أخبار لبنان » مجزرة الشياح: عندما غطّى أزيز الطائرات صوت الآذان

سارة حطيط

لم يغادر أهل الشياح منطقتهم التي كانت الأكثر أماناً في الضاحية الجنوبية لبيروت، خلال حرب تمّوز 2006.
كانت الشوارع آمنة يلجأ إليها الناس الهاربون من صواريخ الطيران الإسرائيلي. المقاهي ممتلئة بالشباب والرجال. الدكاكين مفتوحة لمن يريد شراء بعض الحاجيات. في محلات الإنترنت يتسارع الأطفال للجلوس أمام الكمبيوتر لمحادثة أصدقائهم عبر 'ام اس ان' أو للعب 'كاونتر سترايك'. صدّقوا، كانت الحياة في الشارع، الذي يبعد بضعة أمتار عن 'معقل حزب الله'، طبيعية.
اعتدنا سماع دوي الانفجارات طوال الوقت، لذا لم يعد صوت الطائرات يخيفنا. اعتدنا مشاهدة الـ 'أم كا' تحلق فوق رؤوسنا، ننظر إليها، نضحك ونكمل الطريق.
يوم الجمعة في السابع من آب قبيل الغروب، كانت طائرة استطلاع تحلّق في الشياح، تحديداً فوق شارع الحجاج. تقف فاطمة وملاك على شرفة المنزل. تحضّر الوالدة هدى طعام الإفطار للعائلة الصائمة. يتّكئ حسين على الدرابزين، يصعد محمد إلى الطبقة الثانية من المبنى لإتمام فرض الصلاة، ويجلس الوالد علي مع أقاربه في باحة المنزل. تنادي ملاك والدتها: 'عطشانة ألم يحن وقت الإفطار بعد؟'.
ارتفع أذان المغرب: 'الله أكبر...'. لم تسمع سوى التكبيرة الأولى، ومن ثم تلاشى صوت المؤذن بفعل القصف. سوّي مبنى من 3 طبقات بالأرض. دمّرت أربعة صواريخ حياة ستة وخمسين شهيداً. وجد حسين نفسه تحت سيارة مقلوبة عليه. استفاق ثلاث مرات إلّا أنّه لم يستطع تحريك أي عضو من جسده. في المحاولة الأخيرة بدء الحفر بإصبعه الأيمن في الركام. التفت المسعف إليه وهتف: 'تعالوا، هناك شخص حي تحت الأنقاض'. أما هدى فقد نقلت إلى المستشفى وبقيت 13 يوماً في العناية الفائقة،. أما علي ففتح عينيه على كرسي، فيما الممرضة تضمّد جروحه.
عشر سنوات مرّت على هذه المجزرة، وما يزال واقع المأساة ذاتها على عائلة علي رميتي. لم يعد بإمكان ملاك، ابنة الأربعة عشر عاماً، والتي كانت تحصل على المرتبة الأولى في مسابقة الركض، تحقيق حلم والدتها بأن تصير معلمة تاريخ. ولم تتمكن فاطمة، التي نالت شهادة الثانوية العامة بتفوّق، من الدخول إلى الجامعة لدراسة الهندسة، أمّا محمد الذي كان يكمل تعليمه في الجامعة اللبنانية فلم يلبس زيّ التخرج ليرمي القبعة في الهواء عند نيله شهادة الهندسة في الكمبيوتر.
ثلاثة أولاد رحلوا من أحضان هدى وعلي في لحظة. عشر سنوات من الألم والعذاب، تقف فيها هدى كل ليلة أمام صور أبنائها الشهداء الثلاثة التي تزيّن المنزل. تنادي: 'كيفك يا ملاك، اشتقتلك يا فاطمة، وينك يا محمد'. جسدها الذي ما عاد يقوى على الصمود تلفّه الأورام من كل صوب. القهر بفقدان فلذات كبدها أهلكها وأتعبها. تسير في البيت، تدخل الصالون، تقترب من خزانة مزوّدة بالذكريات. رخصة سوق محمد في الوسط، مصفوفة إلى جانبها بطاقة امتحان الشهادة الثانوية لفاطمة، على الرفّ الموازي ميداليات 'البطلة' ملاك. تفتح الدرج الأيمن. 'انظري برنيطة فاطمة، تضعها على رأسها طوال الوقت في المنزل'. تنتقل إلى علبة خشبية مزينة بقلائد: 'هول كلن لفاطمة'. تنحني وتسحب محفظةً صغيرة بنيّة اللون. 'هذا أهديته لملاك وكانت تلبسه في كل المناسبات'. تكمل في 'النبش' وكأنّها تحيي ذكريات لم ولن تنساها، لتصل إلى الدرج الأخير. تفتحه لتلتقط ما بقي لها من أغراض أولادها. هذا حذاء محمد، صندل فاطمة المزيّن بدرزات على شكل ورود، ليبقى لملاك 'الإسبدرين' الرمادي. تتناول من الطبقة العليا محفظة تجمع أوراقاً كتبت بخط ملاك، 'تنكشها' لتلمس موت سرق منها حياتها.
تترك الأوجاع في الخزانة. تجلس على الكنبة وإلى جانبها ابنها الرابع الذي صار في العشرين. تلفّ الأوشام جسد حسين، كأنّها محاولة لترميم الأوجاع التي رافقته طوال فترة العلاج. يمرّر يديه على أطرافه التي أصيبت بحروق بالغة لا تزل آثارها ظاهرة في القلب قبل الجسد. يطبع يده بوشم هو تاريخ حدوث المجزرة: 6 – 8 - 2006، تأكيداً على التصاق هذا اليوم بكيانه وروحه. لم ولن ينسى حسين تلك الليلة التي حرمه فيها العدو الإسرائيلي شقيقتيه وشقيقه، لكن كلّ ما يفعله ليس سوى محاولة ليتناسى ويتخطّى جروحه.

'وحياة ورد خدود فاطمة وعينها.. ما بتعرفي يا ملاك أختك وينها؟ مين القطع الدرب بيني وبينها؟ وقصّر أجل عمري وخيّب مطلبي. فاطمة وملاك أنتو يا طيور، شفتوا حبيبي محمد بهالمرج عم يقطف زهور؟
فاطمة يا نور عيني، ملاك يا روح قلبي، محمد يا شمس ونور. بحلم وناطر شي يوم شوفكن ع دروبي. ومن بعد هالنوم ع عيوني سطا، رحت نايم لا فراش ولا غطا. ما وعيت إلا ع نجوم مفرفطة وع صوت ينده قوموا صلّلو على النبي'.
- الوالد علي رميتي يخاطب أولاده..
 
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد