اليوم، نجد العالم محاصراً بالاحتجاجات بشكل متزايد، فمع دخول الربع الأخير في 2019، باتت هناك مظاهرات ضخمة وعنيفة، في كثير من الأحيان، في لبنان وتشيلي وإسبانيا وهايتي والعراق وقبله في السودان السودان وأوغندا وإندونيسيا وأوكرانيا وبيرو وهونغ كونغ وزيمبابوي وكولومبيا وفرنسا وتركيا وفنزويلا وهولندا وإثيوبيا والبرازيل ومالاوي والجزائر والإكوادور، من بين أماكن أخرى.
ولكن ما الدافع وراء هذه المظاهرات؟ هناك احتمال أن تكون كل هذه الاحتجاجات هي مجرد مصادفة عشوائية، وهناك احتمال آخر وهو أن انتشار أخبار مثل هذه الاحتجاجات قد أصبح الآن واسع النطاق، وبالتالي فإنها باتت تبدو أكثر انتشاراً في العالم، لكن يجب أيضاً التفكير في السبب أو الأسباب التي قد تتقاسمها هذه الاحتجاجات.
وهناك موضوع متكرر في أغلب هذه المظاهرات وهو اعتراض المحتجين على زيادة الأسعار، ففي الإكوادور كانت النقطة المحورية في الاحتجاجات هي المطالبة بعودة دعم الوقود، كما كان دعم أسعار النفط أيضاً محور الاحتجاجات في هايتي، وفي لبنان خرج المواطنون بسبب غضبهم من فرض ضريبة جديدة على استخدام تطبيق «واتساب» الإلكتروني، كما أن وجود ضريبة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كان أيضاً سبب المشكلات في أوغندا، وفي السودان كانت إعانات الغذاء والوقود هي الشكوى الرئيسية، أما في تشيلي فهم يحتجون على رفع أجرة مترو الأنفاق.
ويبدو أن هناك اليوم اتجاهاً عالمياً لأن تستمر الزيادات في الأسعار في مواجهة رفض شعبي لدى السكان، والأهم من ذلك أن الإنترنت سيساعد هؤلاء السكان على تنظيم الاحتجاجات على هذا الارتفاع في الأسعار.
ويجب أن نضع في اعتبارنا أنه في الماضي كان يمكن تنظيم المظاهرات العمالية على الطراز القديم في مكان العمل أو المصنع نفسه، وذلك من خلال التقنيات الميدانية التي كانت تُستخدم قبل دخول الإنترنت، حيث توجد لغة مشتركة بين العمال، كما أن هناك مجموعة من الشبكات الاجتماعية التي تجمعهم معاً بما في ذلك ربما الاتحادات العمالية، ولكن في المقابل، أولئك الذين يعانون من زيادة الأسعار، لا يعرف عادةً بعضهم بعضاً ولا تكون لديهم روابط اجتماعية مشتركة، ولكن الشيء المشترك بينهم هو أن الجميع يشتري البنزين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومع ذلك، فإن الإنترنت يجعل من الممكن تعبئة هؤلاء الأشخاص لتنظيم الاحتجاجات مع اعتبار ارتفاع الأسعار هو الموضوع المشترك بينهم، وبمعنى آخر فإنه يبدو أن احتجاجات العمال قد أصبحت أقل أهمية، فيما أصبحت احتجاجات المستهلكين هي الأكثر أهمية اليوم.
وقد نتذكر أن أحد المطالب الأصلية لاحتجاجات السترات الصفراء في فرنسا كان بسبب رغبتهم في وجود موقف مجاني للسيارات في مدينة ديزني لاند الترفيهية في باريس، ففي حال كنت تعتقد أن هذا قد يبدو مجنوناً بعض الشيء، فإنك لم تستوعب بعد طبيعة الألفية الجديدة.
وفي المستقبل، قد يكون من الصعب للغاية على المستوى السياسي إحداث تغييرات في الأسعار بهدف تعزيز الكفاءة أو بسبب التقشف، فالاتجاه الجديد هو ليس التخطيط المركزي ولا القيام بإصلاحات ليبرالية للسوق، بل القيام بتجميد الأسعار، خصوصاً عندما يكون تحديد تلك الأسعار يتم من قِبل السياسيين.
وأحد الدروس التي نتعلمها اليوم هو أن مكافحة تغير المناخ ستكون أكثر صعوبة في المستقبل، حيث تحظى عملية دعم الوقود الأحفوري بشعبية كبيرة في العالم، ولا يبدو أن المواطنين مستعدين لمواجهة التضحيات الاقتصادية هذه الأيام، خصوصاً أن تغير المناخ لا يعد مصدر قلق كبير في معظم البلدان الأكثر فقراً، فقد كان معظم المظاهرات التي حشدت لها غريتا ثونبرغ (ناشطة سويدية تعمل على وقف الاحتباس الحراري وتغير المناخ) في البلدان الأكثر ثراءً، لكن يبدو أن انبعاثات الكربون في المستقبل ستأتي بشكل متزايد من الاقتصادات الناشئة، فحتى في هولندا، يحتجّ المزارعون من أجل حقهم في مواصلة الانبعاثات النيتروجينية.
وهناك درس آخر وهو أن إعادة التوزيع الفعَّال للثروة قد يصبح أكثر صعوبة أيضاً في المستقبل، ففي حين أن الاقتصاديين يميلون إلى اعتبار التحويلات النقدية البسيطة هي وسيلة أكثر فاعلية لإعادة توزيع الثروة، فإن إبقاء الأسعار منخفضة يؤدي بمرور الوقت إلى إحداث نقص في السلع وجودتها، فالاحتجاجات ليست شكلاً مفيداً من أشكال الضغط من أجل المساواة، ولذا فمن غير المرجح أن تتحسن المشكلات الأساسية كثيراً من خلالها، مما قد يؤدي بدوره إلى تفاقم الضغوط السياسية.
ومن غير المرجح أيضاً أن تكون هناك آيديولوجية معينة لاحتجاجات المستهلكين التي يتم تنظيمها على الإنترنت، وذلك بالمعنى التقليدي للآيديولوجيات من حيث الانتماء إلى اليسار واليمين، حيث يمكن للناس من ذوي الآراء السياسية المختلفة على نطاق واسع، بما في ذلك الأشخاص الذين ليس لديهم الكثير من الرأي على الإطلاق، أن يشعروا بالانزعاج من ارتفاع الأسعار، وقد يشجع الإنترنت أيضاً على تنظيم أكبر الاحتجاجات الممكنة، ولكن النقطة المهمة هي أن أي شخص يتوقع أن تؤدي هذه الاحتجاجات إلى إحداث التغيير السياسي المنشود سيخيب أمله.
وأود أن أحذر من ضرورة عدم تفسير الاحتجاجات على أنها ضمن الإطار الأميركي لمكافحة عدم المساواة، ففي حين أن الحرمان الاقتصادي هو أحد الأسباب الرئيسية للاحتجاجات الحالية، فإنه لا يبدو أن الحرمان المطلق ولا عدم المساواة يفسران الكثير من هذه الاحتجاجات، فالاحتجاجات التي تشهدها هايتي، وهي الدولة الأفقر في نصف الكرة الأرضية، كما أن الأداء السياسي فيها هو الأكثر اختلالاً في العالم، ترجع لأن الوضع الاقتصادي فيها سيئ للغاية، وفي تشيلي الدولة الأكثر ثراءً في أميركا اللاتينية ومع تراجع معدلات عدم المساواة فيها إلا أن المظاهرات هناك ترجع لارتفاع سقف التوقعات لدى السكان.
والحقيقة هي أن هناك شيئاً واحداً فقط مؤكداً وهو أن الإنترنت يستطيع تغيير كل شيء فيما يتعلق بالاحتجاجات الجماهيرية، كما هو الحال مع الكثير من الأشياء الأخرى.
الشرق الأوسط