- 'السفير'
تفاقم الإفقار والتعنصر الصهيوني في مواجهة تحالفات الإسلام السياسي
احمد بعلبكي:
تحول اغتصاب فلسطين إلى قضية يُؤشر مدى الالتزام الاخلاقي بمناصرتها على صدقية الخطابات والممارسات السياسية للنخب العربية والمشرقية منها على وجه الخصوص. وشكلت هذه القضية، وان بمستويات متفاوتة، مُكوّنا مركزياً في الهوية القومية للشعوب العربية. ومن المألوف أن يُشتبه بأي إعراض للحكومات عنها فيُعتبر ذلك تواطؤا عليها ومدعاة للطعن بشرعيتها وللتطلّع الى أنظمة بديلة قادرة على مواجهة المصالح الامبريالية الحاضنة دائما لدولة الاغتصاب. وكان جلل النكبة قد عزّز من محورية القضية الفلسطينية ومن رفعها في خطاب تيارات الإسلاميين والقوميين العرب الى مرتبة القضية القومية الأم او القضية الجهادية. وهذا ما جعلها مصدر تحدّ لعجز الحكومات العربية المجاورة لفلسطين ومصدر إحراج لتحالفات الحكومات الخليجية مع الدول الغربية المتحكمة بنفطها. وهذه حكومات لم تُقدم يوما على دعم الفصائل الفلسطينية وأنظمة العجز القومي إلا لاعتباره كفارة عن جهاد محسوب دينيا عليها لتحرير القدس والآقصى، وعن تحالفاتها مع دول تحتضن اسرائيل.
استمرت حكومات الخليج في المساهمة بعد عام 1967 بتمويل تسلح دول العجز القومي وفي التعويض عن خسائر حروبها إلى الحين الذي تفجرت فيه انتفاضات النخب الشبابية المحبطة من الخواء القومي والاقتصادي والاجتماعي لهذه الانظمة، فوجدت في دعم الانتفاضات المطالبة بالحرية فرصا تاريخية للاجهاز على على تشامخها وللتخلص من ابتزازاتها المالية والسياسية. ووضعت قدراتها الاعلامية المحلية والاقليمية وحتى الدولية دعما لمطالب الانتفاضات في الديموقراطية والتعددية وهي مطالب ترى حكومات الخليج انها لا تتلاءم مع ثقافات وتقاليد مجتمعاتها المحافظة. ولذلك تأخر إعطاء المرأة حق التصويت، في خمس منها الى ما بعد عام 2002 ولم توافق اكبر حكومة منها حتى الآن على مثل هذا الحق في الوقت الذي كان قد أُعطي في باقي البلدان العربية قبل العام 1970 (1) على الرغم من انه حق يُصنّف في ادنى مستويات المشاركة السياسية.
مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والسـياسية في مجــتمعات العــجز القومي تقاسمت حكومات الخليج الأدوار في الانتفاض، هي ايضا، على انظمة هذه المجتمعات، فوضعت في تصرف نخب الحراك الشبابي مختلف انواع الدعم المحرضة على تحدي اجهزة القمع وعلى تجاوز ثقافة الاذعان السياسي والتقية لدى العوام. وهي الثقافة المتوارثة المشجــعة للحكام على الطغيان والتي رسختها هذه الاجهزة فانعكست تبجـيلا للحكام وإحباطا نفسيا ـ سياسيا طاول الشباب، خصوصا من الفئة العمرية (20 الى 35 سنة). هذه الفئة التي لا تقل نسبة ما تمثله من إجـمالي السـكان عن 30/100.
وسارعت حكومات الخليج النفطي معزّزة بأرصدة المال والاعلام والقدرات الضاربة ومدعومة من تحالفاتها الدولية لنسج تحالف من التيارات الليبرالية الأقل استفادة من منافع السلطة ومن المعارضات الإسلامية والديموقراطية التي سبق وعانت من استبداد أنظمة العجز القومي عن التصدي والصمود. وقد راهن التحالف الدولي ـ الخليجي على أن تعبئة مثل هذه التيارات، تحت شعارات الحرية والتعددية وضرب الفساد، تكفي لتخليصها من مركزيات الاستبداد القومي المتمرسة في ابتزازها والمحرجة لتحالفاتها الدولية. وان إطاحة هذه الانظمة المركزية سيمكنها من تشكيل بُنى سياسية جديدة تعددية بديلة بالرغم من التنابذات الايديولوجية والاجتماعية العصيوية بين هذه التيارات ومن حداثة تآلفها مع الالتزام بالنصوص الدستورية المقترحة عليها لتنظيم ليبراليتها الموعودة.
هكذا انتقل ملوك وأمراء الخليج، بكل عزيمة وتحت شعارات دعم الحرية والانتفاضات الديموقراطية، من ازدواجية المعلن والمُضمر في معايير مواقفهم السياسية والخارجية الماضية إلى وحدانية معيار مصالح وعلاقات أنظمتهم الامن والاستقرار. وهو تحول يقضي بالاجهاز على أي نظام يواصل ابتزازهم رغم تواصل مآزقه، أو يحدّ من حريتهم في القيام بأدوارهم المتناغمة، داخل منطقة الشرق الأوسط، مع مصالح وطروحات التحالف الدولي الضامن لأمنهم.
كان قرار مجلس الجامعة العربية الطلب من حلف الناتو التدخل لإطاحة النظام الليبي سهل التلبية بفعل ما تُتيحه هذه الاطاحة لدول الحلف المشاركة بتدمير المنشآت والبنى التحتية من التفرد بمغانم التعاقدات مع سلطة التجمع القبلي ـ الجهوي الجديدة العاجزة عن فرض شروطها في التفاوض على إعادة الاعمار واستثمار المخزون الليبي المميّز من النفط والغاز. ويُرجّح من سهولة إطاحة هذا النظام المنفعل اقليميا تضاؤل الانفعالات العربية القريبة والبعيدة المعترضة على زواله، وتضاؤل الارتدادات السياسية على الاستقرار السياسي في دول شمال افريقيا ومنها الدولتان المجاورتان مصر وتونس بعد زوال النظامين الاستبداديين فيهما وتجديد الرهان الاميركي والاوروبي، حتى أجل آخر، على تحسين إمكانيات التعامل والتفاهم مع حكوماتهما ذات الغالبية الاسلامية في ما يتوافق مع الاولويات الاقليمية لهذا الرهان. وعلى عكس ما ظهرت عليه الارتدادات السياسية والامنية الاقليمية لإطاحة نظام الاستبداد السوري حيث يُرجّح، حتى الآن، ان ترتد الاطاحة المتعثرة به على التوازنات السياسية المتوترة داخل بلدان الشرق الاوسط وحولها بما فيها اسرائيل اولا وتركيا وايران ثانيا. وهنا يجدر التذكير بأن إصرار النظام البعثي في سوريا على ابتزاز توجهات مجلس التعاون الخليجي المتحصن بالدعم العسكري والسياسي للولايات المتحدة والدول الاوربية وعلى لعب دور مركزي في ممانعة التطبيع مع اسرائيل كأولى أولويات هذه الدول جعل مجلس التعاون الخليجي يستثمر رياح الانتفاضات الشبابية العربية ليقود حملة إطاحة النظام السوري ايا كانت الأكلاف.
إن المنطق الجديد القائم على تجاوز مبدأ سيادة الدول المعاندة لمراكز القرار الدولي وعلى إطاحة أنظمتها بحجة فرض احترام حقوق الأفراد والجماعات عن طريق توفير كل أنواع الدعم لمعارضاتها المتنافرة قد أصبح منطقاً مهيمناً في الثقافة السياسية بفعل ما توفرها له احتكارات الإعلام الفضائي المعولم الذي أخذ يشهد إسهاما خليجيا ملحوظا.
لعبت إمارة قطر الدور الريادي في التحول الاستراتيجي الذي فاجأ الكثيرين من أنصار الممانعة. وتمثل هذا التحول في خروجها عن المألوف في التضامن القوموي وفي دعم ممانعة النظام السوري الى اعتماد نهج التحريض على استبداده وتضييق الحصار عليه مستفيدة في داخل سوريا من تراكم الازمات الاجتماعية ـ الاقتصادية وتفاقمها ومستنفرة القدرات البشرية للمعارضات على انواعها ومستفيدة في خارج سوريا من نفوذ الدول النيوليبرالية الحليفة للخليج القادرة على توفير الشرعنة الدولية لتجاوز سيادة الدولة السورية وتسهيل تشكيل جبهة المعارضة وتأهيلها لقيادة نظام بديل.
هل يصح التبسيط في القول بأن سياسة وإعلام إمارة قطر يمثل غدرا بنظام الممانعة السوري؟
ـ إن مثل هذا السؤال يستدعي التذكير بأن إجمالي السكان في المجتمع القطري يُقدّر بما يقارب المليون وبأن الناتج الإجمالي المحلي للفرد معدلا بالقيمة الشرائية للدولار في قطر (2) كان يساوي عام 2005 حوالى 8 أضعاف حصة الفرد من هذا الناتج في سوريا وحوالى 28 ضعفاً حصة الفرد في اليمن. والتذكير بأن هذا الناتج الاجمالي يقوم على ريع النفط الذي ترتفع نسبته من الصادرات الى حوالى 90%.
ـ وهو سؤال يستدعي التذكير ايضا بأن المجتمع القطري هو المجتمع الخليجي الاغنى، والآكـثر تجانسا على الصعـيد الدينـي، والأقل تعـرضا في تكوينه الثقافي ـ الاجتماعي للتدخل السياسي الخارجي، والاكثر سخاء والتزاما في إعلامها وفي تمويل وتسويق سياساتـها الاقليمــية. ان المزايا التي يتميز بها المجتمع القطري، وفي طليعتها مزية التركيبة السكانية ـ العشائرية الضيقة، التي يستعصي في إطارها، قيام معارضة سياسية قادرة على مخالفة توجهات الحكومة القطرية هي مزايا تجعل الحكومة القطرية الأكثر تأهلا في ظروف دولية مشجعة لاستقطاب مختلف انواع الدعم الغربي النيوليبرالي للتخلص من أنظمة العـجز القـومي المـبتزة للدول النفطية وفي طليعتها النهج البعثي المتحصن سياسيا بممانعة التطبيع مع اسرائيل. كل هذا مكن التحالف الدولي ـ الخليجي بقيادة الحكومة القطرية من خلع عباءة التضـامن القوموي للجامـعة العـربية وشد منطق التداول والقرار في قاعات مؤتمراتها من منطق التعاملات &laqascii117o;الأخوية" الذي ترجحه دول العجز القومـي في ما تسمـيه &laqascii117o;الدفاع عن كرامة الأمة" الى منطق نيوليبرالي يعطي لأي حـكومة عربية الحـق بالتعبئة ضد أي نظام عربي آخر يتعارض مع سياساتها وتحالفاتها الدولية.
هل كان يُنتظر من إمارة قطر وأخواتها في الخليج خاصة أن تواصل تحمل الحرج السياسي الإقليمي والدولي الذي يفرضه عليها نهج النظام السوري في مواجهة التحالف الدولي الضامن لحماية دولتها الاغنى اقليميا والاصغر ديموغرافيا، والضامن في محيطها الاكثر اضطرابا، لأمنها في تسويق ثرواتها والحفاظ على مستوى رفاه شعبها؟
إن الدعم السياسي والاجتماعي الذي قدمته وتقدمه حكومة قطر وأخواتها لمختلف أطراف المقاومة كان نوعا من الدعم الذي يخفف من عثراتها من جهة ولكنه كان من جهة اخرى يعزز من تأثير تلك الحكومة في قرارات هذه الأطراف تأثيراً يدرك التحالف الدولي ـ الإقليمي مفاعيله وإيجابياته في توجيه التفاوض مع الفلسطينيين.
لقد بالغ قادة النظام السوري في الرهان على استمالة القناعات القومية والدينية للحكومات الخليجية وملحقاتها عندما كانوا يحرجونها لتسديد ريوع الممانعة بحجة الدفاع عن كرامة الأمة. ولطالما سخت الحكومات الخليجية في دعم ممانعات سوريا وفي تمويل إعادة بناء ما دمرته الحروب الإسرائيلية على لبنان. ولطالما أنشدت القصائد في مدح أمير قطر وهو الذي قال فيه أحد أصحاب الدولة في لبنان، إثر اختتام مؤتمر الدوحة، إنه صاحب قطر الندى. فكيف تحول هذا الأمير بسحر ساحر من صاحب مكرمات على الأمة إلى حائك مؤامرات على الممانعة من أجل كرامتها؟
ـ هل يُعقل أن يغيب عن إدراك العروبيين وقادة الممانعة أن الإيديولوجيات القومية والدينية كانت تتسع على الدوام لشرعنة هواجس الحكام وأن أمن المصالح الاقتصادية هو الذي يحكم حدود التحالف ويحدد الظروف الملائمة لتوسيعها أو للخروج عليها وأن كل ملامة أخلاقية، على إخلال الانظمة بما يُسمى كرامة وقضايا الأمة لا تعدو كونها بعد اليوم ملهاة يعتمدها الحكام الخاسرون في استهبال عوامهم القاصرة عن محاسبة نهجهم؟
شروط وإمكانات التأثير في تحالفات الاسلام السياسي
هل من الممكن ان يدوم التعايش السياسي بين التحالف الخليجي - الغربي وبين القيادات السلطوية للحركات الاسلامية التي لا تتوقف عن ابراز نياتها في الاعتدال السياسي تطمينا لهذا التحالف؟
ان هذه القيادات تدرك جيدا ان ذلك التحالف لا يزال قادرا على إحكام الحصارات السياسية والاقتصادية والمالية حول حكوماتها القائمة والمنتظرة، وعلى تحريك خليط من الحركات النائمة كالبورجوازية الطفيلية اولا ومن الحركات الليبرالية الاجتماعية والشبابية العلمانية واليسارية ثانيا التي سبقت الاحزاب الاسلامية الى مبادرات التظاهر الاولى والى خرق جدار الخوف من طغيان أنظمة الاستبداد. واليوم يتزايد تخوف حركات هذا الخليط على اختلاف ميولها من نزعات التزمت السلفي المتنامي تحت عباءات القيادات الاسلامية وفي مؤسساتها. هذه القيادات التي لم تتفوق في الانتخابات النيابية فقط بسبب راديكالية الايمان الاخواني أو السلفي للجماهير التي انتخبتها بنسبة ثلثي المقترعين في مصر على سبيل المثال. ان افتراض الراديكالية الاسلامية لدى هذه النسبة العالية من المؤيدين لمرشحي الاحزاب الاسلامية في الانتخابات المصرية يعني في قراءة اخرى ان هذه الاحزاب خدمت السلطة، على امتداد اكثر من اربعين عاما، من خلال تحكمها بضبط نقمة وانتفاض الغالبية الشعبية المعوزة والمضطهدة. ان التفوق الانتخابي الذي حظي به هؤلاء المرشحون كان، في الواقع، بفعل ما ركزت عليه تلك الاحزاب، في حملات التعبئة الانتخابية اللافتة لمرشحيها، من الاخلاقيات الدينية الواعدة في مواجهة الفساد الموصوف والطغيان الشائع في مؤسسات الانظمة البائدة وتحالفاتها مع المحورالاميركي ـ الصهيوني.
ان مواصلة إفراط الليبراليين الديموقراطيـين والعلــمانيين واليـساريين في التحسس والتوجس الموروث حيال الاسلاميين، المربكين في مواجهة تركة الادارة الفاسدة والفقر والبطالة، جعلتهم يبتعدون عن الفهم الجدلي التاريخي لوحدة الجماعات الدينية ولحدود الترابط والتعــارض بين مصالح الفئآت الاجتماعية المتراتبة داخلها. ويبتعدون عن الحـذق السياسي في التواصل مع تيار الميـول الاخلاقيـة الشعبـية الاقرب، داخل تلك الجماعات، الى تحقيق العدالة والحماية الاجتماعيـين كحـقوق للانسان في الحياة الدنيا: فينصرون بتوجسهم المفرط هذا، ولو عن غير قصد، التيار الآخر داخل الأحزاب الاسلامية من أصحاب النهج الاغاثي المنتمين الى فئات المهن الحرة والبورجوازية الاسلامية المدينية الطفيلبة ممن يدعون المهمشين الى التصبر والتزهد في الدنيا لينالوا &laqascii117o;رزقهم في السماء وما يوعدون".
اننا نرى ان حكومات الخليط الاسلامي ستواجه مخاضات فرز سياسي مرتقبة، في الوقت الذي تضغط فيه التعبئة السلفية، المنتصرة انتخابيا هي ايضا بفضل اخلاقيات لا تصمد في مواجهة آليات الافقار المعولمة، لاستمالة قواعد الاخوان المسلمين. وفي الوقت الذي يتزايد فيه الجنوح الى مزيد من التعنصر بين مكونات الطبقة الحاكمة في اسرائيل. وفي الوقت الذي يستعصي فيه اكثر واكثر قيام انظمة بديلة قادرة على مواجهة تفاقم الفقر والبطالة. ويعود استعصاء قيام مثل هذه الانظمة الى تراجع القدرات التنافسية والتصديرية للقطاعات الانتاجية العربية تحت تأثير الضغوط من أجل اندماجها في الاسواق الدولية وفرض الانفتاح لاستقبال الواردات الاغراقية. ان التعامل السياسي الايجابي النقدي الحركات الليبرالية الديموقراطية والعلمانية واليسارية مع تيارات الاسلام السياسي الليبرالي داخل الحكومات الاسلامية في مواجهة تيارات الاسلام السلطوي المتزمت والمرتهن لتحالفاته الخارجية، سيعزز، بلا ريب، المناخ الملائم للانتقال إلى مستوى من الوعي الأكثر موضوعية في ترسيخ بناء المجتمعات العربية المنتفضة وفي قطع الطرق على عروض دول الاطلسي وشركائها في المنطقة العربية لاقامة ما تدعيه من انظمة ديموقراطية وهي الدول ذاتها التي رسخت في مجتمعاتنا العربية على مدى عقود طويلة انظمة الاستبداد البائدة.
- 'الأخبار'
الارتباكات حول الانتفاضة السورية
سلامة كيلة:
أثارت الانتفاضة في سوريا الكثير من التشكيك واللغط، وذلك بسبب التموضع السياسي في المنطقة العربية والمحيط الإقليمي؛ إذ تبدو السلطة في تحالف &laqascii117o;متصارع" مع السياسات الأميركية، مقابل دعمها المقاومة في لبنان وفلسطين، وهي آخر &laqascii117o;مقاومة" في وجه السيطرة الإمبريالية في &laqascii117o;الشرق الأوسط الموسّع"!
هكذا، يبدو أنّه يجب أن يكون الموقف الذي يتخذه أي كان أقرب إلى النظام السوري. لكن ما هو المنظور الذي لا بد لماركسي أن يلمس الوضع انطلاقاً منه؟ التحليل الاقتصادي السياسي أم التحليل السياسي &laqascii117o;الاستراتيجي"؟
الانطلاق كان من التحليل السياسي، وتناول المسألة من منظور &laqascii117o;استراتيجي" يقوم على رؤية &laqascii117o;العلاقات الدولية" والمواقف الناتجة منها، وخصوصاً العلاقة (التوافقية/ الصراعية) مع الإمبريالية، لأن هذه الأخيرة هي &laqascii117o;المركز" الذي يحكم النظر إلى كل المسائل الأخرى لدى قطاع كبير من الماركسيين. وهي &laqascii117o;الحلقة المركزية" التي تتمحور التناقضات حولها، وبالتالي فهي التي تحدد الموقف: مع أو ضد.
في الماركسية، لا بد من الانطلاق من التحليل الاقتصادي لفهم الوضع علمياً (وهذا أساس منهجي وليس موقفاً سياسياً)، وإلا تحكّم المنطق المثالي الذي يبدأ من &laqascii117o;السياسي"، ومن الدولة، ومن الأفكار. لا بد من البدء من الحقل الاقتصادي من أجل تلمس علمي للحقل السياسي.
وبذلك، حين يدرس الوضع السوري، لا بد من تناول التكوين الاقتصادي الذي تشكّل وأصبح هو المهيمن. ومن ثم التناقضات التي أفرزها: داخلياً (أي في الإطار الطبقي الداخلي)، وعالمياً (أي في إطار تموضعه العالمي). الملاحظ أنّ السنوات العشر الأخيرة قد أفضت إلى أن يعاد ترتيب الاقتصاد بما هو اقتصاد ليبرالي كامل. أي بانهيار دور الدولة الاقتصادي، وفرض الخصخصة، ومن ثم تمويت &laqascii117o;القطاع العام"، وسيطرة القطاع الخاص الذي أصبح يمتلك 70% من الدخل الوطني. ومن ثم حُوِّل الاقتصاد من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي، من خلال تركيز التوظيف في قطاعات ريعية، مثل العقارات والخدمات والسياحة والبنوك والتجارة. وهي العملية التي ترابطت مع التحوّل الذي جعل القطاع الخاص هو الأضخم. بمعنى أنّ توظيف القطاع الخاص اتجه إلى هذا المجال الريعي، وأفضى ذلك إلى انهيار كبير في الزراعة والصناعة. ولقد أفرزت تلك العملية استقطاباً طبقياً حاداً؛ إذ تمركزت الثروة بأيدي أقلية ضئيلة، وضمن هذا الشكل الجديد للاقتصاد رفاه شريحة نسبتها تقارب الـ20%، بينما هُمِّشت الـ80% الأخرى، سواء نتيجة البطالة (التي بلغت 30% من القوى العاملة تقريباً)، أو نتيجة الانخفاض الشديد في المداخيل؛ إذ أصبح الحد الأدنى للدخل هو أقل من ثلث الحد الأدنى الضروري للعيش &laqascii117o;الطبيعي".
أفضى هذا الوضع إلى تصاعد حدّة التناقض الطبقي، وهو وضع &laqascii117o;مثالي" لوجود الصراع الطبقي، الذي كان الاستبداد الطويل والشديد، والسيطرة المطلقة على النقابات، ومنع كل أشكال الاحتجاج، تمنع توضحه، إلا ببعض الاحتجاجات &laqascii117o;الكلامية" في مؤتمرات النقابات، أو ما كانت تشير إليه صحافة الأحزاب الشيوعية المشاركة في السلطة، أو في الإشارات التي كانت ترد في الصحف المحلية. لكن ذلك لم يكن يمنع تصاعد الاحتقان لدى كل الطبقات المفقرة، الذي كان وحده سيوصل إلى الانفجار الاجتماعي، بغض النظر عن الأشكال التي يتخذها. والانتفاضة هي التعبير عن هذا الاحتقان المتصاعد.
إذاً، البدء من الاقتصادي يوصل إلى الطبقي. وكما هو معروف في الماركسية، إنّ التناقض هو في البنية (التكوين الطبقي) التي تؤسس للاستغلال المباشر (أي التموضع الطبقي القائم في المجتمع). وبالتالي، إنّ الموقف لا بد من أن يتحدد من تلك النقطة، لا من أيّة نقطة أخرى. أي ليس من &laqascii117o;الحقل العالمي" الذي تتأسس فيه الظاهرة الإمبريالية؛ إذ يتحوّل التناقض هنا إلى تناقض سياسي، أي ينتقل من صراع طبقات إلى صراع دول، رغم الأساس الاقتصادي الذي يحكم هذا الصراع.
ما يجري من قبل بعض اليسار هو ذلك بالتحديد، ليصبح السياسي هو محدِّد الموقف، لا الطبقي. والسياسي ليس الطبقي بالضرورة، بل يمكن أن تصارع قوى سابقة للرأسمالية الإمبريالية، وهي هنا تصارع من منظور رجعي. بالتالي، لا تصبح قوى ثورية، أو يجري التحالف معها، رغم عدم تحويلها إلى عدو رئيسي. لكن حين تنهض الطبقات الشعبية ضد سلطة &laqascii117o;تختلف" مع الإمبريالية، يكون ضرورياً أولاً تحديد أسباب هذا الاختلاف، ثم الإصرار على تطوير الصراع الطبقي لأنّه يمثل التناقض الرئيسي.
لكن، هل الاختلاف القائم ذو أساس اقتصادي، أم طبقي؟ هنا لا بد من فهم الإمبريالية كتكوين اقتصادي، قبل أن تكون سياسة عالمية. لكن كذلك فهم بأنّ الوضع الطبقي هو الذي يحدد الموقف السياسي، وليس العكس. فالصراع بين البلدان الإمبريالية قائم رغم النمط الرأسمالي الموحد بينها، نتيجة التنافس، وكان يقوم مع بلدان تريد التحرر ببناء الصناعة وتطوير الزراعة وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي. والآن هناك تناقض بين الإمبرياليات الأميركية الأوروبية من جهة، والروسية الصينية من جهة أخرى. وكل تلك التناقضات لا تمس وضع الطبقات الشعبية أو النمط الاقتصادي السائد، وبالتالي هي تناقضات بين إمبرياليات.
والطابع الاقتصادي الذي يفرضه هذا النمط الآن هو تعميم الاقتصاد الريعي، من خلال فرض اقتصاد السوق واللبرلة، التي كانت تعمم انطلاقاً من شروط صندوق النقد الدولي، التي تفرض تخلّي الدولة عن دورها الاقتصادي (أي فرض الخصخصة، وإنهاء الدور الحمائي الذي فرض لمنع هروب فائض القيمة إلى الخارج). وقد عُمِّم الاقتصاد الريعي في العقدين الأخيرين، من خلال مركزة النشاط الاقتصادي في العقار والخدمات والاستيراد والبنوك والنشاط التجاري، وتدمير القوى المنتجة في الزراعة والصناعة. فذلك التكوين الاقتصادي هو الذي يسمح بتحقيق النهب الإمبريالي من خلال نشاط المال الذي ينشط في المضاربة والعقارات والبنوك وكل تلك القطاعات، وأيضاً في فتح باب التصدير لهذه البلدان واسعاً.
في المقابل، تكيّف الاقتصاد السوري مع هذا التكوين، رغم &laqascii117o;التناقض" القائم. فحصل تكيّف مع شروط صندوق النقد الدولي، رغم عدم وجود اتفاق مع الصندوق، وهو الأمر الذي زاد من سلبية ذلك على الاقتصاد (إذ يقدم الصندوق ميزات لم تتحقق في سوريا). بمعنى أنّ التحوّل الاقتصادي السوري كان يسير نحو الربط مع الإمبريالية اقتصادياً.
عادة ما كان يجري التمييز بين الاقتصاد والسياسة من قبل الأحزاب الشيوعية السورية، انطلاقاً من فكرة طرحها الرفيق خالد بكداش، أشار فيها إلى أنّه لو نظر إلى الوضع الداخلي لكان في المعارضة، لكنّه ينطلق من &laqascii117o;الموقف الوطني" لسوريا. هذا التمييز بين الطبقي والوطني، وأساساً بين الاقتصادي والسياسي (لمصلحة السياسي)، هو في صلب &laqascii117o;سوء الفهم" والموقف الخاطئ مما يجري في سوريا. فهل يمكن الفصل بين الاقتصادي والسياسي، أو الطبقي والوطني؟
الفهم المثالي يفعل ذلك، لكن الماركسية تنظر نظرة علمية لتلك المسألة. فالموقف السياسي عموماً، والموقف الوطني خصوصاً، لا ينفصلان عن المصالح الطبقية، بل هي نتاجها. فحين تصبح مصلحة الرأسمالي استيراد السلع، والتوظيف في السوق العالمي من الأموال التي ينهبها من السوق &laqascii117o;الوطني"، وينشط من أجل تهريب الأموال التي ينهبها إلى السوق العالمي، وإعادة تشكيل الاقتصاد المحلي انطلاقاً من مصالحه بما يجعله اقتصاداً ريعياً، يكون مهتماً للربط مع الطغم المالية الإمبريالية، والالتحاق بالسوق الرأسمالي. وهنا تسقط المسألة الوطنية، أو تخضع للمساومات التي تخدم المصالح الاقتصادية. فالرأسمالية المتشكلة هذه ترى أنّ وضعها الطبيعي هو في الارتباط بالطغم الإمبريالية لا مناوأتها (فالمناوأة قامت على أساس بناء الصناعة والزراعة والتحديث).
يفرض ذلك تفسير &laqascii117o;التناقض" بين السلطة السورية و&laqascii117o;الإمبريالية". فهو ليس تناقضاً طبقياً ما دامت الرأسمالية قد تكيّفت مع النمط الاقتصادي الإمبريالي. وليس تمسكاً بـ&laqascii117o;أيديولوجية" أو &laqascii117o;حب وطني"، فهي انهارت لدى الطبقة المسيطرة منذ زمن، وباتت أفكار البعث &laqascii117o;شماعة" تستخدم في &laqascii117o;الزنقات". لقد تحقق تشابك مالي بين &laqascii117o;رجال الأعمال الجدد" والرأسمالي الخليجي، والتركي، والأوروبي الشرقي (المافياوي)، والروسي. بمعنى أنّ &laqascii117o;الطبقة الجديدة" التي تأسست انطلاقاً من نهب الدولة والقطاع العام هي التي كيّفت الاقتصاد المحلي وفق &laqascii117o;الطابع العام" للشكل الطرفي للرأسمالية المسيطرة عالمياً.
يفرض ذلك تفسير الخلاف مع أميركا، وأوروبا، لكن لا يلغي أنّ الطبقة المسيطرة هي ريعية مافياوية مترابطة مع الرأسمال الإمبريالي (حتى وإن كان الخليجي أو الروسي أو التركي). بمعنى أنّ الخلاف السياسي مع أميركا لا ينفي أنّ الطبقة المسيطرة هي كذلك، وأنّها كيّفت الاقتصاد وفق &laqascii117o;الطابع العالمي" للإمبريالية الراهنة. وانطلاقاً من ذلك، يقيم أفراد تلك الطبقات &laqascii117o;تحالفاتهم" وعلاقاتهم، ويتمسكون بـ&laqascii117o;المقاومة"، ويسمون ممانعة. الخلاف ليس طبقياً، ولا اقتصادياً، بل سياسي؛ إذ كانت الاستراتيجية الأميركية بعد أيلول 2001 لا تستوعب استمرار هؤلاء في السلطة، من خلال السعي إلى تأسيس نظم طوائفية. إذاً، حققت الطبقة الرأسمالية المسيطرة التكوين الاقتصادي الذي يتكيّف مع الاندماج بالإمبريالية، لكن المطالب السياسية الإمبريالية كانت تمنع التفاهم، وتدفع للضغط لتحقيق تغيير في سوريا، ثم ـــــ بعد نجاح أوباما ـــــ محاولة التفاهم من جديد. لكن ربما كان تشابك العلاقات الجديدة، مع إيران وروسيا وتركيا، يؤخر في التفاهم. وهنا نشير إلى أنّ ذلك التناقض مع الإمبريالية هو تناقض ثانوي ما دام يقوم على أرضية الطابع الرأسمالي الطرفي. ولقد دخل في إطار التناقض بين الإمبرياليات (الأميركية/ الأوروبية، والروسية الصينية). وكذلك في إطار الصراع الإقليمي.
في هذا الوضع لا يكون الخلاف أساسياً، بل نتاج تفارق جزئي في ترتيب المصالح، وذلك في وضع بات الاقتصاد المحلي رأسمالياً محلقاً، ومتكيّفاً مع الطابع العام للإمبريالية. وهو الأمر الذي فرض حدوث الانفجار الاجتماعي. بالتالي لا يجب أن ينظر إلى الانتفاضة من منظور الموقف السياسي القائم، بل انطلاقاً من طبيعة الصراع الطبقي بالتحديد، وفهم طبيعة الخلاف مع الطغم الإمبريالية وحدودها، لكي لا تصبح هي المقياس للموقف من الانتفاضة، وخصوصاً في التحليل المنهجي؛ إذ يصبح الموقف السياسي هو الموجه للتحليل، بدل أن يكون تحليل الواقع، كما هو، هو الأساس لكل موقف.
اليسار الرائج ينطلق من السياسي، وهذا هو أس سوء فهمه للواقع منذ زمن بعيد. وهو لا يستطيع التمييز بين المصلحة الطبقية والخطاب الذي تنتجه الطبقة المسيطرة، فيجعل الخطاب بديلاً عن المصلحة. هكذا يكون الخطاب أحياناً كثيرة للتمويه على المصلحة، لا لإظهارها. وهذا جوهر سوء الموقف من الانتفاضة السورية.
ما يمكن قوله هنا هو أنّ الانتفاضة هي في جوهرها انتفاضة الطبقات الشعبية التي باتت عاجزة عن الاستمرار في الوضع الذي آلت إليه. وهي تهدف إلى إسقاط النظام لتحقيق مطالبها المتعلقة بوضعها المعيشي والحياتي، وبالظروف السياسية التي تسمح بذلك. لكنّها لا تجد الأحزاب التي تعبّر عنها بعد أن فجّرت انتفاضة عفوية، وانحكمت لوعيها &laqascii117o;التقليدي"، ولذلك كانت شعاراتها هي نتاج ذلك. وهنا نلمس غياب القوى الماركسية تماماً، رغم مشاركة ماركسيين كثر.
لذلك يطرح السؤال عن كيفية تبلور موقف ماركسي واضح منها، وكيف يتجمع الماركسيون المشاركون في الانتفاضة لكي يكوّنوا قوة حقيقية أولاً، ولكي يؤثروا في شعارات الانتفاضة وسياقها، بما يجعلها واضحة الأهداف (إضافة إلى إسقاط النظام)، ويطوّر من فاعليتها بعد أن أصبح دور العنصر الواعي مهماً في انتصارها؟.
- 'الحياة'
موسكو وتشكيل المنظومة الدولية الجديدة
عماد فوزي شعيبي:
يراهن بعضهم، درجاً على ما سبق، على تغير في الموقف الروسي تجاه المنطقة العربية، قد يحدث في وقت ما على شاكلة ما حدث في شأن العراق أو في اللحظة الليبية، إلا أن قراءة متمعنة في الموقف الروسي تستبعد ذلك للاعتبارات الآتية:التراجع الروسي غير ممكن في عالم اليوم نظراً إلى أن موسكو ترى في هذه الأحداث ومواجهتها للغرب بشقيه الأوروبي والأميركي فرصة لبلورة نظام عالمي جديد يتجاوز النظام العالمي (وهو ليس بنظام) الذي ساد بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، ممثلاً بنظام القطب الواحد الذي تحول إلى نظام اللاقطبية بعد حرب لبنان عام 2006.وعبر فلاديمير بوتين عن ذلك في الرسالة التي وجهها في 14 كانون الثاني (يناير) 2012 معلناً فيها أن هذه لحظة تشكيل نظام عالمي جديد ليس كما كانت الحال بعد سقوط الاتحاد السوفياتي نظام قطب واحد. وهذا ما عنى أن موسكو ذاهبة نحو النهاية في دفع أي محاولة لتجاوزها وصولاً إلى المواجهة، حيث بدا أن تصريح الخارجية الروسية بأن قيام الغرب بعملية عسكرية ضد إيران سيكون خطأً جسيماً ثم إلحاقه – لمزيد من التأكيد – بتصريح لبوتين يقول إن تجاوز الغرب وقيامه بأي عمل منفرد في الساحة الدولية سترد عليه موسكو بشدة، كان بمثابة &laqascii117o;إنذار" بأن موسكو ليست في وارد مساومات من النوع الذي عرف في شأن العراق أو حتى بخصوص تكرار الارتباك الروسي في المسألة الليبية، وأن الأمر اليوم يتجاوز ذلك نحو تشكيل نظام عالمي جديد ترافق مع انسحاب استراتيجي أميركي أعلنه الرئيس الأميركي أوباما في 2/1/2012 عندما أعلن خفض عديد القوات الأميركية من 750 ألفاً إلى 490 ألفاً وخفض الموازنة الدفاعية بمقدار 450 بليون دولار.
وهذا يعني عدم القدرة على فتح عمليتين عسكريتين في آن والانتقال إلى مواجهة الصين في جنوب شرقي آسيا وتسليحها، وهو ما ردت عليه بكين في 7/1/2012 بالقول: &laqascii117o;لن يكون بمقدور واشنطن منع بزوغ شمس الصين"، ما عنى أن واشنطن عادت لترتكب حماقة مواجهة الصين بعدما خسرت في مواجهتها لموسكو في غير مكان، سواء في لعبة الغاز في تركمانستان وإيران أو في شرق المتوسط حيث انسحبت مكتفية بالإعلان في استراتيجيتها المذكورة التزام &laqascii117o;استقرار" الشرق الأوسط وأمنه والاستدراك بأن واشنطن ستبقى يقظة.
في استراتيجيته، التي تتجاوز مجرد إعلان نيات انتخابية، كتب بوتين: &laqascii117o;إن العالم على وشك الدخول في مرحلة من الاضطرابات ستكون مؤلمة وطويلة". ولهذا، وبلهجة تقطع الشك باليقين، يؤكد أن لا انصياع لروسيا وراء الأوهام حيث ينهار نظام القطب الواحد الذي لم يستطع إقامة الاستقرار العالمي، فيما مراكز التأثير الجديدة ليست مستعدة بعد للقيام بذلك، أي أننا أمام مرحلة طويلة من المواجهة مع النظام القطب الواحد ريثما يتم تبلور قوى التأثير، وبالتالي النظام الجديد.
يتراجع الأميركيون – عادة – عندما لا تكون فرص نجاحهم سريعة ومؤكدة. وهم يعرفون حجم تراجع اقتصادهم وعدم تأثير قوتهم العسكرية بعد فقدان هيبتها (باستعمالها). صحيح أن بوتين يدرك أن الواقع لم يعد في تراجع، إلا أنه يدعو الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن والدول الثماني ومجموعة العشرين لوقف احتمال ارتفاع الاحتقان الاجتماعي والتوتر الإثني وظهور قوى مدمرة تعلن عن نفسها في شكل عدائي، وفي نهاية الأمر ستشكل خطراً على أمن شعوب العالم، وهي إشارة واضحة إلى رفض التيارات الدينية في مواقع القرار وفي الجماعات المسلحة المنفلتة عن منظومة الدولة، وهي التي يعلن بوتين بوضوح أنها حليفة لتلك الدول التي تحاول تصدير الديموقراطية بالقوة والأساليب العسكرية – بحسب تعبيره الحرفي – ما يعني أن لا هوادة في مواجهة موسكو لتلك التيارات السياسية ولتلك المجموعات المسلحة، حيث تبدو روسيا طرفاً أساسياً في الحرب ضدها. وينتهي الرئيس الروسي إلى أن انتهاك القانون الدولي لم يعد مبرراً، وإن كانت الأهداف تحمل نيات حسنة، ما يعني أن محاولة أميركا وفرنسا وبريطانيا استبدال مبدأ السيادة بمبدأ التدخل الإنساني هي ما يرفضه الروس وما هم مستعدون لمواجهته.واقع الأمر أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تنسحب كلياً من منطقة الشــرق الأوسط؛ إنها تخلي المنطقة &laqascii117o;للحرب بالوكالة" في وقت يقر فيه بوتين بأن القوى المشاركة والصاعدة ليست مستعدة بعد لأن تأخذ مكانها في العالم الجديد، الذي لن يكـــون بقــــطب واحد، وهي الصين والبرازيل والهند ومنظومة شنغهاي عموماً. وهذا ما سيترتب عليه الآتي:
1- سيكون العالم اليوم بلا قطبية أكثر مما مضى في المرحلة الممتدة من 2006 الى 2011.
2- ان الصراعات ستكون عالمية عبر لغة متصاعدة تصل إلى حافة الهاوية، وتنذر بأن يكون العالم بأسره في خطر الانزلاق.
3- ان قاعدة أن الدول العظمى لا تحتضر في الفراش هي قاعدة تستدعي من ناحية الحذر نيجة المخاطر المترتبة على الهروب إلى الأمام، عندما تجد دولة عظمى نفسها خارج المنظومة الكبرى التي اعتادت عليها منذ الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يؤرجح خياراتها بين الحرب والتوتير في مناطق نفوذ الآخرين. وعلى اعتبار أن الحرب صعبة بين الكبار أو شـــبه مـــستحيلة بسبب التسلح النووي، فإن التوتير أو الحـــروب بالوكالة سرعان ما تصبح الطرق البديلة عن صراع تحصين (الذات) الدولية. وهنالك خيارات إعادة توزيع مناطق النفوذ بالتراضي على طريقة يالطا جديدة. وهذا مستـــبعد حالياً وإن كان غير نهائي لأن (الخيار صفر) ليس من العمل السياسي بشيء، وعادة ما يكون ثمة قاعدة تقول إن هزيمة دولة عظمى ممكنة لكن انكسارها غير مستحسن، وان حفظ ماء وجهها هو الطريق الأمثل نحو &laqascii117o;مساكنة" بالتراضي بين دول الماضي العظمى ودول الحاضر، وهذا ما حدث مع فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
ادارة الأزمات بالأزمات
4- أبرز ما يدعو الى القلق هو استمرار هذه الوضعية التي تنافـــس الحرب البــاردة شــراسة وتغايرها أدواتٍ لفترة طويلة، إلى أن تستعيد دول الصعود (الشنغهايية) لتأخذ مكــاناً لها. وهذا يعني أن مناطق الصراع ستكون مهيأة لاســـتنزاف بعيد المدى (كوريا – إيران – سورية)، وهو ما يعني في لغة الســياسة المعاصرة الانفتاح على كل من (أثر الدومينو، والحراك اللانمطي، والبجعة السوداء ...)، أي على كل ما لم يكن متوقعاً أو محسوباً، وصولاً الى الانتقال من الصراعات المحدودة إلى صراعات نوعية تكون أحياناً كنوع من (المقامرات الكبرى) في مناطق الاستنزاف.الأكيد أن الدول التي هي اليوم طرف في الصراع ستكون طرفاً في القسمة ولن تكون القسمة الدولية على حسابها بالضرورة، لأنها طرف في الصراع. وكل الدول ستكون على هامش أو (أدوات) للصراع ستكون القسمة الدولية على حسابها. وقاعدة أن الاشتباك جزء من التقاسم هي قاعدة سليمة – حتى الآن – في قواعد الصراع الدولي، شرط ألا تفقد تلك الدول زمام المبادرة وحرية الإرادة والتصرف، وأن تتبع مبدأ (ثبات الإرادة) وهو مبدأ رئيس في إدارة الأزمات.
5- واقع الحال أن إدارة الأزمات ستكون قاعدة العمل للمرحلة المقبلة التي قد تستمر سنوات، لكن المخاطر تكمن في التحول نحو (إدارة الأزمة بالأزمات)، وهذا يعني تحول منطقة شرق المتوسط وجنوب شرقي آسيا إلى مناطق أزمات مزمنة.