- صحيفة 'السفير'
بيسان طي
نركّز في قراءاتنا للأداء الإعلامي اللبناني، على نقد ما تنتجه مؤسساته على الصعيد المحلّي. وتتنوّع القراءات في أسباب تراجع ذلك الأداء، فيرفع عنوان الانقسام السياسي غالباً، مع ما يتبعه من تحويل المنابر الإعلامية إلى &laqascii117o;ساحات حرب"، وفق التعبير الأكثر تداولاً، أو إلى وسائط دفاع عن فرقٍ سياسية. النقاش القائم يعكس الإحساس بوجود &laqascii117o;أزمة ما"، إنّه بداية الإقرار بحقيقة وجود مشكلة، لها بالتأكيد أكثر من سبب. فإلى جانب الفعل السياسي يجب التوقف عند التراجع الكبير في المعايير المهنيّة، وهي ضامن مهم لعدم الانزلاق الأعمى أو المطلق في المعسكرات السياسية. ولكن لندع النقاش حول أسباب الأزمة، وننتقل إلى سؤال قلما نتداوله، وهو يلخّص أيضاً أحد وجوه الأزمة. سؤالنا هو: كيف ولماذا فقد الإعلام اللبناني، وجوده على الساحة العربية؟
شكّلت الصحافة اللبنانية مرجعاً حاضناً للمثقفين العرب وللحراك الثقافي والسياسي اليساري والليبرالي في بيروت الستينيات، ثم خلال الحرب الأهلية. كانت تلك الصحافة مرجعاً ومدرسة مهنية (إضافة إلى المدرسة المصرية). خلال عصر الفضائيات، أي منذ منتصف التسعينيات، احتلت &laqascii117o;المستقبل" و&laqascii117o;المؤسسة اللبنانيّة للإرسال" مكانةً متقدمة جداً، خصوصاً في مجال برامج المنوعات. ورغم تراجع الحضور الإعلامي الثقافي والسياسي اللبناني، وتفوّق الصبغة الترفيهية الخفيفة، فإن ذلك لا يمنع الإقرار بنجاح تلك الفضائيتين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنهما سمحتا في تلك الفترة بمساحة من الإبداع. أفرد تلفزيون &laqascii117o;المستقبل" مكاناً لبرنامج ثقافي بامتياز، عنينا به &laqascii117o;خليك بالبيت" الذي عرف خلاله الشاعر زاهي وهبي كيف يصالح الجمهور العريض مع أبرز المثقفين والفنانين العرب. كما سمح &laqascii117o;المستقبل" وفق رؤية مديره السابق علي جابر لفنانين شبان بالتجريب من أجل صورة تلفزيونية جميلة. أما في &laqascii117o;المؤسسة اللبنانية للإرسال" فقد احتضنت الترفيه المصنوع بجودة عالية وفي برامج يبتكرها عقل إعلامي لبناني ــ أو يطوّرها، فصار جاذباً لفئات متعددة من المجتمعات العربية. وطرحت المحطة نفسها من خلال برامج سياسية ـ ثقافية ـ اجتماعية بـ&laqascii117o;سقف عالٍ" وفق التعبير الدارج، &laqascii117o;الشاطر يحكي" مثالاً.
بعد التغيّرات الضخمة في عالم الفضائيات، أين موقع الإعلام اللبناني عربياً اليوم؟ الإجابة قاتمة إلى حد كبير، ومن الصعب بمكان ربط هذا التراجع بالانقسام والتمترس السياسي. فقد طبع ذلك الانقسام الحياة الإعلامية اللبنانية منذ نشوء دولة لبنان الكبير، وكان بارزاً في محطات مفصلية مثل ثورة 1958، والحرب الأهلية اللبنانية. لكن المعايير المهنية العالية التي حكمت المؤسسات الصحافية، حصّنت المهنة من الانزلاق إلى نوع من &laqascii117o;العمى السياسي". كما أن التفوق في صناعة الترفيه، كان ورقة عبور لفضائيات لبنانية إلى الفضاء العربي عامة. الآن صارت معظم البرامج الترفيهية المعروضة على الشاشات اللبنانية مستوردة من فضائيات عربية، تقوم بتعريب برامج أجنبية.
السؤال عن تواجد الإعـلام المحـلّي على الساحـة الـعربية يهدف إلى وضع الإصبع على الجرح. فقد شكّل النجاح عربياً، عمقاً مهماً لتطور الإعلام اللبـناني. وإذا كانت المؤسسـات الإعلاميّة المكتوبة غير قادرة على التوسع ـــ وحدها ــ خارج الحدود مع تراجع كبير في نسبة القراءة عامة، فـإن ذلك لا ينطبق إطلاقاً على الإعلام المرئي (والمسـموع أيضاً). بل إن هذا التراجع ضـرب في لبـنان إعلامـاً ناشـئاً هو الإعلام الإلكـتروني أو الافتراضــي، هنا أيضاً لا نلمس حضوراً عربياً لأي موقع لبناني.
مرة أخرى، يحتاج الكلام عن تراجع الإعلام اللبناني إلى نقاش مفتوح وموسّع تشارك فيه مجموعات إعلامية متنوعة. وحتى ذلك الحين ثمة إجابة تلح علينا وتُختصر بنقطتين تتمثلان بغياب الإعلام اللبناني عن مواكبة تطورات الإعلام العالمي تطوراً جدياً. فمثلاً لا يشكّل إنتاج الأفلام الوثائقية أولوية بالنسبة للمحطات اللبنانية (الجزيرة خصصت لها قناةً مثلاً) ويتم الخلط بين تلك الأفلام والريبورتاجات الصحافية الطويلة (التي تسمّيها محطاتنا اللبنانية أفلاماً وثائقية وفي ذلك إشارة إلى سوء فهم خطير). كما أن مفاهيم الـ Cross media (الشبكات)، لم تدخل في إطار اهتمامات الإعلام اللبناني.
هل يعني ذلك أن نفقد الأمل تماماً في قدرة مؤسساتنا على الابتكار؟ جردة في البرامج المنتجة منذ سنوات (مرئياً ومسموعاً) تلفتنا إلى برنامج &laqascii117o;شي أن أن" مثلاً، والذي أثبت أن الإعلام اللبناني ما زال قادراً على احتضان تجربة متميّزة، ذات طابع ثقافي وسياسي حر وبلغة عصرية.