آدم شمس الدين
أتمّ المونديال يومه الخامس، وهناك من لا يزال يبحث عن تردّدات 'تلفزيون لبنان'. وبعدما حرم عدد كبير من اللبنانيين من المباريات الأولى، وبعدما نشرت وسائل الإعلام صوراً لبعضهم يشاهدونها عن الأرصفة قرب المقاهي، خرج الوزير بطرس حرب أمس بوعد جديد لحلّ، يبدو أنّه لن يجد خاتمةً سعيدة.
كان بثّ مباريات كأس العالم ليكون فرصة للشاشة الوطنية كي تغزو من جديد أجهزة التلفزيون، بعدما أصبحت إكسسواراً، تلتقط تردداتها مصادفةً. ما حصل في الأسابيع القليلة الماضية، وحتى قبل يوم من انطلاق الحدث الرياضي، لا يمكن وصفه بشيء أقل من فضيحة تضاف إلى لائحة طويلة من فضائح الدولة و'مسؤوليها'.
تلاعبت الدولة وعدد من 'ممثليها'، و'تلفزيون لبنان'، وشركة 'سما' الوكيلة الحصريّة لشبكة 'بي إن سبورتس' صاحبة حقوق بثّ المباريات، والمواقع الإخبارية على أنواعها، بأعصاب محبّي الكرة. 'تلفزيون لبنان سيبث المباريات مجاناً.. تلفزيون لبنان لن يبث'، 'هدية أمير قطر تأكدت..'، نفي تقديم أمير قطر هدية للبنان'... تتغير المعلومة مع كل نقرة 'ريفرش'.
قبل انتهاء ولايته، تردّدت أنباء عن تلقي الرئيس ميشال سليمان وعداً قاطعاً من أمير قطر بإعطاء 'تلفزيون لبنان' حقوق بث كأس العالم مجاناً. انتهت صلاحية الوعد بصلاحية الرئيس غير الممدّد له. وقبل يوم واحد من انطلاق صافرة البداية، طار وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى الدوحة، لإقناع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس الوزراء القطري عبد الله بن ناصر آل ثاني بضرورة تقديم هذه الهدية للشعب اللبناني. تأكّد الوعد قبل أن يعاد نفيه بعد ساعات قليلة. لو حقق وزير الداخلية ما وعد به، لكان حرّر عبارة 'شكراً قطر' وأعاد تموضعها من جديد مع مجد كان سيحظى به لتحصيله 'مكرمة' مماثلة.
الفوضى التي نجمت عن كلّ ذلك الأخذ والردّ مخيفة. خلال الايام الماضية، هرع الذين خذلوا من كل الوعود إلى الموزّعين، بشكل يشبه التدافع للحصول على إعاشة في زمن الشدّة. ومن حاول البحث عن حلول بديلة مجانيّة، وصفوا بـ'المتسوّلين'، لعدم اشتراكهم بالقنوات المدفوعة مسبقاً. والنظرة الطبقية والمتعالية هذه وعلى رغم من عدم كونها وليدة اللحظة، تؤشر إلى قدرة السلطة، على استحضار ذلك الخطاب في النقاش العام، ولو بأسخف الطرق. علماً أنها كانت تستطيع تجنب السجال، لو صارحت اللبنانيين منذ البداية، بدلاً من الوعود الكاذبة.
تولّى المحتكر الأصغر، أي شركة 'سما'، الاستيلاء على حقوق البث بعد صفقة مع المحتكر الأكبر قنوات 'بي إن سبورتس' القطرية. وحرصت 'سما' على ترسيخ احتكارها بعد طلب تقدّمت به إلى قاضي الأمور المستعجلة لوقف بث بعض القنوات الأجنبية الناقلة للحدث، والتي تدبّر بعضهم أمره بمشاهدة المباراة الافتتاحية عليها ولو بتعليق غير عربي. هكذا قطع بثّ Tf1 خلال المباراة الافتتاحيّة، كما منع موزّعو 'الكايبل' من نقل بثّ بالقنوات التركيّة والألمانيّة. وخرج المنسق العام لشبكات توزيع الكايبل محمد خالد ليعقد مؤتمراً صحافياً قبل يومين، اتهم فيه الدولة 'بالتهرّب من مسؤولياتها'، مطالباً الحكومة بتشكيل لجنة وزارية للطوارئ لحل هذا الموضوع.
لكنّ الأفدح من احتكار البثّ، كان عدم تمكن عدد من المشتركين بالخدمة من مشاهدة المبارايات، نتيجة الضغط الكبير الذي واجهه الموزعون، أو بسبب تحايل بعضهم الآخر.
وما حصل يكشف أيضاً ولو على نطاق مصغّر، العقلية الاقتصادية التي تدار بها البلاد. فبعد تأكد عدم حصول 'تلفزيون لبنان' على حقوق البث، لم يصدر أي تعليق أو اعتذار عمّن أطلقوا الوعود. القناة الرسميّة خرجت ببيان إنشائي عبر صفحتها الرسميّة على 'فايسبوك'، جاء فيه 'فكّرنا الوعد وعد طلعت وعد مطربة حلوة'.
صمت الجميع، وتركوا الناس فريسة للشركات الخاصة تتقاذفهم كيفما تشاء، وتحاول سدّ أيّ منفذ يستطيع محبو اللعبة استراق النظر عبره إلى المباريات. يرفع بائعو أجهزة البث الأسعار، يرفعون قيمة الاشتراك بالخدمة، لا يهم. فليتدبر الناس أمرهم والله المستعان. وذلك دليل على أنّ الدولة انحدرت بمستوى 'التسول'، من ذلك الذي تعودنا عليه، إلى درك أسفل. تبدو مؤتمرات باريس واحد واثنين وشاكلتها، و'هدايا' المليارات التي فرزت على شكل ديون، كمحطات تاريخيّة سيسترجعها بعض المدافعين عن ضرورتها، للتذكير بـ'كرامة' الدولة فيما ما مضى.. شيء على نسق معزوفة 'سويسرا الشرق' المملة، وعن زمن كان لبنان يحصل على الحسنات والمساعدات وهو مرفوع الرأس!
من حسن حظ كل من تورط في الفضيحة أنها مرتبطة بحدث رياضي، يستطيع أن يشغل العالم كله عن كلّ صغيرة وكبيرة (من ينسى مثلاً تزامن مونديال 1982 واجتياح بيروت في حزيران من العام نفسه، حين ظن كثيرون أن تظاهرات انطلقت في الجزائر تنديداً بالاجتياح ليتضّح فيما بعد أنها احتجاجاً على خروج الجزائر من البطولة). وإذا كان سحر الكرة المستديرة قادراً على جعل الاشتباكات العنيفة بين الأمن البرازيلي والحركة العماليّة، وتطهير 'الفافيلاز' (الأحياء الفقيرة) وتهجير سكانها، مجرد تفاصيل أمام الحدث المنتظر، فبالتأكيد لن تحرك وعود المسؤولين اللبنانيين الكاذبة، 'الشعب'. سيتدبر الناس أمرهم، ويشاهدون المبارايات عن طريق القرصنة أو عبر الإنترنت. لكن الثابت الوحيد أن لعبة 'الفقراء' باتت حصرية لمن يريد أو يستطيع الدفع لمشاهدتها، ولون العشب الأخضر في الملاعب، بدأت تلوح منه رائحة 'نفط' منفرة مصدرها الدوحة.
المصدر: صحيفة السفير