- صحفة 'السفير'
مصطفى فتحي
وسط ثورة مصرية نجحت في تدمير مشروع 'الإخوان المسلمين' في مصر إلى الأبد، ارتفعت صورة الحسيني أبو ضيف في كل ميادين مصر منذ يوم '30 يونيه'... وأمام قصر الاتحادية ظهرت خيمة تحمل اسم 'الحسيني أبو ضيف'، ويعتصم أمامها عشرات الصحافيين المصريين الذين قرّروا إسقاط النظام، وهم يرتدون قمصاناً عليها صورة الصحافي الراحل، وجملة: 'الحسيني يقول لك ارحل'.
يقول الصحافي والناشط السياسي علاء زغلول إنّ 'قضيّة الحسيني أبو ضيف كانت من أهم أسباب الثورة على مرسي. وكان زغلول واحداً من عشرات الصحافيين الذين وقفوا على سلالم نقابة الصحافيين مؤكدين: سنحوّل حياة النظام الحاكم إلى جحيم حتى يتم محاكمة قاتل الحسيني أبو ضيف'.
لم يكن الحسيني أبو ضيف وحده من قتل في عهد الرئيس محمد مرسي المنتمي لجماعة 'الإخوان المسلمين'. نشطاء سياسيون ومواطنون آخرون، قتلوا بالطريقة الغامضة نفسها.. لكنّ قدر الحسيني أبو ضيف ــ وربما هو قدر الإخوان أيضاً ــ ان يصبح الحسيني رمزاً لكل من مات في عهد الإخوان، من دون أن تتوصل التحقيقات حتى الآن إلى قاتله.
الحسيني أبو ضيف صحافي مصري (33 سنة)، كان يعمل في صحيفة 'الفجر'، أصيب أثناء تغطيته لأحداث الاشتباكات أمام قصر الاتحادية بين مؤيدي رئيس الجمهورية ومعارضيه، يوم 6 كانون الأول 2012، وتوفي في الثامن منه متأثراً بجراحه.
وبحسب تقرير الطب الشرعي الأول في قضية مقتله، وشهادة الشاهد الذي صاحب الحسيني منذ الساعة 12 مساء يوم الحادث وحتى الثانية والنصف من اليوم التالي، فإن سبب الوفاة كان 'طلقاً نارياً أدى لجرح شبه دائري قطره 32 سنتمتراً اخترق نسيج المخ وفتته'.
تقرير الطب الشرعي لم يقنع 'نقابة الصحافيين المصريين'، فكلّفت الحقوقي سيد فتحي، بتقديم مذكرة طعن على تقرير الطب الشرعي، يوم الخميس 7 آذار 2013. وطالب فتحي في مذكرته بانتداب لجنة ثلاثية لإعداد تقرير جديد، مستنداً في مذكرته إلى الغموض والفشل في التوصل إلى نتيجة، خصوصاً أنّه تمّ إعداد ذلك التقرير على ضوء الكشف الظاهري الذي قام به الطبيب الشرعي. كما أن مذكرة النيابة بشأن الواقعة، وكذلك أقوال الشهود، لم تكن بحوزة الطبيب الشرعي عند إعداد التقرير. لذلك لم يحمل ذلك التقرير إجابة على مدى الاتساق بين تصورات الواقعة، وما وصل إليه من نتائج، ما يجعله قاصراً. لكن فتحي لم يكمل القضية، إذ أنّه توفي إثر أزمة قلبية يوم الثلاثاء 14 أيار الماضي.
***
بدأنا رحلة البحث عن قاتل الحسيني أبو ضيف، في 14 أيار الماضي. كنا على موعد لحضور مؤتمر حقوقي أقامته المجموعة المتحدة وهي إحدى منظمات المجتمع المدني في أحد فنادق القاهرة، بمشاركة مجموعة من الصحافيين والحقوقيين والنشطاء المهتمين بقضية أبو ضيف، لم يزد عددهم عن 45 شخصاً. الهدوء الذي خيم على الجلسة، قطعه الدكتور فخري صالح، كبير الأطباء الشرعيين ورئيس مصلحة الطب الشرعي الأسبق، والذي أعلن بصوته الرخيم أن عملية اغتيال الحسيني نفذها محترفون، مضيفاً أنّ 'قاتله استهدف في جسده الهزيل مناطق تؤدي إلى القتل الفوري منها منطقة أعلى الصدر والرأس'.
عرض فخري صالح ملخصاً للتقرير الاستشاري الذي قام بتنفيذه، ويؤكد أن الرصاص الذي اغتيل به الحسيني أبو ضيف، محرم دولياً، لأنه يتفتت في الجسد. ووصفه بأنه مقذوف ناري رصاصي، ويتم تحويله داخل جسم المصاب به. المجموعة المتحدة التي نظمت هذا المؤتمر طالبت بضم التقرير الاستشاري للدكتور فخري صالح، إلى التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في القضية الرقم 11228 لسنة 2012.
***
كل الهتافات التي تنطلق من حناجر المتضامنين مع قضية الحسيني تحمّل الإخوان مسؤولية مقتل الصحافي الشاب، وهناك بلاغات عدة قدمت للنائب العام تتهم الإخوان بوضوح بقتله. كان أول تلك البلاغات ما قدمته صحيفة 'الفجر' حيث كان يعمل الحسيني. وتقدّمت الصحيفة في 31 كانون الأول 2012 بلاغاً للنائب العام حمل الرقم '4500 بلاغات النائب العام'، وتتهم فيه بالترتيب لقتل أبو ضيف، كلاً من رئيس الجمهورية محمد مرسي، ومرشد جماعة الإخوان محمد بديع، وعصام العريان نائب رئيس 'حزب الحرية والعدالة'، ومحمد البلتاجي الأمين العام لحزب الحرية والعدالة، وأحمد سبيع الصحافي في جريدة 'الحرية والعدالة' والمستشار الإعلامي للحزب، وعبد الرحمن عزّ عضو جماعة 'الإخوان المسلمين'، وأحمد المغير عضو الجماعة نفسها بالتحريض على قتل الحسيني أبو ضيف.
هل كان أبو ضيف 'إخوان'؟
بعد ساعات من موقعة الاتحادية حيث قتل أبو ضيف، أطلّ مرشد جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع في مؤتمر صحافي، وخلفه ملصق كبير، ضمّ صوراً قال إنّها لـ'شباب الإخوان الذين قتلوا في الأحداث، وكان من بين الصور صورة للحسيني أبو ضيف'. ورغم نفي عائلته انتماءه للجماعة، إلا ان هناك إصراراً في صفوف 'الإخوان' على أنّ الحسيني كان منهم، أو على الأقل كان بين صفوفهم حين قتل. هذا الإصرار أعلن عنه مرّة القيادي في جماعة 'الإخوان المسلمين' حلمي الجزار، حين قال في برنامج 'آخر النهار' (30/1/2013) على فضائية 'النهار' أنّ 'أبو ضيف قُتل وهو واقف في صفوف 'الإخوان' أثناء موقعة 'الاتحادية'، ما يعني أن العنف كان من قبل مجموعة من البلطجية ضد الإخوان' ـ على حد تعبيره. وزير الإعلام الإخواني صلاح عبد المقصود المنتمي كرر الكلام نفسه حين قال في الملتقى الإعلامي العاشر المنعقد في الكويت (29/4/2013) إن 'الحسيني أبو ضيف مات وهو في صفوف الإخوان'. إصرار الإخوان على ترديد ذلك كان السبب في انطلاق تظاهرة حاشدة يوم 8 أيار 2013، حين تجمع أصدقاء الحسيني أبو ضيف وبعض أقاربه أمام مبنى 'اتحاد الإذاعة والتلفزيون' ماسبيرو، لإعلان رفضهم لتلك التصريحات متهمين الإخوان 'بمحاولة سرقة الحسيني أبو ضيف وهو ميت'.
قيادات الجماعة ترفض التعليق على سؤال منطقي يحتاج لتفسير. 'فإذا كان الحسيني أبو ضيف ينتمي للجماعة، فلماذا كانت كل كتاباته الصحافية توثق انتهاكات وفساد الإخوان المسلمين'؟ السؤال يطرحه وكيل نقابة الصحافيين المصريين جمال فهمي، والذي يؤكد أنّ الرئيس محمد مرسي متورط في قتل الحسيني أبو ضيف. والسبب برأي فهمي أن الحسيني 'كشف أنّ أحد الأشخاص الذين قد أفرج عنهم بعفو رئاسي هو شقيق نجلاء علي زوجة الرئيس، المتهم في قضية رشوة'. ويستند فهمي الى التقارير التي أصدرتها الرئاسة بأسماء المعفو عنهم بقرار رئاسي. وكان شقيق علي يعمل موظفاً بحي مصر الجديدة، فقام الرئيس بوضع اسمه ضمن قائمة المعفو عنهم. وكان الكشف عن هذه القضية، آخر تقرير كتبه أبو ضيف.
الرئاسة تنفي
'لم نقتل الحسيني أبو ضيف وتقرير الطب الشرعي أكد مقتله بنفس الرصاص الذي قتل به أعضاء جماعة الإخوان المسلمين'. هذا ما قاله ياسر علي، حين كان في منصب المتحدث باسم رئاسة الجمهورية لصحيفة 'واشنطن بوست الأميركية' (27/1/2013). وفي تلك التصريحات، نفى علي أن يكون للجماعة أو حزب الحرية والعدالة أي يد في مقتل الصحافي الحسيني.
ما قاله الشهود
عرفان محمد أبو ضيف، شقيق الحسيني، قال في نص تحقيقات النيابة أثناء استجوابه (4/3/2013)، إنّه علم من أصدقاء وزملاء أخيه ممن كانوا يرافقونه في محيط قصر الاتحادية، أنه صوّر عدداً من المنتمين لتنظيم الإخوان، وهم يذبحون فتاة تبلغ من العمر نحو 14 سنة. ما دفع القتلة حينها إلى الاستيلاء على كاميرته وضربه بالنار. لكن لم يستطع عرفان إثبات كلامه بدلائل، خصوصاً أنه لم تذكر في التحقيقات أن هناك جثة لفتاة أثناء الأحداث، كما فقدت كاميرا الحسيني يوم مقتله.
الشاهد الرئيسي في قضية أبو ضيف هو محمود عبد القادر، والذي كان مرافقاً ومصاحباً لأبو ضيف أثناء قيامه بتصوير الأحداث من كاميرته الخاصة عند محيط الاتحادية. وأشار عبد القادر إلى أنّه تم إطلاق عيار ناري من مسافة مترين، اخترقت الجهة اليمنى من رأس أبو ضيف، ما أدّى إلى وقوعه على الأرض، نازفاً بغزارة. قال عبد القادر في شهادته إنّ أبو ضيف قتل، وهو يريه الفيديوهات التي التقطها للأحداث، ويقول عبد القادر: 'كان الفيديو الذي كنا نشاهده يحتوي على مشاهد لأحد شباب الإخوان، وهو يحمل خوذة وسلاحا آلياً في يده لضرب المعارضين'، لافتاً إلى أنّ أبو ضيف كان يبتسم وسعيداً للغاية وقال بصوت عالٍ: 'شوف الإخوان بيعملوا إيه إحنا قدرنا نوثق جرائمهم ضد المعارضين'.
التحقيق مستمرّ
في بناية عتيقة بوسط القاهرة، يقع مكتب المحامي والحقوقي نجاد البرعي، رئيس المجموعة المتحدة، والممثل القانوني لأسرة الحسيني أبو ضيف. يؤمن البرعي بأن 'هناك تباطؤاً في التحقيق، وأن هناك رغبة بإغلاق ملف اغتيال الحسيني أبو ضيف من دون تحقيق أو محاسبة'. لكنه يؤكد أنّه يعمل جاهداً مع فريق من المحامين لإبقاء ذلك الملف مفتوحاً، حتى يتمّ البت في القضية، ويتم تقديم الجناة للعدالة ومحاسبتهم'.
ويعتبر البرعي أنّ هناك 'شيئا ما خطأ في قضية أبو ضيف'. يصف البرعي الرصاصة التي أطلقت على رأس الحسيني أبو ضيف بأنها مغطاة بمادة الرصاص ويتحول شكلها داخل الجسم، 'ما يعني أن الذين شاركوا في اغتيال الحسيني قتلة محترفون'، على حد تعبيره. 'إلا أن الأجهزة المعنية لم تتحرك، خصوصاً أجهزة البحث الجنائي، كما لم يتمّ إجراء لم تحدث تحريات مباحث حول واقعة قتل أبو ضيف، ولم يتم سؤال المحرضين، ولم يتم تتبع المجرمين والمحرضين على ارتكاب الجريمة، رغم أن هناك كاميرات صورت الواقعة لكن لم يتم تفريغها بشكل حقيقي. وهو ما يستغربه البرعي 'لماذا يخشى النظام من إجراء تحقيق جاد في هذه القضية؟'.
رغم مرور أشهر عديدة على مقتل الحسيني أبو ضيف، إلا أنّ هويّة قاتله لا تزال مجهولة حتى هذه اللحظة. القضية غريبة، ويشوبها الكثير من الغموض. صديق أبو ضيف الصحافي محمد عبد القادر، الشاهد الرئيس في القضية، يقول: 'حين تلقى الحسيني رصاصة في رأسه سقط أرضاً بجانبي وهو ينزف ويبتسم'. ربما كان يعرف أنّه سيتحوّل رمزاً لتمرّد المصريين، في وجه نظام 'الإخوان'.