سناء الخوري
مع كلّ تحرّك للسود في الولايات المتحدة، يُمعِن الإعلام السائد في تنميط شباب الطبقات الفقيرة، وإظهارهم كمخرّبين وقتلة ومروّجين للمخدّرات. وبموازاة تحريضها على عرق بعينه، تصوغ الشاشات الأميركيّة لنفسها مبرّرات حضاريّة وقانونيّة، لمحاكمة بعض المواطنين. أدبيّاتها إفرازٌ لثقافة تمييزيّة متجذّرة، إذ يكفي لشرطيّ أن يرى رجلاً أسود يضع يده في جيبه مثلاً، حتّى يتخذ وضعيّة إطلاق النار، ويقتل.
ما عرضته الشاشات اللبنانيّة خلال مواكبتها للتحرّكات المطلبيّة في وسط بيروت، ربما يشكّل يوماً ما، مادّة خصبة لدراسة أكاديميّة، عن ثقافة التمييز المتجذّرة لبنانيّاً، وعن كيف نرى نحنُ اللبنانيين أنفسنا، وكيف ننظر إلى بعضنا البعض من خلفيّات عفنة، وحاقدة، وفوقيّة.
يعيش إعلامنا التلفزيونيّ دوماً حالة ضياع لا يمكن تلخيصها إلا بعبارة واحدة: ملهاة. في يوم هو الناطق باسم المنظومة، ومنبر لوجوه الفساد. وفي يوم آخر، هو الثائر، لا بل هو ماريان نفسها، تقود الشعب، عارية الصدر، حافية القدمين. في يوم، هو إعلام المذاهب، والناقل &laqascii117o;بأمانة الخبر" لخطاب المتطرّفين. وفي يوم آخر، هو إعلام الصورة الجميلة عن لبنان الحضاري، بلد النظيفين والمرتبين المتعلّمين، عكس &laqascii117o;الغوغائيين".
مساء السبت الماضي، ذُهِل اللبنانيون بشاشاتهم. ظنّوا للحظة أنّهم استعادوها من محتكري الكلام. تناتَفَت القنوات إثبات دعمها للمطالب الشعبيّة. أيعقل أن تقبل &laqascii117o;أم تي في" أو &laqascii117o;أل بي سي آي" مثلاً، أن يكون لـ &laqascii117o;الجديد" أو &laqascii117o;أو تي في" دورٌ في &laqascii117o;الثورة" أكبر من دورها أو العكس؟ فُتِح البثّ كـ &laqascii117o;هايد بارك" للبنانيين يرغبون بالصراخ. كان مشهداً نادراً وجميلاً.
يومَي الأحد والاثنين، لم تعد الشاشات تكتفي بنقل الحدث، أرادت أن تقوده، أن تحوّل مراسليها إلى مناضلين في الصفوف الأولى، لا صحافيين ينقلون الصورة المتشعّبة المعالم، بأكبر قدر ممكن من الدقّة. أرادت أن تركّب ساحة &laqascii117o;نظيفة" على مزاجها، من مواطنين فاضلين (شرط أن يكونوا جميعاً ناشطين في المجتمع المدني). شاركت في دعوة الناس للتظاهر من أجل غد أفضل، ثمّ ندمت، لأنّها انتبهت على غفلة، أنّ اللبنانيين في الشارع، غير اللبنانيين على &laqascii117o;تويتر". من دون تدقيق أو استقصاء، قرّرت أنّ كلّ من لا يتظاهر &laqascii117o;سلميّاً"، مشاغب و &laqascii117o;كلب"، يستحقّ أن يوشى به علانية على التلفزيون، كي ينال عقابه (عصا على رأسه من قوى الأمن، أو ربما رصاصة لا مشكلة، والرصاصة في رأس محمد قصير تشهد). لم تضع نفسها أمام فرضيّة وجود احتمالات عدّة: أن يكون بين &laqascii117o;مثيري الشغب" من هو &laqascii117o;مدفوع" مثلاً، وأن يكون بينهم أيضاً من لم يندسّ في الشارع إلا غضباً وقهراً.
يوم الثلاثاء، وبعدما فرزت القنوات فسيفساء المشهد إلى أبيض وأسود، وبعدما فصلت بعشوائيّة هاوية بين متظاهر &laqascii117o;حسن السلوك"، ومتظاهر &laqascii117o;غوغائي"، وبعدما مهّدت الطريق لتبرير أيّ اعتداء على المتظاهرين، وبعدما انهالت قوى الأمن بالضرب على المعتصمين، وبعدما جُرّ بعض منظّمي الحراك إلى المخافر، توقّف البثّ، وصمت التلفزيون عن الكلام المباح.
أعطت القنوات لنفسها الحقّ بتصنيف اللبنانيين، بين من يستحقّ أن يشارك في الأمل، ومن لا يستحقّ ذلك. هل بنت تصنيفها على مصادر؟ هل بنت تصنيفها على معلومات أمنيّة؟ هل بنت تصنيفها على استقصاء لخلفيّات &laqascii117o;المخرّبين"؟ هل بنت تصنيفها على هامش مفتوح لدوافع المتظاهرين المتعددة، بدل إطلاق الحتميّات؟ لم تفعل. بنت تصنيفاتها على &laqascii117o;أشكال مندسّين" وجدتها &laqascii117o;غريبة"، على بعض الوشوم على أجسادهم، على مناطق إقامتهم المفترضة... بنت تصنيفها على عقد طبقيّة لبنانيّة أصيلة. وبموازاة تحريضها، تصوغ الشاشات اللبنانيّة لنفسها حاليّاً، مبرّرات حضاريّة وقانونيّة، لمحاكمة بعض المواطنين. عنصريّة؟ لا. كلّ ما في الأمر أنّها حريصة على البلد، وعلى صورته، وعلى رائحته، وعلى ساحاته النظيفة.
المصدر: صحيفة السفير