- صحيفة 'السفير'
بيسان طي
غرق جزء من نفق طريق المطار أمس الأوّل بفعل الأمطار، أو بالأحرى، بفعل غياب الدولة عن تأمين مستلزمات البنى التحتيّة. غرق النفق كما فاضت المياه في عدد كبير من الطرق في لبنان. المختلف في ما يتعلّق بنفق طريق المطار أن ثمّة أناساً علقوا هناك، سمعنا هذه الجملة عرضاً على الشاشة، كأنّها مجرد تفصيل في مشهد عام غارق في المياه. خرج المراسلون ليقولوا إن مواطنين كانوا هنا، وانّه لا إصابات، وانّ والدفاع المدني يقوم بتسوية الأمر... كلمات محدودة وانتهى الأمر.
حادث غرق نفق طريق المطار، ليس مجرّد تفصيل. هناك عاش مواطنون جولة رعب.. علقوا في نفق مظلم، عطلت المياه سياراتهم في مكان يصعب التواصل منه عبر الخلوي. هناك بقوا وقتاً طويلاً، لم تحدّده لنا التلفزيونات لأنّها لم تبحث عنهم. ربما علقوا دقائق وربما ساعات في البرد، كيف خرجوا من سياراتهم؟ بماذا شعروا وهم عالقون؟ كيف تصرفوا؟ كم كان عددهم؟ هل بكى الأطفال؟ هل جاعوا؟ هل احتاج بعض العالقين إسعافات أولية أو نقلاً إلى المستشفى؟ ماذا كانوا يردِّدون في سرهم؟ كيف كانوا يعبرون عن غضبهم وخوفهم؟ هل كانوا يصرخون وهل وهل وهل..؟ عشرات الأسئلة التي تستحقّ أن تفرد لها العناوين الأولى، أن تُفتتح بها نشرات الأخبار، أن تخصّص لها ساعات من البث التلفزيوني. أسئلة تستحقّ أن يحمل الإعلاميون كاميراتهم ويتوجهوا بها إلى المسؤولين والخبراء الحقيقيين (لا المستهلكين عبر الشاشات) لنفهم لماذا غرق النفق وغيره من الأنفاق والطرق العامّة؟ أسئلة تستحقّ بحثاً استقصائياً عميقا يبحث عن الأسباب بتفاصيلها، ويعمل على تحديد المسؤوليات، والأهمّ أن يسلّط الضوء على معاناة الناس.
هي معاناة الناس هذه الغائبة أيضاً عن إعلامنا في تغطية لجنون الاقتتال الأهلي الدائر في طرابلس. بعد 18 جولة من العنف الممتد منذ أكثر من عام، لم يظهر أهل باب التبانة وجبل محسن، وطرابلس على الشاشات إلا للحظات، لترداد عبارات نعرفها مسبقاً عن الخوف والنزوح والهرب والأصوات المرعبة وتوقف الحياة. جمل توصيفية مختصرة، بلا مساحات حقيقية للتعرف على أشكال تلك المعاناة عن قرب، ومن دون متابعة يوميات المتضرّرين، كيف يوزعون نهاراتهم في بيوتهم ذاتها؟ أين ينامون في غرفهم أو خلف بيت الدرج؟ كيف يذهب الأولاد إلى المدرسة؟ كيف يتفاعلون مع أصوات القصف والرصاص؟ كيف يتدبر الناس أمر شراء المأكولات؟ هل ضاق حالهم؟ هل بات بعضهم عاجزاً عن تأمين حاجياته؟ كيف يذهب البقال إلى دكانه؟ كيف يعبر 'خطوط التماس' الجديدة؟ هل يدخل المقاتلون عنوة إلى متجره ليأخذوا ما يريدون أكله؟ هل يجلس ساعات في انتظار زبائن أو ربما زبون واحد؟ كيف يضبط المقيمون أو العاملون في مناطق قريبة من شارع سوريا مواقيت تنقلاتهم؟ كيف يُجنّد الأطفال الذين نراهم في صور يحملون البنادق؟ وهل تغير إيقاع سكان المناطق والأحياء الطرابلسية الأبعد عن مناطق الاقتتال؟ وكيف تأثر هؤلاء بما يجري من خلال متابعة حيّة، تدخل يوميات الأهالي ولا تكتفي بمقابلات سريعة في إجابات منمطة على أسئلة تقليدية... باختصار كيف يعيش أهل طرابلس؟ سؤال لم تبحث له شاشاتنا عن إجابة، لم تعره اهتماماً حقيقياً.
ربما كانت مأساة غرق عبارة متجهة إلى أستراليا وعلى متنها لبنانيون وصمة عار جديدة على صدر الطبقة السياسية اللبنانية (كلّها)، ولكنها أيضاً علامة سيئة في سجل الإعلام اللبناني (المرئي والمسموع والمكتوب). لقد جاء هذا الخبر المؤلم ليظهر لنا أن الإعلام لم يكن على علم بظاهرة منتشرة. هؤلاء الذين غرقوا ليسوا أوّل من تم تهريبه من بعض المناطق العكارية ليستقل قوارب الموت إلى أستراليا، الظاهرة لها من العمر أكثر من عام، والإعلام لم يسمع بها، ولم يسمع المشاهدون بها. السر يكمن في أن نمط العمل الإعلامي لم يعد يعير الناس اهتماماً كبيراً، لا يقوم الإعلاميون وإداراتهم بجهد للبحث عن أحوال الناس بحلوها ومرها. الناس هم في نظر الإعلام اللبناني متلقون وليسوا مادة عمله، متلقون يريد تشكيلهم على ذائقته السياسية، من دون أن تكون لهم مساحة أخرى من اهتماماته رغم ساعات البث الطويلة والتي يبدو بعضها تكراراً مملاً إما للتحريض المذهبي والسياسي أو لبرامج متشابهة ومستنسخة عن بعضها البعض. الأسوأ ربما أنّنا في عز الطوفان أمس الأوّل، لم ننتبه إلى أن ثمة من يعيش في خيم، ان ثمة لاجئين سوريين عاشوا بالتأكيد أسوأ ما أنتجته ظروف الحياة تحت المطر في لبنان، لكنّ التعاطي مع هؤلاء اللاجئين دخل البازار السياسي اللبناني، حتى بات 'من الطبيعي' ألا تلتفت إليهم شاشاتنا.