قراءة أخرى في انفجار الهمجية (1)
قاسم عزالدين
لا عدل إلا إن تعادلت القوى وتصادم الإرهاب بالإرهاب (أبو القاسم الشابي)
ستحاول هذه المقالة في جزئها الأول دراسة ظاهرة الهمجية التي تعصف في منطقتنا، من زاوية البحث عن رؤى مشروع فكري ــ سياسي في مواجهة رؤاها واستراتيجيتها، كما يبيّن الجزء الثاني. على هذا النحو، ننأى عن تضخيم أثر المعتقدات وإيديولوجية تنظيمات «القاعدة» و «داعش» التي تتشبّع بها جهود قراءة الظاهرة الهمجية فكراً، ظناً بإقامة الحجة على معتقداتها، الأمر الذي يزيد الصراع العصبوي على أفضلية المعتقدات إواراً.
فالهمجية التي نعيش ونرى في بلادنا هي ظاهرة «معاصرة» في سياق الهمجية الأم في العصر الراهن ونموذجه النيوليبرالي الأكثر توحشاً بين النماذج السابقة له. فوحشية هذا النموذج المعولم لم يسبق لها مثيل في تدمير ركائز استقرار المجتمعات المحلية والوطنية والإقليمية، في قضائه على تراث تاريخي مديد من المعارف التقليدية الحافظة لاستمرارية تعدّد نشاطات الحياة، التي تحفظ بدورها استمرارية التعدد العرقي والاثني والديني. فبرغم الحروب القديمة والنزاعات التقليدية ومآسي الصراع على السلطان والثروة والأرض، وبرغم الغزو الاستعماري الشرقي والفرنجي الطويل، بقيت الاستمرارية محمية في البُنى العميقة التي لم تصل إلى أريافها وجبالها وبواديها مطرقة الهدم والغزو. لكن همجية النموذج المعولم حطّمت منظومة تعدد نشاطات الحياة الاجتماعية والإنسانية، غير القابلة للسعر في السوق الحرة والتجارة الدولية.
في هذا المسار، تقترب همجية بلادنا التي نعيش من منحى إبادة تعدّد الهويات الثقافية والدينية والاثنية في أوروبا وأميركا الشمالية (الحروب الدينية في أسبانيا وأوروبا وإبادة الشعوب الأصلية في أميركا) نحو ما عُرف بالمركزية الأوروبية (توحيد الأمة) التي قطعت جذور التعدد الديني والإثني أمام مسار الدولة ــ الأمة ذات الانسجام الديني ــ العرقي ــ اللغوي، كما يبيّن أحد كبار الانتروبولوجيا المعاصرة (ارنست جيلنير، القومية والقوميات، جامعة كمبريدج، لندن، 1983). بالتوازي، تفترق هذه الهمجية الراهنة عن تاريخ بلادنا التي تسمُه نخبة «الفاست فوود» باستبداد أصلي. فتاريخ هذه البلاد، شهد كغيرها ظواهر وحشية الدم في القتل والتدمير أثناء الحروب والصراعات المديدة، كما شهد بين حين وآخر ولادة دعاة وتيارات اتخذت من تأويل النصّ الديني دعوة للإبادة الممنهجة. لكن تاريخ بلادنا حفظ بعُجره وبُجره ثروات التعدد الديني بمذاهبه شتّى، وأبقى الاختلاف العرقي والإثني، كما رعى معالم استمرارية الحضارة وآثارها في مواقعها حتى يومنا الحاضر. ولم تكن الإبادة منهجاً في إزالة تعدّد الاختلاف، بل على العكس من ذلك، كان المنحى التاريخي يقوم على ما يسميه ابن خلدون الرياسة لأهل الغلبة بالعصبية التي تتيح استمرارية باقي العصبيات، بالإذعان حين تخسر شوكتها في الحرب والصراع السياسي، ولا ترشّ الملح على أتباع المذاهب أو على معتقداتها.
همجية بلادنا الراهنة التي تقترب من همجية «المركزية الأوروبية» في إبادة التعدد الديني والإثني بذريعة «توحيد الأمة»، تقترب كذلك من وحشية نموذجها النيوليبرالي الحالي السائد «في إدارة التوحش». فلكل من الهمجيتين مشروع سياسي في المنطقة، يبدو متناقضاً مع الآخر في الإيديولوجيا ذات الأسس الدينية في هذه والمدنية ــ الديموقراطية في تلك، لكن هذه الايديولوجيا مجرّد ذراع قوية من أذرع مشروعين سياسيين متناغمين في العمق. فالهمجية الأم التي انتقل نموذجها النيوليبرالي المعولم من «الدولة الوطنية» إلى السوق الحرة، حطّم دور الدولة الناظم للحد الأدنى من المشترك الأعلى في المصلحة الوطنية العليا. فهي تسعى بتعميم الفوضى الناتجة من حرية الرساميل، إلى ما قبل الدولة المعاصرة في إنشاء سلطات محلّية تتذابح على النفوذ والفتات. وفي هذا المسار، تتدخّل دول ومؤسسات الهمجية النيوليبرالية «لإدارة النزاعات» (إدارة التوحش) التي تُفضي إليها فوضى «اليد الخفية» (مدرسة آدم سميث وأحفاده في حرية الرأسمال محل الدولة) في قرصنة الثروات الطبيعية (النفط، الأرض والمياه...) وفي تخريب التوازنات الاجتماعية الدقيقة، وفي تهديم الحواضر والأرياف والبنى التقليدية حافظة الاستمرارية، وفي العودة إلى عبودية عارية لقوة العمل. لكنها في هذا السبيل ترمي جرائمها الممنهجَة على ظهر ضحاياها في تذنيب الناس بما تسميه «الجهل والتخلّف».
وتطويع الناس في تذنيبها بالجهل أو الجاهلية هو ما تلتقي عليه الهمجيات كافة. لكن الهمجية الفتيّة المتفجّرة في بلادنا بزّت أمها في تدمير ما تبقى من بقايا هياكل الدولة والحواضر العربية وفي تحطيم بقايا الجيوش وعظام «المؤسسات العامة». باتجاه مركزة سلطة بربرية. فـ «شوكة النكاية وإدارة التوحّش» (الهياج العام بحسب المدعو أبو بكر ناجي) تذهب عارية إلى ما تذهب إليه الهمجية الأم بقفازات، لإقصاء الفائض البشري «غير النافع» في مركزة السلطة. وما يبدو همجية ذات تأويل ديني في ذبح «الأقليات» وإبادة «الفائض» عن تنميط مركزية قبضة «السلطان»، هو في عمقه قرصنة عارية للاستيلاء على أراضي «الغائب» (بحسب التسمية الاسرائيلية في فلسطين) وعلى البيوت والأرزاق «السائبة» التي انتُزعت بالقتل والرعب والتهجير. لكن «استراتيجية الرعب» هذه كما يوضحها المدعو عبد الله بن محمد في ما يسميه «مذكرة استراتيجية» (منشورات مؤسسة المأسدة، 2011) هي في أبعادها رعب لترويع «الأكثرية السنّية» في تطويعها وإخضاعها (أكلها يوم أُكل الثور الأبيض)، وفي قتل أحاسيسها الإنسانية بالقضاء على فطرة التضامن الأخوي مع ضحايا الجرائم البربرية. فالجهاد على ما يقول المدعو أبو بكر ناجي، هو ما يقوله أبو مصعب السوري وأبو محمد المقدسي وباقي مهندسي الهمجية: «غلظة وإرهاب وإثخان وتشريد وسبي وغنائم».
خلف تأويل تنظيمات «القاعدة» و «داعش» لبعض النصوص الدينية استناداً إلى أحداث عَرَضية في تاريخ المسلمين، إيديولوجيا مشروع سياسي يجري توليفها لخدمة مشروعها السياسي الذي تبحث له عن إيديولوجيا تخدمه. فالتمساح الذي يفترس ضحيته يسكب دمعاً كدمع التنظيمات الهمجية على الخلافة والدين في سبيل مشروع سلطة فاشية «بالدم الدم والهدم الهدم» كما يتباهى أبو بكر ناجي. لكنه مشروع سلطة فاشية في ظروف معولمة راهنة تتناغم في العمق والجذور مع نموذج الهمجية الأم المولِّد. فادّعاؤها إزالة «معاول الهدم» من الأمة في إبادة «الكفّار» لتوحيد معتقدات «الأمة» صافية في مواجهة «الصليبيين»، يتقاطع مع الاستشراق الغربي في تشقيف حضارة العرب والمسلمين إلى معتقدات وهويات دينية بين «أخيار وأشرار».
لكن الأهم في حاضرنا ومستقبلنا أن همجية «داعش» و «القاعدة» تظن «الصليبية» الراهنة هي كما ظهرت «الحروب الصليبية» في القرون السابقة بمحسوس المعتقدات وملموس الحرب. بينما السيطرة الغربية المعولمة الراهنة أساسها علاقات المصالح الشديدة التعقيد، التي تفرض نفسها في آلياته المتشابكة بما يتجاوز مدارك جلاوزة الذبح. فمنظومة علاقات المصالح في الظروف الكونية الراهنة، هي نتاج انقلاب جذري على ما كان حتى الأمس القريب قيَم تضامن اجتماعي وإنساني في لحمة المجتمعات، وفي إشباع الحاجات البشرية بمنظومة محلية من أسباب المعاش وسبُل العمران، فتحوّلت القيمة إلى سعر وانقلبت الحاجات بنوعها وقيمتها الاستعمالية إلى حاجات افتراضية وإلى سِلَع تجارية واستهلاكية سبيلاً للمكانة والنفوذ في الاقتناء و «التنافس» والإقصاء. فالمصالح الناتجة من هذه المنظومة المعولمة هي «معاول الهدم» عابرة للهويات والمعتقدات متشابكة من رأس الهرم الكوني إلى قاعدته العريضة. وفي مقابل هذه المعاول، يكافح فقراء ومزارعو وصنّاع الحياة المحلية بمعتقداتهم المتعددة، في الأرياف ومدن الصفيح، للمحافظة على قيَم الأمة المكتسبَة بالخبرات القديمة المتراكمة في نشاطات حياتهم، وعلى استمرارية العمران في توطين ثروة الأمة للحدّ من التبعية. لهذا السبب الوجيه، تراهم الهمجية ــ الأم حاجزاً أمام «نهضة الأمم»، فتصبُّ جهودها لإقصائهم من أرضهم ومن بيئتهم الطبيعية على شكل إبادة جوع وتهجير وحروب بالوكالة. وفي أول الطريق تلاقي الهمجية المحلية أمها لتدمير الحواجز نفسها بدعوى إزالة «معاول الهدم»، (الاقليات الكافرة) من الأمة، وتلاقيها أيضاً في مسعى تغيير عقول ما تسميه «أكثرية» بالرعب و «التربية» على الخضوع لما تسميه «العودة إلى أصول الإسلام»، كما تسميه أمها «الحضارة» وبالطريقة نفسها «تربية، تعليم، توعية، تنوير».
فالهمجية ــ الأم التي تعمل بآليات عملها الاستراتيجية وعلاقات المصالح المتداخلة، إلى انهيار الدول والأمم الضعيفة في موازين المنظومة الدولية، تزعم كما تزعم وليدتها في بلادنا أن هذا الانهيار هو نتيجة أزمة داخلية في تعدّد واختلاف معتقدات الامة (أزمة الهويات بحسب تعبيرها). لكن الهمجية ـ الأم تسعى إلى «حل ديموقراطي» في إنشاء سلطة «كيانات» تمثّل «المكوّنات» في تبعيتها للنموذج، بينما تعمل وليدتها لما سمته النازية «الحل النهائي». وعلى هذا الأساس العميق الجذور والأبعاد في الهدم الداخلي، تتقاطع المصالح السياسية الدولية والاقليمية مع «داعش» و «القاعدة» في «إدارة التوحش» (إدارة النزاعات).
على نقيض هذا الهدم، تنتهج مقاومة «حزب الله» منهجاً معاكساً في مواجهة اسرائيل والهمجية ـ الأمة كمنهج حركات التحرر الوطني وحركات التغيير والاستقلال السياسي التي سعت إلى توحيد طاقات الأمة، من العام إلى الخاص ومن الخارج إلى الداخل.
بين «إدارة التوحش» ومواجهته منهجان نقيضان، مقدمة لهزيمة مشروع سياسي بمشروع بديل، على ما سنحاول البحث في الجزء الثاني.
المصدر: صحيفة السفير