إعلام جديد » السـخرية في فسبكات أحمد بيضون

جورج دورليان(*)

لست فسبوكيًا قط. ولم أكن من أصدقاء أحمد بيضون على صفحة فيسبوكه. ولكنّني من قرّاء صفحاته الورقية التقليدية. فلولا صدور هذين الكتابين لما تعرّفت على هذا الوجه الجديد لأحمد وقدرته على التأقلم مع تقنيات الاتصال الحديثة.

التهمت مضمون هذين الكتابين بمتعة وشهية فائقتين. إلاّ أنني لم أقتنع بعد بفتح صفحة فيسبوك خاصتي والدخول في هذا النسسيج العنكبوتي الحديث. لأنني لم أشعر بعد بضرورة 'الهجرة إلى الفيسبوك واللجوء فيه'.
هذا كتابٌ لم يعتنِ صاحبه بترتيب أبوابه، بل اكتفى باختيار ـ لا أدري إذا اختار فعلاً ـ بعض ما كتبه وأنزله حسب الترتيب الزمني من دون تدخّل من جانبه، تاركًا للقارئ عناء استخراج المضامين والثيمات التي تخترق الدردشة الفسبوكية. سأختار ما لذّ ليّ قراءته من قفشات سلّطت الضوء على شؤون ذات علاقة ببعض السلوكات الاجتماعية من دينية وطائفية وغيرها. اخترت من القفشات ما أراحني منها شخصيًا ولاسيما تلك التي تظهر أنه لا يزال هناك أناسٌ ملتزمون باقتناعات أساسية راسخة من زمان ـ أي قبل 1975 ـ إلى الآن. من بين هذه القفشات، اخترت تلك التي تتمتّع بالسخرية والاستهزاء بأمور ورموز يعتبرها بعض الناس اليوم مقدّسة وخطيرة.

كتاب الحكم (Aphorismes)
لنبدأ بما هو أقلّ خطورة، أي أقلّ قدسية: السلوكات العامة والقضايا اللغوية والسياسية.
في الكتاب مجموعة من الحكم تتطرّق إلى سلوكات الناس وإلى قضايا لغوية وسياسية وحتى دينية. فالحنق في التخاطب، والكذب والعنف والظلم والحقيقة والبحث عنها، كلها أمورٌ يتجلّى الموقف منها في أسلوب حكمي مقتضب وسديد الإصابة، تهكّمي المنحى يغلب عليه منطق التضاد إبرازًا للمفارقة بين القول والفعل، بين الحقيقة والكذب.
تظهر هذه الحكم مدى ابتعاد الكاتب عن المظاهر الخادعة والخضوع لتأثيراتها في محاولته ضبط ما تكتنزه من معان غير معلنة وحقائق يراد إخفاؤها. فالتكاذب والعنف المتبادل وغيرهما من الممارسات تشير إلى أننا قد أضعنا 'مصباح ديوجين' وعلينا العثور عليه أولاً لبلوغ الإنسان.

في شؤون اللغة
على الصعيد اللغوي، بين بَطّيخٍ 'يُفتح' وبِطّيخٍ 'يُكسر' قبل أكله، وسكّين يسعها ادّعاء 'الذكورة والأنوثة، فتدخل على الذكر والأنثى دون حاجة إلى محرم'، و'جماع' هو مزيج من 'الدعس' و'المعس' الحنونين، وذكورة تختصر في 'خصيتين أنثيين'، وخطابة عربية 'تأنف الاعتدال والكلام المعتدل الحرارة والبرودة' لأن الخطيب القدير هو من يجيد اللذع واللسع (أي الضرب)، وفقهاء لا يصفون 'المرأة الزانية' بل 'المرأة المزني عليها' لأن المرأة تكون، في هذه الحالة، مفعولاً بها وليست فاعلاً... يعطينا أحمد بيضون دروسًا في فقه اللغة ودلالاتها، فيذكّرنا بقواعد استعمال 'إن' بعد فعل القول، و'باء' الجرّ الذي لا يدخل إلاّ على المتروك بعد فعل الاستبدال، والفرق بين 'الوَفَيات' و'الوفِيًات' من النساء اللواتي لا يرغبنَ خيانة أزواجهنّ بعد موتهم. وفي السياق نفسه لا يتوانى من الاستهزاء ببعض الألقاب السائدة ولاسيما لقب 'البروفسور' الذي يعرّبه بـ'نصير الجلد على المؤخّرة'، والاستغراب من هاتف 'جوّال وثابت' معًا، ومخالف للدستور اللبناني بسبب توطينه.
أما 'التشاؤم'، فبين معانيها 'التوجّه إلى الشام'، على غرار 'الذهاب إلى ماردين' بالنسبة إلى 'التمرّد'، و'الذهاب إلى اليمن' بالنسبة إلى 'التيامن'.

في الشأن السياسي
في الشؤون السياسية، يطاول الاستهزاء والسخرية دولاً وقيادات وشعارات رائجة. فيدعو للتخفيف من عذابات شعوب المنطقة، إلى أن يتبارز بالمسدّس خادم الحرمين الشريفين والولي الفقيه/المرشد الأعلى بدل تصارع الطوائف والمذاهب، مللها ونحلها، 'في طول هذا الشرق وعرضه'. وإذا كان مصير الشعوب معلّقًا 'بحصاة صغيرة استقرّت في مجرى بول كرومويل' أو 'بأنف كليوبترا الذي لم يكن قصيرًا إلى الحدّ المطلوب'، فإن 'وجهة تاريخنا، نحن أهالي غرب آسيا، منوطة بسلوك الخلايا المتمرّدة في بروستات السيد علي خامنئي'. يستغرب بيضون أيضًا ولع الإسلاميين بشعارات لم يخترعوها، لا هم ولا أسلافهم، ولاسيما شعار البندقية التي صمّمها ضابط شيوعي ونراها ترفرف على البيارق الإسلامية. ولكن يبدو أن الشعار شيء مختلف إذ يبيح ما لا يبيحه اختلاف العقيدة. أما في مسألة 'النسب النبوي'، فيطالب بيضون 'بفصل القمح عن الزؤان' بفحص الـDNA لكل من يدّعي هذا النسب.

في الشأن اللبناني
في الإطار اللبناني، يستحضر بيضون شعار غسّان تويني 'حروب الآخرين على أرضنا' مصحّحًا إياه ليصبح 'شعوب الآخرين على أرضنا' محاكاة لشعار ميشال شيحا 'لبنان الأقليات المتشاركة'. أما تمسّك خصوم السلفيين بما يسمّيه 'نقطة النفاق' الديموقراطي، فيرى أنه يجهر عكس ما يضمر: 'يقولون دولة، ويضمرون طائفة، وعائلة وعصابة. وعليه يكلّفون الناس مشقّة الانتخاب، ويكلّفون أنفسهم مشقّة تزويره'. في الموضوع الوطني، يتساءل 'هل من مقاومة' لاسترداد أراضٍ استولى عليها نصّابون من لبنان؟ وهي أراضٍ مساحتها أكبر من المساحة الفعلية لمزارع شبعا. والسؤال موجّه لمن ليس بحاجة لنسمّيه.
في سبعينات القرن الماضي، كان الماويون يتمثّلون بزعيمهم ماو تسي تونغ. ولما كان هذا الأخير يحبّذ السباحة من بين الرياضات المختلفة، أخذ مؤيّدوه يملأون شواطئ بلدانهم وهم يصرخون 'كلّنا ماو'، مثلما صرخ البعض، منذ سنة، 'كلّنا شارلي إيبدو'، وآخرون، منهم أحمد بيضون نفسه في صفحته الفسبوكية، 'كلّنا جبل محسن، كلنا طرابلس'. على المنوال نفسه، اعتقد الخليفة البغدادي أن مؤيّديه سوف يحبّون ما يحبّه ويكرهون ما يكرهه. ولكن يبدو أن الذي حصل ليس نتيجة المحبة به، 'فلقد ضعفت شهيتي للضحك والموسيقى، يقول بيضون، لا لأن الخليفة لا يحبّهما بل لأنني لا أحب الخليفة'. ولما أفتت بعض الصحف أن قيمة ساعة الخليفة هي ستة آلاف دولار، راح بيضون، انطلاقًا من خبرته في الساعات، 'يفتي بلعن ساعة الخليفة'.
وكونه من أنصار حقوق الإنسان، اعتبر 'التعذيب بنار جهنّم مخالفًا لحقوق الإنسان والتشريعات الدولية'، فيسأل ببراءة المؤمن كيف السبيل إلى وقف هذا التعذيب؟ وذلك لأنه يحبّذ فكرة مارك توين: 'إذهب إلى الجنة من أجل الطقس، وإلى جهنّم من أجل الصحبة'.

في الشأن الديني
وأخيرًا ... نصل إلى السخرية الأخطر، تلك المتعلّقة بأمور الدين. فكلامه لا يستثني أحدًا ولا موضوعًا يتّصل بالشأن الديني. في السياق نفسه تسلك 'فسبكات' الدفتر الثاني منحى المحاكمة العلنية، بلغة السخرية، لجيل وصلت به الوقاحة إلى حدّ تنصيب أحدهم نفسه خليفة لا على المسلمين فقط بل أيضًا على البشرية بأكملها ومن ملكت أيمانه، وذلك في عصر المواطنة والفرد لا الجماعات والقبائل. وهذا ما دفع بالكاتب إلى الجهر بقوة: 'من سلمان رشدي إلى رسّامي 'شارلي إيبدو': نحن مع حرية العبارة وضدّ الديانين الأدعياء. نحن مع العبارة الحرّة أخطأت أم أصابت لأننا بشرٌ أحرارٌ نخطئُ ونصيب.' أما عن السخرية من بعض الظواهر الشائعة في المنطقة، فيستشهد بزياد الرحباني الذي 'علّم (...) الغناء العربي أن يسخر، لا من المجتمع أو من ساسته (فهذا قديم)، بل أن يسخر من نفسه أيضًا وهو يسخر من موضوعه.'
في اقترابه من الموضوع الديني، يتجاوز أحمد بيضون المحظورات والممنوعات مع تمسّكه باللياقة أسلوبًا ومعالجةً. فكل شيء بالنسبة إليه مسموح، والكل يعبر بسلاسة في مدوّنته أو، كما يقول، في 'عرضحاله': الكائنات الدينية من الله ومرسليه، إلى المقامات الدينية من بطاركة ومفتين ومشايخ وفقهاء ومفكّرين، ومؤسسات دينية من طوائف ومذاهب... تحضر في مدوّنته أيضًا المفاهيم الدينية وصورها في الدنيا والآخرة. كلها أمورٌ يقترب منها بأسلوب يزاوج بين التهكّم والرصانة، وينطلق من كيفية ممارسة الدين من قبل من يدّعون أنهم مؤمنون. الدين والتكفير، الحلال والحرام، الجنّة والجحيم، الدين والمجتمع، الدين والفحشاء، الجنة وحور العين، كتب الله، الله والأحزاب، عامل المذهبية وعامل الاستثمار، تفجير الذات، الخطاب الديني وجمله وعباراته، إلخ (...) أترك للقارئ لذّة اكتشاف ما يتضمّنه هذا الكتاب من إشراقات ساطعة تضيء القبيح في قبحه، وترسم طريقًا للتفكّر السليم يوصلنا إلى حيث تنبسط مساحة الفكر النقدي الذي يعالج الظواهر الإنسانية من دون تقبّلها ببلاهة المتزمّت الجاهل.
(*) ناقد ادبي واستاذ جامعي
أحمد بيضون، فسبكات،
الدفتر الثاني، شرق الكتاب، بيروت 2015.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد