كتاب : صحافيان إسرائيليان يحققان في "حقيقة حرب لبنان الثانية"
كتبت رنده حيدر
يقول الصحافيان الاسرائيليان عوفر شيلح ويوآف ليمور في مقدمة كتابهما الجديد عن حرب تموز(•)، ان حرب لبنان الثانية ستبقى "جرحاً مفتوحاً". وفي بحثهما عن حقيقة ما جرى وسعيهما المحموم للبحث عن تفسير معقول للأحداث السبيل للشفاء من هذا الجرح. قبل تدبيج الكتاب قام المؤلفان بمقابلات مع أكثر من مئة شخص من السياسيين والعسكريين الاسرائيليين في سياق تجميع للمعلومات لا يختلف كثيراً عن العمل الذي كانت تقوم به لجنة فينوغراد للتحقيق في حرب لبنان الثانية. الفارق بين العملين ان شيلح وليمور لم يترددا في توجيه أصابع الاتهام الى المسؤولين الاساسيين عن اخفاقات هذه الحرب ولا في الكشف عن حقائق العطب الكبير الذي أصاب الجيش الاسرائيلي أثناء مواجهات حرب تموز.
في المقدمة يرى المؤلفان أنه من الصعب اليوم معرفة مدى تأثير هذه الحرب على الاستقرار الداخلي اللبناني وعلى توازن الرعب بين اسرائيل واعدائها. ويجزمان بان الحرب لم تحقق أهدافها، وأن "حزب الله" فوجىء بها، وأن المستفيدين الاساسيين منها هم الأطراف الذين لم يشاركوا فيها. ويكشفان ان اسرائيل استخدمت في الحرب الأخيرة عتاداً وذخيرة يساويان ما استخدمته في "حرب يوم الغفران" عام 1973 ورغم ذلك لم تحسم الحرب. ويشيران الى ان الخوف من تهديد صواريخ الكاتيوشا أكبر من الضرر الفعلي الناتج عنها، فالخمسة آلاف صاروخ التي أطلقها الحزب على اسرائيل لم تؤد الى انهيار المعنويات وضررها الاقتصادي كان محدوداً. لكن كل ذلك لا يغير شيئاً من الحقيقة الاساسية للفشل والاخفاق الكبيرين اللذين خرجت بهما هذه الحرب.
يمكن قراءة الفصول الأربعة للكتاب كتحقيق دقيق وعميق واستقصائي لأداء القيادتين السياسية والعسكرية اثناء الحرب، مكتوب بلغة مشحونة قلقة حية، تنتقل من التتبع الدقيق لتفاصيل الأحداث وعرضها بطريقة أقرب الى التصوير السينمائي السريع، الى الاحالات التاريخية والمعلومات المستقاة من الأرشيف العسكري والتي من شأنها ان تلقي الضوء على الشخصيات التي يجري الكلام عنها او الأحداث، كل ذلك بطريقة شديدة الاحترافية تشهد لواضعي الكتاب بالكفاية والمقدرة.
هذه ليست حرباً
تحت هذا العنوان يسلط الفصل الأول للكتاب الضوء على مدى ضعف القيادتين السياسية والعسكرية وجهلهما. من الأمثلة على ذلك أن وزير الدفاع عمير بيريتس كان يجهل مثلاً عدد الطاقم الذي يكون عادة على متن الدبابة وتفاجأ بعدد القتلى الذين سقطوا بعد مرور الدبابة التي هرعت الى مكان الخطف وانفجر بها لغم كبير. واحياناً كانت هيئة الاركان تأخذ قرارات بعملياتها من دون الرجوع اليه كما تفترض القاعدة. و يكشف هذا الفصل أن حادثة انفجار الدبابة التي خرقت الخط الأزرق بعيد حادثة الخطف والتي رفعت عدد قتلى الجيش الاسرائيلي خلال وقت قصير الى ثمانية قتلى هي التي حفزت على المضي في خيار الحرب وليس العملية المحدودة.
في هذا الفصل يعيد المؤلفان تركيب الأحداث من جديد داخل الفرقة 91 قبيل وقوع حادثة الخطف. ويرجعان الى الليلة التي سبقت الحادثة حين نقل الجندي المسؤول عن المراقبة والحراسة معلومات الى الضابط المسؤول عنه بأنه خلال الليل رصد تحركات مريبة تدل في رأيه على عملية تسلل لأكثر من 20 عنصراً من "حزب الله" بالقرب من السياج الحدودي حيث وقعت لاحقاً عملية القصف. ويتبين ان اللامبالاة التي استقبل بها قائد الدورية غولدفاسير الذي أسر لاحقاً وعدم اعطائه تعليمات خاصة للدورية ربما كان هو بداية الاخفاق الذي سيجر سلسلة طويلة وراءه.
اللافت في المعلومات التي يقدمها هذا الفصل سعي المقاتلين الذين نفذوا عملية الخطف الى عدم الحاق الأذى الجسدي الكبير بالجنود في محاولة واضحة لأسرهم أحياء. كما أظهرت احداث الساعات الأولى فشل الاجراءات العسكرية التي يتبعها الجيش الاسرائيلي عند حدوث عملية خطف والمعروفة بعملية "هنيبعل" والتي تفرض عزل المنطقة التي وقع بها الخطف لمنع المجموعة الخاطفة من الهرب. فقد تبين صعوبة تنفيذ ذلك على الأرض رغم خريطة أهداف القصف الجوي. من هنا كان قرار ارسال دبابة الى عيتا الشعب التي فُجّرت بعبوة زنتها طن من المتفجرات مما جعل قائد المنطقة الشمالية يتردد في كل مرة كان يريد ارسال دبابات الى داخل الاراضي اللبنانية.
من اليوم الأول للحرب أظهر رئيس الاركان دان حالوتس الكثير من العيوب أهمها اعتداده الكبير بنفسه واعتماده الاساسي على قدرة سلاح الجو على حسم العركة جواً، واستغلاله لجهل كل من اولمرت وبيريتس بالأمور العسكرية لتسويق خطة موضع شك وارتياب. فلقد تعامى عن خطر صواريخ الكاتيوشا الذي لا يمكن ازالته الا بعملية برية، وضغط من اجل القيام بعمليات عسكرية تبين انها عديمة التأثير مثل احتلال بنت جبيل، ولم يجمع هيئة الاركان ولو لمرة واحدة خلال الحرب للبحث في البدائل العسكرية، ناهيك بالخطأ الجسيم الذي ارتكبه بعدم دعوة الاحتياط في وقت مبكر.
على صعيد أداء ضباط الفرق والجنود خلال الحرب يكشف الكتاب ايضاً عدداً من العيوب الاساسية مثل افتقار الفرق الى التدريبات على الحرب الواسعة البرية بعد ان اقتصرت تحركاتها منذ عام 2000 على عمليات التوغل المحدودة في المناطق الفلسطينية. وانخفاض مستوى الاحترافية لدى الضباط، والاعتماد المفرط على التكنولوجيا، والخوف المبالغ فيه من وقوع اصابات بين الجنود.
سقوط خرافة العمليات الخاصة
لطالما عرف الجيش الاسرائيلي بتنفيذ عمليات خاصة قادرة على قلب الأوضاع رأساً على عقب. ومن بين الأمثلة البارزة عملية تحرير الرهائن في عينتيبي. في 18 أيلول بدأ التفكير بالعمليات الخاصة. وهنا نكتشف اقتراحات قدمت بانزال وحدة تدخّل تشمل مئات من المقاتلين في العاصمة بيروت تقوم بمحاصرة أهداف تابعة لـ"حزب الله" وضربها لكن حالوتس رفض الاقتراح.
ويكشف المؤلفان وجود وحدات خاصة للجيش الاسرائيلي في لبنان منذ الايام الأولى للحرب كانت تزود الجيش بالمعلومات الاستخباراتية و تساعده على تحديد اهداف القصف. ويتحدث الكتاب عن وجود قوة خاصة تابعة للجيش الاسرائيلي في سهل البقاع كانت تزود سلاح الجو بالمعلومات عن شحنات السلاح والصواريخ الاتية من دمشق كي يقوم بقصفها. وقد ولدت فكرة العملية الخاصة في بعلبك بتأثير من رغبة رئيس الحكومة والقادة العسكريين، لا سيما قادة الوحدات الخاصة بالقيام بعملية من شأنها تغيير مسار الحرب. من هنا الحاجة الى عملية نوعية مثل عملية بعلبك تقع في عمق منطقة نفوذ "حزب الله" ويمكن ان تؤدي للحصول على معلومات عن الجنديين المخطوفين.
العملية التي أُقرت بعد تردد ونُفذت في الأول من آب بمتابعة قلقة جداً من قيادة الاركان لم تسفر عن أي نتيجة. وفي تقدير عدد من المسؤولين الاسرائيليين العملية كانت ناجحة لكن الانجازات كانت ضئيلة. اما موقف مسؤول الاستخبارات العسكرية فكان مختلفاً، إذ اعتبر ان المجازفة كانت أكبر بكثير من الانجازات. بكلام آخر كانت العملية بالمقاييس الاستخبارية فاشلة.
ولم يكن نصيب عملية الانزال البحري في صور في الرابع من آب أوفر حظاً من عملية بعلبك. فقد اصيب ثمانية عناصر من الوحدة البحرية إصابة أحدهم خطرة في مقابل مقتل عشرة عناصر من الحزب. وجاءت النتائج ايضاً أقل بكثير من المتوقع.
لقد بددت هذه الحرب أسطورة الوحدات الخاصة وأظهرت ان هذه الوحدات تستطيع ان تنجح في مهماتها في حال قامت فرق الجيش الأخرى بعملها جيداً. وبذلك انعكس اخفاق الجيش على أداء الوحدات الخاصة وعلى عملياتها خلال الحرب والتي أتت باهتة ومن دون انجازات حقيقية.
لو دخلت سوريا الحرب...
يقول المؤلفان ان "المسألة السورية" كانت تحوم فوق حرب لبنان منذ البداية. فقد انقسمت الآراء في اسرائيل بين فئة كانت مع توجيه ضربة لسوريا، وأخرى كانت مع ضربة محدودة، وفئة ثالثة حذرت من حدوث مواجهة معها. ثم يطرحان السؤال: هل كانت اسرائيل تنوي توريط سوريا في الحرب؟ الجواب: "لم يكن هناك مؤامرة تهدف الى جر سوريا وتوجيه ضربه اليها. الأمر أبسط من ذلك لقد كان هناك اهمال في الموضوع السوري كشف كل المظاهر التي أدت الى الاخفاق في حرب لبنان. ويبدو ان ضبط النفس لدى الأسد منعه من تحقيق انتصار لأنه لو قرر الدخول في الحرب لوجد اسرائيل غير مستعدة لها". وهذا يشكل اعترافاً خطيراً بعدم اعداد اسرائيل العدة عسكرياً للدخول في مواجهة مع الجيش السوري.
يشير المؤلفان في هذا السياق الى رسائل أميركية كثيرة وردت الى اسرائيل في الايام الأولى للحرب تشير الى تحبيذ الادارة الأميركية توجيه ضربة اسرائيلية الى سوريا "تظهر للأسد معنى سلوكه المناهض لأميركا على الحدود السورية العراقية". وأكثر من مسؤول اسرائيلي التقى تشيني ورامسفيلد خرج بانطباع واضح بأن الولايات المتحدة تريد من اسرائيل ايجاد ذريعة لضرب سوريا (ص277). واعتبر مدير "سي آي إي" ان عدم ضرب سوريا كان خطأ ارتكبته اسرائيل. واعتبر انه يؤيده في ذلك عدد من الدول الأوروبية والعربية:" ليس الولايات المتحدة وحدها من حاول دفع اسرائيل الى مهاجمة سوريا، وانما كانت هناك دول عربية معينة شعرت بأنها مهددة من جانب المحور الايراني - السوري وجهت رسائل الى اسرائيل مفادها انها لا تمانع توجيه صفعة الى سوريا. كما وقفت دول أوروبية كانت مستاءة من اغتيال رفيق الحريري موقفاً مشابهاً من وراء الكواليس". لكن الموقف الرسمي للجيش الاسرائيلي كما يقول المؤلفان كان: ابقاء سوريا خارج الحرب هو احد الاهداف. هذا هو الموقف الذي كرره وزير الدفاع في أكثر من جلسة للحكومة خلال الحرب. وكان أيضاً موقف رئيس الأركان دان حالوتس. وحده نائب رئيس الأركان موشيه كابلينسكي كان ضد الموقف. فمنذ 12 تموز كان واضحاً أن على اسرائيل ان تستغل الفرصة لتوجيه ضربة الى سوريا. وكان يعتقد ان عدم قيام اسرائيل بذلك من شأنه أن يفسره السوريون علامة ضعف قد تدفع ثمنه غالياً في المستقبل. شاطر رئيس الموساد مئير ديغين كابلينسكي موقفه هذا ودعا هو ايضاً الى مهاجمة اهداف "مختارة" في سوريا. وزير الداخلية آفي ديختر الذي سبق واعترض على قصف الضاحية الجنوبية كان مع قصف اهداف في سوريا.
يشير المؤلفان الى ان اولمرت فكر خلال الاسبوعين الأولين للحرب في تصفية الحساب مع سوريا أكثر من مرة، ولكن المقربين منه حذروه من ذلك، وكلما طال القتال تراجعت الفكرة لديه.
يخلص المؤلفان من هذا كله الى استنتاج أساسي أن اسرائيل لم تكن مستعدة للدخول في مواجهة مع الأسد الذي لو قرر مهاجمتها لكان فاجأها وهي غير مستعدة لذلك فهي لم تقم بتعبئة الاحتياط ولم تنقل الى جبهة الجولان سوى فرقة نظامية واحدة رغم معرفة قائد المنطقة الشمالية باستعدادات الجيش السوري لخوض مواجهة بالكوماندوس البري وقدرته على القيام بهجوم بالصواريخ أرض- أرض.
ومع ذلك كانت تجري يومياً مداولات في رئاسة الاركان لإحتمالات الدخول في مواجهة مع سوريا ودراسة للسيناريوات المحتملة، وقررت قيادة الجيش تقليص حجم العتاد العسكري المستخدم في القتال في الايام الأخيرة للحرب تحسباً لإمكان دخول سوريا في القتال. يعتبر الاسرائيليون أن الهجوم الذي شنته الطائرات الاسرائيلية على موقع قرب الحدود السورية في 4 آب وأدى الى مقتل عشرات المزارعين السوريين كان يمكن ان يشكل ذريعة لسوريا للرد، لكن الأسد فضل ممارسة ضبط النفس وأجل الرد الى المكان والزمان الملائمين. فسر المسؤولون الاسرائيليون الموقف بأنه علامة نضج من جانب الأسد الذي تحدى سياسة الولايات المتحدة في المنطقة ومع ذلك لم يجازف بجر بلاده الى مواجهة عسكرية مع اسرائيل صيف 2006. ويجزم المؤلفان ان الضعف وعدم التصميم اللذين أظهرتهما اسرائيل في حربها على لبنان سينعكسان ليس على اسرائيل وحدها ولكن على السياسة الأميركية في المنطقة لا سيما في العراق.
ميزتان أساسيتان يقدمهما كتاب شيلح وليمور: الكم الهائل من التفاصيل ليوميات الحرب على لبنان؛ وتقويم ودقيق لأداء السياسيين والعسكريين فيها. نقطة الضعف هي التحليل السياسي والاستراتيجي لهذه الحرب ولانعكاساتها على النزاع العربي - الاسرائيلي.
(*) (عوفير شيلح ويوآف ليمور، "أسرى في لبنان: حقيقة حرب لبنان الثانية"، منشورات "يديعوت أحرونوت" تل أبيب 2007 (بالعبرية)