محمود حيدر
في كتابه 'مفارقة القوة الأميركية' (The paradox of American)، يسعى المفكّر الأميركي البروفسور جوزيف ناي الى ضرب من المعالجات تتعدى الرؤى السطحية لتنقد حال أميركا بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. لكن ما يضفي على هذه الرؤى النقدية جدواها وحرارتها الخاصة، أنها تصدر عن شخصية أميركية شاركت في صنع وصياغة القرارات الاستراتيجية. فقد عمل جوزيف ناي مساعداً لوزير الدفاع خلال عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، كما شغل قبلها منصب رئيس مجلس الاستخبارات القومي، فضلاً عن كونه اليوم عميداً لكلية كينيدي بجامعة هارفرد.
الأسئلة التي يرسلها الكاتب ويمضي في الإجابة عنها هي أسئلة تتعلق بمفاهيم كبرى طفقت تتحول لترسم مستقبل أميركا ودورها.. منها: الدور الذي يجب على أميركا أن تلعبه في عالم متغيِّر، حيث أصبحت الأرض كلها تمور باضطرابات سياسية وجيو ـ استراتيجية وأمنية يستحيل على الولايات المتحدة الاستمرار طويلاً في ضبطها أو إدارتها أو احتوائها؟
ما هي عوامل التحدي ومصادر التهديد التي ستواجهها أميركا في القرن الواحد والعشرين، وهل يمكن لها المواجهة بمفردها فيما تقود العالم اليوم بمفردها؟
جل فكرة جوزيف ناي تؤول الى إظهار قلق وجودي أخذ يجتاح 'الأمة الأميركية' منذ ما قبل السقوط المدوّي لبرجي نيويورك. واللافت أن ناي يلجأ الى تقديم مَثَل جزئي وطريف ليدل على ما بلغه تفكير النخبة الأميركية من شعور بسوء العاقبة: 'في عام 2000 أطلق شاب من الفيليبين ما سمي في حينه فيروس المحبة الشهير من جهاز حاسوبه المتواضع، فكان أن عَبَر الفيروس أجواء الانترنت ليصل الى أخطر الدوائر الاستراتيجية والعسكرية في الولايات المتحدة الأميركية. وبلغت تكاليف التصدي له والأضرار الناجمة عنه 15 مليار دولار'. ثم يعلِّق على هذا الحادث فيقول: 'صحيح أنه كان تصرفاً سلبياً، وربما كان تخريبياً، ولكنه كان برهاناً جديداً على أن بإمكان فرد موهوب وشبه مجهول حتى في بلاد العالم الثالث، أن ينال من استحكامات الدولة الأعظم في كرة الأرض، وأن يحوِّلها في لحظة ما الى كيان مستضعف أمام قوة التمكين المستمدة من ثورة المعلومات'.
'الفاشية الودودة'
كانت أميركا في ما سبق متوحشة في الخارج ودودة وديمقراطية في الداخل. لقد ساد هذا الاعتقاد المفارق لدى نخب واسعة جداً في اليسار الماركسي الأوروبي، بل حتى لدى كثير من قوميي وماركسيي العالم العربي. ومع أن 'المكارثية' في الخمسينات قدّمت نموذجها الشبيه جداً بـ'توتاليتارات' العالم الثالث، لكن لم يهتز الاعتقاد بهذه المفارقة. سوف يُكتب الكثير مما يخالف ذلك، حتى في أميركا نفسها. ومع ذلك ظلَّ المسكوت عليه أقوى مما يشيعه الخبر الرسمي المحمول على صورة الإمبراطورية الإعلامية الهائلة. قبل سنوات كتب المؤلف المعروف بيرترام كروس أن الفاشية ستأتي الى الولايات المتحدة بوجه ودود: من دون محاكمات نورنبورغ أو مبادئ التفوق العنصري، من دون أحزاب ممنوعة رسمياً أو إبطال للدستور وإزالة الفروع الثلاثة للحكومة، لكن بالحماسة القومية نفسها، والقوانين الدكتاتورية الاعتباطية والغزوات العسكرية العنيفة.
بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ظهرت أميركا من داخل، فبدت كمياه راكدة سقطت عليها صخرة ضخمة. كل شيء راح ينكشف على الملأ بعدما لم تعد القيادة السياسية العليا تملك الزمن الذي يمكّنها من استعادة 'مقولة القلعة الآمنة' بالسرعة القياسية المطلوبة لدولة عظمى كأميركا.
الحاصل بعد سقوط برجي نيويورك أن تنبؤات كروس لم تخب. وسيبيِّن الكاتب الأميركي جيمس بيترارس أن علامات دولة البوليس والولايات المتحدة واضحة في كل مكان.. وأن صفة الدولة الشمولية التي يتحول فيها المجتمع المدني الى شبكة من المخبرين السريين هي صفة أميركية بامتياز. ولعل أبرز المعلومات التي استعصت على شبكة الإعلام الأميركي الموجّه، أن مكتب التحقيقات الفدرالي (F.B.I) حضَّ كل مواطن أميركي على التبليغ عن أي سلوك مريب يقوم به أصدقاء وجيران أو أقرباء ومعارف غرباء. والحصيلة أن ما بين أيلول/ سبتمبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 2001 سُجل ما يقارب سبعمئة ألف اتهام لآلاف الشرق أوسطيين من الجيران وأصحاب المحلات التجارية المحلية والموظفين وُجّهت اليهم التهم، مثلما حدث مع العديد من المواطنين الأميركيين الآخرين. لم تقد أي من هذه التهم الى أي معتقل أو حتى الى معلومات متعلقة بـ11 أيلول/ سبتمبر. وعلى مدى الشهور التالية على الحادث، قامت الشرطة الفيدرالية بالتحقيق مع مئات وآلاف من الأشخاص الأبرياء ومضايقتهم. عشرات الملايين من الأميركيين أصيبوا بهوس الخوف من 'الإرهاب' في عملهم اليومي وأثناء التسوق وخلال فترات الراحة.. لقد أحجم الناس عن نقد الحرب أو الحكومة، حتى لو كان بألطف العبارات، خوفاً من أن يوصموا بمؤيدي الإرهاب، أو أن تكتب التقارير بحقهم، أو أن يتعرضوا للتحقيق، أو أن يفقدوا عملهم. ولكي يعيد البيت الأبيض والبنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية والـ'إف بي آي' (الوجه الودود) للتوتاليتارية الداخلية، جرى إلقاء المسؤولية والتركيز على العرب خصوصاً والمسلمين بوجه عام. وبحسب جيمس بيترارس فإن الفاشية 'الودودة' مارست لعبة مزدوجة حيال هؤلاء 'الغرباء': هي تعتقلهم وتحقق معهم وتتهمهم وتستهدفهم، بينما ينادي خطابها الشعبي بفضائل التسامح والتعددية. ليست مبادئ التمييز العنصري واضحة للعيان، لكن التصوير العنصري لـ'الشرق أوسطيين' هو نهج عملي ثابت ومقبول تقوم به الشرطة الفيدرالية والحكومية والمحلية. ان الكثافة العالية للجماعات العربية كما هي الحال في ديربون وميتشيغان، تظهر كأنهم يعيشون في غيتو بانتظار مذبحة تدبر لهم وتحل بهم. ويعتبر رئيس مكتب التحقيق الفيدرالي أن جميع الجمعيات العربية الخيرية والأهلية وغيرها تدعم الإرهاب، وهي موضوع تحقيق وأعضاؤها أهداف للاعتقال.. لقد خلقت الحملات العنيفة لمداهمة بيوت ومخازن ومكاتب الجماعات الأهلية عقلية حصار، وأثارت حملة رجال الشرطة أشد الغرائز عنصرية، وحرَّضت اندفاع الإهانات والعداوات الأهلية.
الإرهاب عائد الى بيت أبيه
أكثر من خمسة عشر شهراً انقضت على الجدل السري بين مواقع القرار في الإدارة الأميركية حول وجوب تشكيل لجنة تحقيق في أحداث أيلول/ سبتمبر، وإلى أن اتخذ الرئيس بوش قراره بتشكيل لجنة برئاسة وزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر قبل أن يستقيل بعد أسبوعين على تشكيلها، كانت الإمبراطورية الإعلامية تتجاهل على الإجمال واحدة من أهم وأخطر بديهيات المهنة، أي إثارة الوجه القضائي للهجمات على مانهاتن وواشنطن. لكن السجال سيعود ليشتعل من الداخل، لتنطرح الأسئلة وإشارات الاستفهام حول مسؤولية القيادة السياسية والعسكرية وأجهزة الأمن والاستخبارات. خلال الفترة الواقعة بين الهجمات وتشكيل اللجنة أمسكت وسائل الإعلام عن إثارة القضية، لكنها بدلاً من ذلك سوف تتولى الدفاع عن الإدارة في وجه 'أولئك الذين يثيرون التضليل ويشيعون الفتنة في نفوس الأميركيين'.
وبعد 11 أيلول/ سبتمبر امتلأت وسائل الإعلام الأميركية بالإدانة المتسرعة لمن أسمتهم 'أصحاب نظرية المؤامرة' الذين لا وطنية لهم، والذين يسهل على وسائل الإعلام عادة أن تضر بسمعتهم، لأنه من الأمور المفروغ منها أنه ليس ثمة مؤامرة في الحياة الأميركية.
ولا شك في أن سلوك الرئيس جورج دبليو بوش في 11 أيلول/ سبتمبر يدعو الى إثارة كثير من الشكوك غير الطبيعية. ويتساءل المفكر الأميركي جورفيدال عمّا إذا كان باستطاعته أن يتصور رئيساً لدولة حديثة أخرى كان يمكن أن يستمر في الوقوف أمام عدسات المصورين لالتقاط صور 'دافئة' له وهو يستمع الى تلميذة صغيرة تروي له حكايات عن عنزتها التي تربيها، بينما كانت الطائرات المخطوفة ترتطم بالمباني الثلاثة الشهيرة!.. وبمقتضى الدستور فإن بوش ليس مجرد رئيس للدولة، بل هو أيضاً القائد الأعلى للقوات المسلحة. والمعتاد في مثل هذه الأوقات أن يتجه القائد الأعلى مباشرة الى مقر القيادة، ويوجِّه العمليات ويتلقى آخر المعلومات. وهذا ما فعله بوش بالضبط أو لم يفعله وفقاً لما قال به ستان جوف، وهو ضابط متقاعد في الجيش الأميركي قام بتدريس العلوم السياسية في قاعدة ويست بوينت. كتب جوف في رسالة بعنوان 'الدليل المزعوم حكاية كاذبة': لست أدري لماذا لا يسأل الناس أسئلة محددة للغاية عن تصرفات بوش وشركائه في يوم وقوع الهجمات؟ فقد اختُطفت أربع طائرات وأخرجت من خط طيرانها المقرر، وكل ذلك ظاهر على رادارات سلاح الجو الأميركي.
كان جور فيدال أحد أوائل من نبَّه الى أن إلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفياتي وتدميره لن يجلبا السلام الى العالم، لأن طبيعة القوة المنتصرة تحتاج الى عدو يبرر استثمارها في أسباب القوة.. وإذا لم يكن هذا العدو موجوداً فسيوجدونه. ويومذاك حدّد فيدال الأعداء المحتملين بالإسلام، غير غافل عن القوتين الأكبر في الشرق الأقصى والبؤر الحساسة، كمصادر النفط في الشرق الأوسط، والمياه الدافئة على تخوم روسيا، وكل ما يمكن أن يمثل مناخات قد تكون مناوئة للنظام الجديد. وكثيراً ما يصدم فيدال المؤسسة الأميركية بتصريحاته المثيرة للجدل.. فهو يتهم الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام بتضليل الرأي العام، معتبراً أن 'أميركا تضم ربع مليار نسمة مضلَّلين تماماً ومغيبين من جانب حكومتهم'. وكان قد انتقد الرئيس بوش قائلاً إنه يريد أن تستمر الحرب ضد الإرهاب الى الأبد.. وأشار الى أن بعض الأميركيين يشعر بالسعادة لأن هجمات 11 أيلول/ سبتمبر حددت المسلمين على أنهم الأعداء الجدد.
ينبّه جور فيدال الى الأثر الفظيع الذي يمارس أميركياً في إخفاء الحقائق. وإذا كانت 'عادة الإخفاء والتضليل' سمة استراتيجية في السلوك السياسي والأمني للإدارات الأميركية المتعاقبة، فإنها سمة استثنائية لإدارة جورج دبليو بوش وفريقه. وفي مقارنة بين واقعة بيرل هاربور في الحرب العالمية الثانية وواقعة أيلول/ سبتمبر الأخيرة، تظهر وحدة المنطق الداخلي بين الواقعتين، كما تكشف ما يتوارى خلف الغيمة السوداء من حقائق وأضاليل، حيث كان لأسلحة الدمار الشامل الإعلامية اليد الطولى في إنتاجها.
بعد واقعة بيرل هاربور بدأ الكونغرس يتحرى السبب في أن القائدين العسكريين في هاواي الجنرال شورت والأميرال كيمبل، لم يتوقعا الهجوم الياباني، ولكن الرئيس روزفلت أوقف ذلك التحقيق عن طريق القيام بتحقيق أجراه بنفسه، وقد دين شورت وكيمبل بعدم الكفاءة، وما زالت 'الحقيقة' خافية حتى اليوم.
واقعة بيرل هاربور دُرست دراسة واسعة، أما أحداث 11 أيلول/ سبتمبر فبدا أنه لن يدور تحقيق بشأنها إذا ترك الأمر لجورج بوش، ولولا الضغط من القضاء المستقل وعائلات الضحايا لما عزم على تشكيل اللجنة المشار إليها. في كانون الثاني/ يناير 2002 ذكرت محطة CNN أن 'بوش شخصياً طلب من توم داشيل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تضييق نطاق تحقيقات الكونغرس في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.. وقد قدَّم هذا الطلب في لقاء خاص مع زعماء الكونغرس.. وقالت المصادر ان الرئيس هو الذي بدأ الحديث في الموضوع.. وطلب بوش ألا يطّلع أحد غير لجنتي الاستخبارات في مجلسي النواب والشيوخ على جوانب الضعف المحتملة لدى الهيئات الفيدرالية التي سمحت بحدوث هجمات الإرهابيين، وألا يمتد التحقيق ليشمل جوانب أوسع من ذلك.. وقد جاءت مناقشة يوم الثلاثاء بعد واحدة من المكالمات القليلة التي أجراها ديك تشيني نائب الرئيس يوم الجمعة السابق وقدَّم فيها المطالب نفسها..'.
وكان العذر المقدَّم ـ وفق ما ذكره داشيل ـ هو أن 'المصادر والأشخاص سينشغلون عن الحرب على الإرهاب لدى حدوث تحقيق أوسع نطاقاً. وهكذا، فلأسباب يجب ألا نعرفها، ينبغي إلقاء اللوم في ذلك الإخفاق على عدم الكفاءة. وأما إذا لم تكن المسألة راجعة الى عدم الكفاءة بل الى أوامر بعدم التحقيق، فذلك شيء لا يجوز لنا أن نتصدى له. ومن المؤكد أن مرور ساعة كاملة وعشرين دقيقة من دون أن تنطلق الطائرات المقاتلة الى الجو، لا يمكن أن يكون راجعاً الى عدم الكفاءة في كل وحدات سلاح الطيران على طول الساحل الشرقي. لقد طلب إيقاف الإجراءات المعتادة الإلزامية وعدم تطبيقها.
وفي غضون ذلك كلفت وسائل الإعلام بمهمتها المعتادة وهي إثارة الرأي العام ضد بن لادن، من دون أن يكون هناك دليل قاطع على أنه مدبّر العملية. وهذه الحملات الدعائية كثيراً ما تتشابه مع الحيل التي يلجأ اليها الساحر عند تقديم ألعابه: فبينما تنصب أنظار المشاهدين على الألوان البرّاقة لمناديله الحريرية في إحدى يديه، يكون قد وضع الأرنب بيده الأخرى في جيب أحد المشاهدين. وقد أكدوا لنا باستعجال أن العائلة الكبيرة التي ينتمي إليها أسامة بن لادن وصاحبة الثروة الهائلة قد قطعت علاقتها به، كما فعلت الأسرة الحاكمة في بلده الأصلي: المملكة العربية السعودية، وأقسمت الـCIA وقد وضعت يدها على قلبها بأن أسامة لم يكن يعمل لحسابها في الحرب ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. وأخيراً، فإن الشائعات التي ترددت عن أن أسرة بوش قد استفادت بأي شكل من مشاركتها لأسرة بن لادن على امتداد سنوات طويلة كانت مجرد خطأ في الاختيار.. وماذا يمكن أن تكون غير ذلك؟
لكن مشاركة بوش الصغير ترجع الى سنة 1979 على الأقل، عندما أدّت محاولته الفاشلة الأولى لأن يصبح أحد اللاعبين في رابطة البترول الكبيرة في تكساس، الى التقائه برجل يدعى جيمس باث من هيوستن، وهو من أصدقاء الأسرة، وأعطى بوش الصغير 50 ألف دولار ليشتري بها حصة تبلغ 5 في المئة في مؤسسة بوش المسماة آربوستو إنرجي. وفي هذا الوقت ـ كما يقول واين ماتسن (كتاب 'في تلك الأيام' الذي يحمل رقم 25 بين مطبوعات معهد الشؤون العامة) ـ كان باث رجل الأعمال الأميركي الوحيد الذي يمثل سالم بن لادن رئيس الأسرة وشقيق (واحد من 17) أسامة بن لادن.. وفي بيان صدر بعد وقت قصير من هجمات 11 أيلول/ سبتمبر أنكر البيت الأبيض بشدة تلك العلاقة، مؤكداً أن باث كان يستثمر أمواله الخاصة وليست أموال سالم بن لادن في شركة آربوستو. وفي أقوال متضاربة أنكر بوش في البداية أنه عرف باث في أي وقت، ثم اعترف بحصته في آربوستو، وبأنه كان يعرف أن باث يمثل مصالح سعودية.. وبعد عدة تحولات تغيّر اسم آربوستو وظهرت في 1986 تحت اسم شركة هاركن للطاقة.
وكان وراء بوش الصغير بوش الكبير، الذي عمل مقابل مبلغ كبير لمصلحة مجموعة كارلايل التي لها رؤوس أموال في ما لا يقل عن 164 شركة في أنحاء العالم، ما أثار إعجاب تلك الجريدة الصديقة للأغنياء، جريدة 'وول ستريت جورنال'، التي ذكرت في وقت مبكر يرجع الى 27 أيلول/ سبتمبر 2001، أنه 'إذا عمدت الولايات المتحدة الى زيادة إنفاقها العسكري سعياً لإيقاف أنشطة أسامة بن لادن الإرهابية المزعومة، فقد يكون هناك مستفيد واحد غير متوقع: هم المستثمرون في مؤسسة أنشأتها مجموعة كارلايل، وهي بنك تجاري له اتصالات قوية في واشنطن ومتخصص في شراء الشركات المشتغلة بشؤون الدفاع والطيران.. وأسامة هو واحد من أكثر من 50 من أبناء محمد بن لادن الذي أنشأ أعمال الأسرة التي بلغت خمسة مليارات دولار'.
الإعلام كواسطة لإمبريالية مفتوحة
هكذا بدا باليقين أن الوجه الإعلامي للتطور الأميركي شكّل الآلية المتقدمة لظهور الإمبريالية المفتوحة. وكان بديهياً أن تؤدي الشبكة الإعلامية الهائلة مهمتها الكبرى في تفكيك أنظمة القيم في العالم. وإذا كانت مجتمعات الأطراف أو ما يصطلح عليها بالدول النامية، آثرت خيار التلقي والامتثال عموماً للهيمنة الإعلامية والثقافية الأميركية، فذلك ما لم يحصل على الإجمال في المجتمعات الغربية. فكان أن انفجرت في وجه الزحف الإعلامي الأميركي تيارات وازنة في المجتمع المدني الأوروبي تطالب بضرورة الممانعة والمواجهة. حتى ان الحكومة الكندية استشعرت هذا الخطر، وأعلنت على لسان السيدة شيلا كوبس النائبة السابقة لرئيس الوزراء ووزير المالية لعام 1997، وجوب مواجهة ما أسمته بـ'الإمبريالية الثقافية الأميركية'. وأكدت أنه إذا أصر الأميركيون على فرض هيمنتهم على المجتمع الثقافي العالمي باستخدام الأدوات المتاحة لهم، فإن عليهم أن يتوقعوا إجراءات مضادة.
المسألة بالنسبة الى المؤسسة السياسية الأميركية لا تتعلق بالأخلاقيات المجردة، وإنما أساساً وقبل أي شيء بملاءمة النشاط الإعلامي والثقافات المنتجة في سياقه مع الدرجة التي بلغها تطور شبكات المصالح والنفوذ في العالم. لذا فإن الآليات الإعلامية تقصد بشكل منهجي ومعمق إعادة تشكيل الوعي الجماعي العالمي وتكييفه على نحو يناسب حاجات الإمبريالية المفتوحة. فثورة التكنولوجيا الإعلامية كما يؤكد الكاتب الفرنسي أجناسيو رامونيه تتطلع لإحلال الحاسوب محل العقل البشري. وتتسارع هذه العقلنة العامة لأدوات الانتاج بفعل التوسع الكبير في الشبكة الجديدة للاتصالات، وبذلك ينشط الانتاج وتختفي بعض المواد وتتفجر موجة البطالة والعمل المؤقت (...). أما في الميدان الاقتصادي، فالسائد هو ظاهرة العولمة، أي الارتباط المتزايد والوثيق بين اقتصادات بلدان متعددة. وتهم هذه العولمة أساساً القطاع المالي الذي يهيمن من بعيد على الأجواء الاقتصادية. وتعمل الأسواق المالية طبقاً لقواعد وضعتها لنفسها بنفسها.. وباتت من الآن فصاعداً تفرض قوانينها الخاصة على الدول ذاتها. وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية أحدثت ثورتا الإعلام والاقتصاد أزمة في مفهوم السلطة، فبعد أن كانت هذه حتى عهد قريب عمودية أبوية مهيمنة، باتت الآن تزداد أفقية وفق تركيب شبكي (بفضل تقنيات الاستقلال الإعلامي) وتوافقي، وفي ذلك تغيير جذري لهوية السلطة السياسية وممارساتها.
لم تكن التكنولوجيا التي أنجبتها العقلانية الأميركية في أي يوم بريئة من غاياتها السياسية. كذلك لن تكون ثورة المعلومات التي اختتمت القرن العشرين بريئة من داء التسييس.
وحين يذهب الإعلام المسيطر ليسوِّغ ثورته المدهشة، فلا يفعل هذا إلا لخدمة طبقة سياسية تتصدر عرش العولمة وشركاتها الكبرى.
وعلى امتداد هذه الملحمة الفظيعة تلقي إمبريالية الصورة والصوت بظلالها فوق عالم يترنّح، وإنسان يواجه مصيره بعقلانية صارمة.
(*) صحافي وباحث في الفكر السياسي