صقر ابو فخر
ليس المقصود أن شعبان عبد الرحيم موجود الآن في لبنان، بل إن ما أقصد إليه هو أن لبنان بات منقسماً اليوم، ولو موقتاً، إلى فئتين: المحتجون الغاضبون في الشوارع، والمرتعدون الفاسدون القابعون في مربعاتهم الأمنية المحروسة. ولا شك في أن أجمل المشاهد البصرية في هذه الأيام هو مشهد الجموع الواعية التي تخرج إلى الميادين مطالبة بالحرية والاقتصاص من السلطات الفاسدة والناهبة، على غرار ما يجري في بيروت والبصرة وبغداد. ومع أن ما يجري الآن في لبنان ما زال سديمياً وغير واضح المعالم والآفاق، إلا أن هذه السديمية تشير بوضوح وجلاء إلى وعي سياسي جديد بدأ يطل رويداً رويداً في رؤوس الناس، وهو يتحول شيئاً فشيئاً إلى قبضاتهم.
التغيير بات ممكناً إذاً ولو بالتدريج، وها هي براعم المجتمع المدني تتحرك بقوة وثبات. وهذه الوقائع المتسارعة تضع اللبنانيين أمام إمكان تاريخي وفرصة ربما لن تتكرر: إما أن ينتصر نظام الطوائف الذي عاش خمساً وتسعين سنة، أي منذ 1920 حتى الآن، أو يبدأ رحلة السقوط بعدما تفسخ منذ أربعين سنة على الأقل، وفاحت روائحه. لكن وقائع التاريخ القريب برهنت أن النظام اللبناني منيع جداً، وهو أقوى النظم السياسية العربية قاطبة، فقد احتاج خمس عشرة سنة من الحرب الأهلية حتى تغيّر ولو جزئياً. ومنذ خمس وعشرين سنة صمت السلاح، لكن الحرب الأهلية ما برحت مستعرة من دون ذخيرة. فهل آن أوان التغيير حقاً؟ وهل نحن في طريقنا إلى لبنان جديد؟
لو حدث هذا الأمر فسيكون ذلك حدثاً خارقاً في تاريخ المشرق العربي، وسيصبح لبنان طرازاً ممكناً لدول المنطقة العربية كمجتمع ديموقراطي وتعددي مع دولة عادلة إلى حد بعيد وعربية في الوقت نفسه.
في سنة 1968، سُئل ياسر عرفات عن تصوره لفلسطين المستقبل، فحار، ولم يستطع الجواب بوضوح قاطع، فاستلهم الطراز اللبناني وقال: &laqascii117o;هدفنا إقامة دولة ديموقراطية في فلسطين يتعايش فيها العرب واليهود بسلام". وبالطبع، ليس هذا المخرج حلاً جميلاً، فكلمة &laqascii117o;التعايش" سيئة جداً، والأكثر منها سوءاً هي مفردة &laqascii117o;التسامح" وهما شائعتان جداً في الثرثرة السياسية اللبنانية كما أن الأنموذج اللبناني ليس مثالاً تحتذيه حركة تحرر وطني. ونعرف اليوم أن أي دولة، بما في ذلك الدولة الفلسطينية المقبلة، يجب أن تنشأ على قاعدة المساواة، والمواطنة المتساوية، والحريات الليبرالية، والديموقراطية كنظام سياسي، والعدالة الاجتماعية، ونضيف إليها أيضاً العروبة والتزام قضية فلسطين.
الطراز اللبناني
هل إن مكر التاريخ في لبنان سيؤدي إلى إعادة تأسيس دولة جديدة قوامها الديموقراطية والمواطنة المتساوية والعروبة؟ أشك في ذلك كثيراً، لا سيما أن لسان المجموعات السياسية الطائفية كان موجوداً في التظاهرات، فكثير من المشاغبين والغاضبين هم أعضاء في الميليشيات المذهبية الفاسدة إياها. ومهما يكن الأمر، فإن هذه الدولة، في ما لو أُسست حقاً، ستكون مثالاً ممكناً لسوريا المقبلة وللعراق الجديد، أي لمجموعة بلاد الشام كلها، وهو شأن بعيد الاحتمال ويكاد يلامس المُحال في خضم الانفلات الغرائزي للطوائف والمذاهب والاثنيات. وفي أي حال، فإن من الصعب التكهن، منذ اليوم، بما ستكون عليه أحوال المشرق العربي غداً، ومع ذلك، لنرصد صورة المجتمع اللبناني في الفترة الأخيرة.
كان المجتمع اللبناني، قبيل التظاهرات الجميلة، مجتمعاً منفلتاً من أي ضوابط قانونية أو خلقية، وبلا هدف أو غاية. الفساد بجميع الأشكال والأنواع يكلل هامات الزعامات كلها بلا استثناء، واللصوصية لا تخجل من انحطاطها ولا تخفي حضورها الآثم، النهب والسرقة مكشوفان في كل مكان، المجاهرة بالثروة المنهوبة بلا حياء. بلد يعيش اقتصاده على تبييض الأموال وتجارة المخدرات والدعارة الراقية والمال السياسي المتدفق من بعض عواصم النفط، علاوة على متاريس المذاهب واستنفار الطوائف والكراهية المتجددة بين السنة والشيعة، عشائر امتهنت تجارة المخدرات، وعائلات احترفت سرقة السيارات، وجماعات متخصصة بالخطف طلباً للفدية، وأسماء &laqascii117o;الأبطال والقبضايات" معروفة ومكشوفة، والسلطة واجفة وراجفة وأيديها مغلولة جراء سطوة الطوائف على السلطات الدستورية.
ضحالة الواقع
في معمعان هذا العياء راحت الأوليغارشية اللبنانية ونساء زعمائها تفتك بكل شيء، وتنتهب الموارد شمالاً ويميناً، واستغلت خروج الجيش السوري من لبنان فطفقت تخرِّب البيئة بالكسارات المتوحشة، وتخرِّق الأحراج الجميلة بالمباني البشعة، واستولت على الشواطئ البحرية وحجبتها عن الناس بوقاحة لا عهد لأحد بها، وسممت غذاء المواطنين، وباعت المرضى الدواء المغشوش، ولوثت بذئبيتها الهواء والماء، وفشلت في تأمين الكهرباء والنظافة، وتهالك قادة الطوائف (مفتون ومطارين ورؤساء جمهورية ومجلس نواب وحكومة ووزراء وتابعون) على الثروة يستبيحونها كقطعان الماعز في الأرض الخضراء، وفشت لوثة المجاهرة بالثروة المشبوهة وبالغنى المريب. وتمكنت هذه الأوليغارشية السافلة من تحويل فئة واسعة من الشبان اللبنانيين إلى بروليتاريا رثة، وجندتهم للقتال في سبيل الزعامات الطائفية النهابة، وسطت على الحياة اليومية لهؤلاء الشبان وجعلتهم، بأكاذيبها المذهبية الرائجة، سجناء مقاهي الأحياء حيث النارجيلة والحشيش يهدئان قلقهم واضطرابهم وفقرهم وهامشيتهم. وبهذه التعبئة المتمادية صار اللبنانيون، في معظمهم، متهالكين على المتعة (&laqascii117o;حب الحياة") ولا يعرفون، في الوقت نفسه، الاستمتاع، فهم مستعجلون على مخالفة قوانين السير بنشوة، ونزقون ومتجهمون وعصابيون يتزاحمون على أي شيء في الشوارع المزدحمة، بائسون ويتقاتلون على البؤس في الأحياء العابسة والبائسة.
هذه الصورة صحيحة وصادقة وصادمة إلى حد بعيد. وهذه نتيجة منطقية تماماً لبلد أحزابه أحزاب عائلات: &laqascii117o;الكتائب" لآل الجميل، و &laqascii117o;الكتلة الوطنية" لآل إده، و &laqascii117o;الوطنيون الأحرار" لآل شمعون، و &laqascii117o;الحزب التقدمي الاشتراكي" لبيت جنبلاط، فضلاً عن حزب آل الأسعد وآل أرسلان وغيرهم)، وأسواقه أسواق عائلات (سوق سرسق وسوق الجميل وسوق سيور وسوق الطويلة وسوق إياس وسوق باب إدريس وسوق أبو النصر وسوق التيان)، ومصارفه للعائلات أيضاً (بنك فرعون وشيحا وبنك عودة وبنك سرادار وبنك الجمّال وبنك صبّاغ وبنك جعجع)، وجامعاته طائفية (الجامعة الإسلامية وجامعة المعارف للشيعة، واليسوعية والكسليك للموارنة، والبلمند للأرثوذكس، وهايكازيان للأرمن، والجنان والحريري للسنة، والأميركية للبروتستانت... وهكذا)، والإعلام أيضاً طائفي (NBN والمنار للشيعة، والمستقبل للسنة، و LBC و MTV و OTV للموارنة). حتى العَلمانية أرادها البعض في خدمة الطائفية، فعندما اقترح الرئيس الياس الهراوي مشروع قانون الزواج المدني الاختياري كان يقصد، ولو من طرف خفي، إحراج المسلمين. ومن عجائب الطوائف أن الوزير المسلم الوحيد الذي صوّت إلى جانب الزواج المدني هو فاروق البربير، أما الوزير بهيج طبارة المتزوج مدنياً في الأساس فصوّت ضد مشروع القانون. كذلك عندما اقترح الرئيس نبيه بري إلغاء الطائفية السياسية بحسب منطوق اتفاق الطائف، كان يدرك أن من شأن هذا الاقتراح إحراج المسيحيين وإخافتهم لأنه يصب في مصلحة الأكثرية العددية، أي المسلمين، والمسلمين الشيعة بالتحديد.
&laqascii117o;فايسروي" وحيد
الأوليغارشية اللبنانية القديمة بات يمثلها وليد جنبلاط وحده، (&laqascii117o;فايسروي" الدروز في الجبل اللبناني). وقد انضم إليها بقوة الميليشيات في أثناء الحرب نبيه بري (&laqascii117o;ميرالاي" الشيعة). أما سمير جعجع فهو مجرد آغا في منطقة بشري وجوارها وفي بعض الأنحاء اللبنانية، وما كان في إمكانه أن يصبح متزعماً ولو على ضيعة لولا الحرب الأهلية. بينما أثرياء المدن الساحلية أمثال الوارث سعد الحريري، والمركنتلي نجيب ميقاتي والمستجد فؤاد السنيورة صاروا مثل شيخ شهبندر التجار الذي انقرضت طائفته وما عاد لديه حيلة إلا الاستقواء بهذا الأغا أو بذاك &laqascii117o;الميرالاي" أو بذلك المتسلط، أو بالصدر الأعظم القابع في الرياض أو مكة أو جدة.
كانت صورة اللبنانيين أنهم &laqascii117o;شعب" من أربعة ملايين نسمة &laqascii117o;ينقُّ" طوال أربع سنوات بصورة متواصلة، ويشتم الرؤساء والوزراء والنواب والعائلات المنافسة والطوائف المجاورة والزعماء والملائكة، وحين يحين موعد الانتخابات يقترع لهؤلاء كلهم. لكن ما كان هامشاً صار متناً، وها هي الجموع المحتشدة في الميادين اللبنانية تقترب من تغيير هذه الصورة. وفي الوقت نفسه، ها هي الأوليغارشية اللبنانية تحاول، بكل همّة وإصرار، تبديد هذا الزخم وجعله هباءً، وربما تُقدم على بعض التنازلات التجميلية. لكن المؤكد أن هذا الزخم خلخل الأسس الشعبية التي تستند إليها هذه الأوليغارشية المتهالكة، ولهذا ليس من المستغرب، في خضم هذا الخطر الداهم، أن تبدأ الأوليغارشية الراجفة الاستعداد لامتصاص الغضب الشعبي والانقضاض على الحراك السياسي الذي ما فتئ يتسع بالاستقلال عنها، ومحاولة إعادة الأمور إلى بداياتها... والثمن قليل من التنازلات. لننتظر إذاً المسارات ونتائجها: هل يتحول الوعي السياسي الجديد إلى إرادة سياسية جديدة تغيّر أقوى النظم العربية، وتطيح أعتى القلاع السياسية في بلاد الشام؟ أم تكون هذه الانتفاضة، في مآلاتها وعقابيلها، مجرد غليان موسمي غاضب ربما يؤسس، بالتراكم المتدرج، وعياً سياسياً مغايراً؟
المصدر: صحيفة السفير