالاته. وأتت الإدانة بعد مساع حثيثة بذلها وزيرُ الاتصالات اللبنانيّ شربل نحّاس لإقناع المشاركين بذلك.
في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر، قال نحّاس إنّ إسرائيل تتابع اختراقها التجسّسيّ الواسع النطاق في لبنان. وقد شرح خبير تقنيّ لبنانيّ يعمل في وزارة الاتصالات السهولة التي خرقتْ بها إسرائيلُ شبكةَ الاتصالات، وأضاف إنّ الإسرائيليين زرعوا أجهزة تنصّت في هوائيّات شبكة الاتصالات قرب الحدود مع لبنان. وفي عام 2009، أطلق لبنان حملة كبيرة استهدفتْ خلايا التجسّس الإسرائيليّة، فأوقف حوالى 100 شخص، بمن فيهم عناصرُ من قوى الأمن والجيش وقطاع الاتصالات، للاشتباه بتجسسهم لمصلحة إسرائيل. واعترف عدد من المشتبه فيهم بأدوارهم في مساعدة إسرائيل على تحديد أهداف يعود معظمُها إلى حزب الله وتعرّضتْ لقصف مركّز عام 2006.
د ـ 3 ـ حديث قاضي الإجراءات التمهيديّة عن الاستخبارات. أعلن دانيال فرانسين في 13/5/2010 أنّه &laqascii117o;سوف يفيد من كلّ التقنيات في نضاله ضد الإرهاب". وعندما سُئل عن التقارير التي تؤمّنها أجهزةُ الاستخبارات، قال: &laqascii117o;في هذه القضيّة، المهمّ معرفة كيفيّة جعل هذا النوع من المعلومات منسجماً مع الإجراءات القانونيّة التي هي علنيّة، فيما يجب أن يبقى العمل مع أجهزة الاستخبارات سرّياً". وحين سُئل في هذه المقابلة النادرة كيف يستطيع قاضٍ أن يثق بمصادر معلومات أمّنتها أجهزةُ الاستخبارات عندما يتعامل مع قضية إرهابيّة، أجاب: &laqascii117o;هذا ليس سهلاً بالطبع. يجب إقامة روابط ثقة. لدينا أجهزة شرطة متخصّصة تعمل لخدمتنا".
د ـ 4 ـ تسرّب التحقيقات. قبل أن تنشر سي بي سي نيوز تلك الوثائق السريّة في 21/11/2010، كانت دير شبيغل قد نشرتْ تقريراً مشابهاً مثيراً للجدل (23/5/2009). وزعم كاتب التقرير اريك فولاث أنّه &laqascii117o;عَلم من مصادر قريبة من المحكمة، وتحقق من المعلومات من خلال التدقيق في وثائق داخليّة، أن دعوى الحريري سوف تأخذ منعطفاً مثيراً. فالتحقيقات الكثيفة في لبنان تشير كلّها إلى خلاصة جديدة: ليس السوريون مَن خطّطوا للهجوم الشيطانيّ ونفّذوه، بل قوات خاصّة من التنظيم اللبنانيّ الشيعيّ حزب الله. ويبدو أنّ المدّعي العامّ بلمار وقضاته يريدون أن يكتموا هذه المعلومات التي يعرفونها منذ حوالى شهر".
رفض بلمار التعليق، لكنْ يبدو أنّ معلومات تتعلّق بقرار اتهام عناصر من حزب الله قد تسرّبتْ من مكتبه إلى سعد الحريري. وقال السيّد حسن نصر الله في تموز/ يوليو 2010 إنّ الحريري أخبره بأنّ مذكّرات توقيف لأعضاء من حزب الله سوف تُصْدرها قريباً المحكمةُ الخاصة بلبنان. وادّعى الحريري أنه كان يُتوقّع صدورُ ثلاث مذكرات توقيف، لكنْ في نهاية 2010 يمكن أن يُساق إلى المحكمة ما بين 20 إلى 50 مسؤولاً من حزب الله. وخلال لقاء بين الرجلين، عبّر الحريري عن قلقه إزاء وحدة البلد، وقال إنّه اعتقد أنّ قادة حزب الله لن يتأثروا بمذكّرات التوقيف وأنّ &laqascii117o;عناصر غير منضبطين" من الحزب وحدهم هم الذين سيُستهدَفون. أما نصر الله، فقد رفض مذكّرات التوقيف جازماً بأنّ المحكمة تخضع لتأثير إسرائيل.
من بين الذين سيصدر قرارٌ اتهاميّ في حقهم، &laqascii117o;مصطفى بدر الدين، وهو مسؤول كبير في حزب الله وصهرُ المسؤول العسكريّ عماد مغنيّة الذي كان من أكثر المطلوبين من مكتب التحقيقات الفدراليّ قبل اغتياله منذ حوالى ثلاث سنوات". ويعتقد أيضاً محققو بلمار أنّ مغنيّة أدى دوراً في تفجير السيّارة الذي أودى بحياة الحريري.
2 ـ الاتهام تحت المجهر
1 ـ اتهام &laqascii117o;عناصر غير منضبطين" = اتهام نصر الله. مثّل قرارُ الاتهام الذي سيصدره بلمار في حق &laqascii117o;عناصر غير منضبطين" من حزب الله، لا في حقّ قادته أو مسؤوليه، جزءاً من التصاريح الغربيّة الرسميّة حول لبنان. وفي مقابلة أُجريتْ أخيراً، شدّدتْ سفيرةُ بريطانيا في لبنان فرانسيس غاي على أنّ &laqascii117o;المحكمة لن تتهم أيّ طائفة أو حزب، بل ستتهم بعض الأفراد". وكانت وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة ميشيل أليو ماري أكثر إسهاباً؛ فقد أعلنتْ في 4/1/2011 أنّ &laqascii117o;لدى حزب الله عناصر منتخبين في مؤسّسات حكوميّة.... وإذا اشتبهت المحكمة الخاصة بلبنان بأشخاص، فسوف يُشتبه بهم كأفراد لا كممثلين عن حزب أو طائفة". لكنّ مراجعة نظام المحكمة الأساسيّ تُظهر أنّ من المرجّح أن تُتَّهم قيادةُ حزب الله إذا اتُهم بعضُ &laqascii117o;أعضائه غير المنضبطين"؛ إذ إنّ الأعضاء الأفراد هم قانونياً ضمن بنية القيادة في المنظمة.
فالنظام المذكور ينصّ على الآتي: &laqascii117o;في ما يتّصل بالعلاقة بين الرئيس والمرؤوس، يتحمّل الرئيسُ المسؤوليّةَ الجنائيّةَ عن أيٍّ من الجرائم... التي يرتكبها مرؤوسون يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليّتيْن نتيجةً لعدم سيطرته سيطرة سليمة على هؤلاء المرؤوسين إذ: (أ) يكون الرئيس قد عرف أو تجاهل عن عمدٍ أيّ معلومات تبيِّن بوضوح أنّ مرؤوسيه يرتكبون أو هم على وشك أن يرتكبوا تلك الجرائم؛ و(ب) تتعلّق الجرائم بأنشطة تندرج في إطار مسؤوليّة الرئيس وسيطرته الفعليتين؛ و(ج) لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب مرؤوسيه لتلك الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والملاحقة القضائيّة".
إذا اتُهم عناصرُ من حزب الله بارتكاب الجريمة، فمن المستبعد تماماً ألا يكون رؤساؤهم قد عرفوا بتخطيطهم لارتكاب مثل هذه الجريمة، ولا سيّما أنّه توجّب نقلُ أكثر من طنّ من المتفجرات ووضعُه في عربة؛ كما توجّب تجنيدُ عدد كبير من الأشخاص من أجل جمع المعلومات عن تنقّل الهدف وبرنامجه اليوميّ.
يُعدّ حزبُ الله &laqascii117o;تنظيماً سرّياً لا يمكن اختراقُه ومصاباً بجنون الاضطهاد، ويمثّل فيه تجنيدُ كوادر شيعيّة العنصرَ الأمنيَّ المحوريّ". ويدّعي بعضُ المراقبين الأميركيين أنّه &laqascii117o;أقام جهاز استخبارات متطوراً يصل إلى داخل الولايات المتحدة". فمن المستبعد تماماً ألا يُشتبه بقيادة حزب يُزعَم أنّه على هذا القدر من التطور في امتلاك معلومات عن اغتيال الحريري إذا صدر قرار اتهام في حقّ بعض أعضائه.
في الواقع يمكن أن يُعَدّ عدمُ التحقيق في احتمال ضلوع نصر الله وآخرين في قيادة حزب الله في حال صدور قرار اتهام بحق بعض أعضائه غيرَ منسجم مع &laqascii117o;أرقى المعايير الدوليّة المعمول بها على صعيد العدالة الجنائيّة" التي يُفترض بالمحكمة أن تعمل وفقاً لها بحسب القرار 1757.
2 ـ تأخير صدور قرار الاتهام لأسباب سياسية. وفق قرار مجلس الأمن الرقم 1757 &laqascii117o;تباشر المحكمةُ الخاصّة أعمالها في موعد يحدّده الأمينُ العامّ بالتشاور مع الحكومة، آخذاً في اعتباره التقدّم المحرز في عمل لجنة التحقيق الدوليّة المستقلة". ولقد حُدّد ذلك الموعدُ في 1/3/2009. لكنْ فقط في الأمس القريب، وتحديداً في 17/1/2011، أيْ بعد انقضاء أكثر من 22 شهراً على إطلاق عمل المحكمة، قدّم مكتب بلمار قرار الاتهام إلى قاضي الإجراءات التمهيديّة!
على سبيل المقارنة لا أكثر، صدر أولُ قرار اتهام عن المحكمة الجنائيّة الدوليّة الخاصّة بيوغوسلافيا السابقة بعد أربعة أشهر من تعيين المدعي العام. في المقابل، عُيّن بلمار مدّعياً عاماً للمحكمة الخاصّة بلبنان في آذار/ مارس 2009 بعدما شغل منصب رئيس لجنة التحقيق الدولية لمدة سنة واحدة (2008). وفي كانون الثاني/ يناير 2011، أيْ بعد أكثر من ثلاثة أعوام من التحقيقات الدوليّة المتواصلة، لم يجر اعتبار أيّ شخص مشتبهاً فيه رسمياً ولم يُعتقَل أيّ كان. وخلال تلك الفترة، شاعت معلومات عن تدخل السعوديّة ودول أخرى في مسعى لتأجيل قرار الاتهام.
يجدر التوقف عند توقيت صدور قرار الاتهام. فقد أعلنت المحكمةُ عنه رسمياً في 17/1/2011، في الوقت الذي كان يُفترض فيه بأعضاء البرلمان أن يسمّوا رئيساً جديداً للحكومة بعد انهيار حكومة سعد الحريري بسبب استقالة أحد عشر وزيراً منها نتيجةً للتعاون الحكوميّ مع المحكمة. وسُرّبتْ معلومات عن موعد قرار الاتهام، قبل أن تعلنه المحكمة رسمياً، إلى وكالة الأنباء الفرنسيّة وإلى موالين للحريري من سياسيين (الوزير بطرس حرب) ووسائل إعلام. وبعد ذلك اتهم نصر الله المحكمةَ بتوقيت قرار الاتهام بشكل يؤثر في عملية تأليف حكومة جديدة. وقد جاء الحديث عن صدور قرار الاتهام في وقت كانت فيه الولاياتُ المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة تمارس ضغوطاً على أعضاء مجلس النوّاب لتسمية سعد الحريري مجدّداً رئيساً للحكومة، علماً بأنّه قابل أوباما وساركوزي منتصف الشهر الماضي.
3 _ ردود الفعل حيال قرار الاتهام المتوقَّع
أعلن السيّد حسن نصر الله في 10/11/2010 أنّ حزبه لن يسمح بتوقيف أيٍّ من عناصره إذا أصدرت المحكمة قرارَ اتهام بحقهم. فردّ مساعد وزيرة الخارجيّة للشرق الأدنى جيفري فيلتمان بالتشديد على أنّه &laqascii117o;مهما هدّد وتوعّد حزب الله، فسوف يستمرّ عمل المحكمة الخاصة بلبنان".
واجه حزبُ الله التسريبات أعلاه باتهامه إسرائيلَ باغتيال الحريري. ففي 8/8/2010، قدّم نصر الله، في ظهور متلفز استمرّ ساعتين، قرائن تشير إلى تورّط إسرائيل؛ كما وصف المحكمة الخاصّة بلبنان بأنّها &laqascii117o;مشروعٌ إسرائيليّ،" ودعا إلى قيام لجنة لبنانيّة للتحقيق في اغتياله. وقال إنّه حصل على معلومات مؤكّدة ترتبط بالتحرّكات الجويّة الإسرائيليّة يوم اغتيال الحريري، وإنّ طائرة تجسّس إسرائيليّة كانت تقوم بمراقبة الخطّ الساحليّ بين صيدا وبيروت وجونية قبل ساعات من اغتياله. وتابع إنّه يمكن أن تستحصل أيُّ لجنة تحقيق على هذا الفيديو للتأكد من صحته، وأنّهم سيتعاونون إذا كانت الحكومة اللبنانيّة مستعدّة لتأليف لجنة لبنانيّة للتحقيق في القضيّة. سارعتْ إسرائيل إلى دحض هذا الادعاء، على الرغم من أنّ جيشها سبق أن اعترف، في تشرين الأول/ أكتوبر 2010، بأنّ بعض المعلومات التي كشف نصر الله أنّها في حوزته، وتتعلّق بالحركة الجويّة الإسرائيليّة، صحيحة. وقال مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى لرويترز إنّ &laqascii117o;المجتمع الدوليّ، والعالم العربيّ، والشعب اللبناني (وهذا هو الأهمّ)، يعرفون جميعاً أنّ هذه الاتهامات سخيفة بكل بساطة".
ومع أنّ نصر الله أقرّ بأنّ الصور والمعلومات التي عرضها أثناء ظهوره المتلفز لا تمثّل أدلّة قاطعة ضد إسرائيل، فإنّه لم يصدر عن مكتب المدّعي العامّ أيّ إشارات تكشف أنّه أجرى تحقيقاً أو أنّه مهتمّ بالتحقيق في احتمال تورّط إسرائيل في اغتيال الحريري. وفي هذه الأثناء، يكرّر دبلوماسيون غربيون أنه يُتوقَّع من المحكمة أن تتهم عناصر من حزب الله.
ملاحظات ختاميّة
بعد أكثر من خمسة أعوام من التحقيقات الدوليّة، لم يُتَّهم أحد، وأُطلق سراحُ الضبّاط الأربعة بعدما اعتُقلوا تعسفاً لمدة أربع سنوات. وكان نائب مفوض الشرطة، الأوسترالي نيك كالداس، الذي شغل منصب مدير قسم التحقيق في مكتب المدّعي العامّ ، قد أعلن أخيراً أنه لا ضمانات بمقاضاة أحد.تتواصل العمليّة القضائيّة الدوليّة في قضيّة اغتيال الحريري، لكنّ المحكمة الخاصة بلبنان تظلّ تحقيقاً استخبارياً لا نهاية له، يُجرى بتوجيه دوليّ، ويكلّف اللبنانيين كلّ سنة أكثر من ميزانية &laqascii117o;النظام العدلي" المحليّ بأكمله. وتسهم التصريحاتُ المتكرّرة الصادرة عن مسؤولين في المحكمة، والتسريباتُ الإعلاميّة الرفيعة المستوى عن هويّة المتهمين، في تقويض صدقيّة المحكمة. كما أنّ قواعد الإجراءات والإثبات قد تسمح بالتغاضي عن إمكان التلاعب ببعض مصادر الإثبات، وليس أقلها الاتصالات.إنّ تاريخ لبنان في ما يخصّ الملاحقة القانونيّة لجرائم الاغتيالات السياسيّة فقير إلى حدّ يُرثى له. ومع ذلك لا يُتوقّع من تدويل الاحتكام إلى القضاء أن يولّد أيّ نتيجة غير التصميم الدوليّ على إحقاق اللاعدل.
* من أسرة &laqascii117o;الأخبار" ومُحاضر جامعي. والنصّ جزء من محاضرة أُلقيت في كليّة لندن للاقتصاد في 18/1/2011. وتنشر كاملة في العدد المقبل من مجلّة &laqascii117o;الآداب" ـــ ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية