صحيفة الأخبار
مصطفى بسيوني (صحافي مصري)
في السادس من تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 1981، انقطع الإرسال التلفزيوني ظهراً في مصر فجأةً أثناء البثّ المباشر للعرض العسكري السنوي المصاحب لاحتفالات أكتوبر. كان يجري في هذه اللحظة اغتيال رئيس الجمهورية أنور السادات. وظلّ المصريون طوال ساعات النهار يتبادلون الاحتمالات حول ما حدث، حتى جاءت الأنباء من راديو مونتي كارلو والإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية. المفارقة الأكبر أن بعض الصحف المصرية خرجت في اليوم التالي للاغتيال تهنّئ بسلامة الرئيس الذي كان قد فارق الحياة بالفعل. تكرّرت المفارقة بشكل أقلّ درامية في عهد مبارك، عندما سبقت وكالات أنباء عالمية الإعلام المصري في إذاعة نبأ محاولة اغتيال الرئيس المصري في إثيوبيا عام 1995. هاتان المفارقتان وغيرهما من التي تحدث يومياً في الإعلام العربي الرسمي مردّها ببساطة إلى أنّ المعايير الأمنية والسياسية هي ما يتحكّم فيه في المقام الأول. فإعلان نبأ ما في وسائل الإعلام الرسمية يتوقّف على مدى تأثيره في الوضع الأمني وفي صورة النظام الحاكم، ثم تأتي بقيّة المعايير لاحقاً أو لا تأتي.
الوضع الاحتكاري الذي تمتّعت به وسائل الإعلام العربية الرسمية جعلها منفردة بالساحة طوال الوقت، وجنّبها الدخول في منافسة جدية حول الصدقيّة والموضوعية والمعايير المهنية. لا شكّ أنّ وضعاً كهذا لا يدفع الإعلاميّين نحو تطوير القدرات المهنية والارتقاء بها، فضلاً عن أنّ السقف الإعلامي المنخفض، المكتفي بتسويق المواقف الرسمية وتبريرها وتلميع وجوه كبار المسؤلين ومدح الأصدقاء وهجاء الخصوم... لا يحتاج إلى مستويات مهنيّة عالية.
في النصف الثاني من التسعينات، بدأ الوضع بالتغيّر عند الدخول في عصر الفضائيات وتطوّر الاتصالات، فبدأت تظهر القنوات الفضائية، ثمّ انتشرت على المستوى الشعبي مع بداية الألفيّة معلنةً نهاية احتكار الإعلام الرسمي، لتفرض منافسة ليس الدوران في فلك النظم الحاكمة هو معيارها الوحيد.
حاول الإعلام الرسمي تطوير أدائه دون الخروج عن الثوابت، فظهرت بعض البرامج التفاعلية وبدأت تظهر على الشاشات الرسمية وجوه للمعارضة المعتدلة، وبدأت نشرات الأخبار تتناول بعض الأنباء التي لم تكن تتعرّض لها من قبل، مثل الاحتجاجات الشعبية والأحداث الطائفيّة، مع محاولة عرض أكثر من وجهة نظر حول الأحداث، أو بدقّة أكثر، أكثر من طريقة لوجهة النظر الرسمية نفسها طبعاً.
ورغم المحاولة، لم تكن الظروف في مصلحة الإعلام الرسمي. فالانفتاح الإعلامي واكبته، على كل الأصعدة خارجياً وداخلياً، تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة ضخمة منذ بداية الألفية، بدءاً بانتفاضة الأقصى عام 2000 حتى حصار غزة 2008، مروراً بأحداث أيلول 2001 وغزو العراق 2003 ، هذا عدا عن مختلف الأحداث الداخلية. وقد أدّت تلك الهزّات إلى جعل أولوية القائمين على تلك الوسائل ليس دعم الإعلام الرسمي في المنافسة مع الحرّ، بل حماية صورة الأنظمة الحاكمة ومصالحها. لذا ظلّت محاولات تطوير ذلك الإعلام الرسمي خجولة ومرتبكة. وفي أحد المواقف مثلاً، عندما حاول التلفزيون المصري نقل صورة شعبيّة للرئيس مبارك أثناء الانتخابات الرئاسية، بثّ لقاء للرئيس مع مواطن بسيط في الريف وهما يتناولان الشاي، وبدا إخراج المشهد جيداً ويوحي بطيبة وبساطة الرئيس، لولا أنّه أثناء الحوار بينهما اتضح أن المواطن هو أحد أفراد الداخلية، وأصبحت الحادثة إحدى نكات الانتخابات الرئاسية. ولا شكّ أنّ تمثيل الصدقية والموضوعية أمر يختلف كليّاً عن تطبيقهما بالفعل.
يمكن فهم وثيقة البث الفضائي التي تفاهم عليها وزراء الإعلام العرب في هذا السياق. لقد فشلنا في المنافسة ومللنا من تمثيل الموضوعية! هذا ما تقوله الوثيقة، والطريقة الوحيدة الباقية لمواجهة الإعلام المستقلّ هي بنزع تميّزه، فإذا كان يمتاز بعدم الارتباط بالموقف الرسمي علينا أن نلزمه استقاء البيانات والمعلومات من المصادر &laqascii117o;الرسمية"، وإذا كان يمتاز بعرض أحداث الشارع العربي كما هي فعلينا أن نلزمه &laqascii117o;عدم التحريض"، إلى آخر بنود الوثيقة التي جاءت لتعفي الإعلام الرسمي العربي من الجهد المتواضع أصلاً الذي اضطرّ إلى أن يبذله ليواكب الانفتاح الإعلامي، وكانت نتيجته المزيد من انكشافه أمام الإعلام المستقل. الحلّ إذاً هو إنهاء المنافسة ولو بطريقة غير شريفة، واستخدام القمع التقليدي جدّاً. واللافت هو حجم الكراهية الذي أظهرته الوثيقة الصادرة من وزراء الإعلام للقنوات المستقلّة، والذي عبّرت عنه القسوة في بنودها، مثل مصادرة المعدّات (وهو ما يوازي نزع سلاح العدوّ في المعارك)، والغرامات الكبيرة وإغلاق المكاتب... ما يؤكّد أن محرّك الوثيقة ليس روح تنظيم بيروقراطيّة بل الانتقام الأعمى الذي رأى في هذه الفضائيّات كشفاً لعورات مخزية، لم يعد سترها ممكناً. تحوّل الوثيقة المنافسة غير المتكافئة بين الإعلام الرسمي والمستقلّ حيث يتفوّق هذا الأخير، إلى معركة غير متكافئة أيضاً، يتمتّع فيها الإعلام الرسمي بدعم قوّات الأمن ووزارات الداخلية العربية.
والسؤال هو هل يستطيع الإعلام الرسمي العربي استعادة الهيمنة مرة أخرى بإجراءات كهذه؟ الواقع يقول إنّ سنوات الحظّ الجيد للإعلام الرسمي قد ولّت إلى الأبد، واستعادة الهيمنة لم تعد واردة. فمن ناحية، أصبحت مصادر المعلومات وآليات الاتصال والنشر أكثر وأسهل من أن يتمّ السيطرة عليها أو حتى تنظيمها. ثم إنّ الطبقات الرأسمالية ذاتها الصاعدة في الدول العربية لا تحتمل الاستغناء عن تدفّق الإعلام أو تقبل بوضعه بين أيدي بيروقراطيات عتيقة. ومن ناحية أخرى، يمثّل تسارع الأحداث السياسية والاجتماعية على المستويات المحليّة والإقليمية والدولية إرباكاً حقيقياً للإعلام الرسمي، بحيث أصبح من المستحيل عليه التمسّك بالخطاب الأُحادي وتجاهل ما يحدث. حتّى إنّ صراع الإعلام الرسمي نفسه مع الإعلام المستقلّ تحوّل إلى أحد موضوعات الحراك السياسي.
إنّ وزراء الإعلام العرب الذين كشّروا عن وثيقة البث الفضائي، عُدّوا طوال الوقت من المتقلّدين لوزارات سياديّة. فقد كانت وزارات الإعلام في الوطن العربي (إلى جانب الدفاع والخارجية والداخلية) من الوزارات السياديّة، حتى إنّ الاستيلاء على مبنى الإذاعة في إحدى الدول العربية كان إحدى آليات الاستيلاء على السلطة، كما يشهد الكثير من عمليات الانقلاب. والغضب الذي أظهرته الوثيقة مفهوم جدّاً بسبب تهديد مراكزهم، لكن من غير المفهوم تصوّرهم أنّهم يستطيعون السيطرة على الماء المفتوح من مقاعد وزاراتهم، حتى لو كانت سياديّة.
الشيء الذي يبعث على السخرية المُرّة في هذه الوثيقة، هي أنّها ثمرة التعاون العربي. هكذا فالتعاون الوحيد المثمر بين الأنظمة العربية هو الذي يتمّ بالتنسيق بين وزراء الداخلية العرب أو بين وزراء الإعلام العرب. الأنظمة العربية لم تستطع دعم المقاومة الفلسطينية أو حتّى تخفيف الحصار عن الشعب الفلسطيني، أو المساهمة في حلّ أزمات السودان، أو حلّ نزاعات المغرب العربي، أو حتى تدعيم مشاريع تنمية مشتركة تنعكس على الشعوب العربية بالخير. القمع والتزييف، الداخلية والإعلام، هي المجالات المسموح فيها بالتعاون العربي المشترك!