- 'المستقبل'
كيف حكم 'البعث' سوريا ولبنان؟
'التوريث' في سوريا أنضجه النظام الأمني المشترك في لبنان
وسام سعادة:
من دون تظاهرات ولا تصادمات في الشوارع هبط بشار الأسد على كرسي الرئاسة في عاصمة الأمويين بتوريث 'بيولوجي' وعملية إستثنائية أمنية لوجستية، غطّاها نظام البعث وأدارها محمد سليمان وآل مخلوف، ذلك النظام الذي استطاع أن يحكم سوريا في ظلّ حافظ الأسد من وراء القبر الى حين اندلاع الثورة في 15 آذار 2011. ومن لبنان شكّلت التركيبة الأمنية، التي أوجدها النظام الأمني اللبناني- السوري المشترك، سنداً للانتقال الذي بقيت المؤسسات الحزبية بعيدة منه وتحقّق بسوريا وحدها 'بقرار جمهوري' وتعديل للدستور لم يحتَج الى أكثر من خمس دقائق. تركيبة كانت المحور والمبادر في التحرك لدعم التوريث وشكلت منظومة الوصاية التي لطالما خنقت اللبنانيين منذ ما بعد الحرب وانتكاسة اللعبة الديموقراطية البرلمانية مع وصول إميل لحود الى سدّة الرئاسة، ومن ثم التمديد له بالتوازي مع التوريث ضمن معادلة أن من يعارض الأول فهو متآمر ضد الثاني ومصيره القتل. المعادلة وضعت في وجه 'الحريرية' التي كان العداء لها يومها حاضراً بشكل منهجي، وكان الاسد الابن منذ البدء يرى في هالتها وحضورها في السياسة والاقتصاد خطراً حيوياً عليه. لخدمة التوريث قُدّم الرئيس 'العتيد' على أنه علماني وداعية المعلوماتية. النخب طالبته بان يظهر اختلافه عن والده وانتمائه الى جيل آخر، ذلك الاختلاف الذي حاول اثباته بتسامح أبداه مع 'المضافات المدنية' ثم ما لبث ان بدده بسياسة القمع الاولى ضد 'ربيع دمشق' على ما وُصف. كثر اعتقدوا أنه سيكون أقلّ جوراً ودموية وهو الآتي من 'المدنية' والبعيد من الجيش والعسكر، إلا أنهم ما لبثوا أن اكتشفوا أنهم مخطئون بعدما أظهرت مواقفه أنه ما زال يحافظ على شوكة العصبية الفئوية. عصبية تجلّت بقوة باستخدامه التصفية الجسدية حتى داخل النظام العلوي الحاكم وداخل عائلة الأسد نفسها، ومن ثم بانتهائه بدخول الموقع التبعي في تحالفه مع منظومة 'ولاية الفقيه' التي لطالما حرص الأسد الأب على عدم انزلاقه فيه. نجح 'البعث السوريّ' في ما عجزت عنه جميع الأنظمة التسلّطية في الجمهوريّات العربيّة: التوريث. بقي التوريث حلماً لم يتحقّق في العائلات الرئاسية الأخرى. عُدي وقصيّ قُتِلا قبل والدهما. علاء وجمال اعتُقلا مع والدهما. زين العابدين بن علي هرب مع زوجته. مصير 'القذاذفة' كان دمويّاً مثلهم. ضاعت جهود علي عبد الله صالح التوريثيّة لنجله أحمد. باختصار شديد، كان 'التوريث بقرار جمهوريّ' حديث الساعة في السنوات الماضية، في بغداد أو في القاهرة، في صنعاء أو في ليبيا أو في تونس، إلا أنّ الحالة السوريّة بقيت الإستثناء: في دمشق وحدها استطاع النظام، المتمسّك بأيديولوجيا تصف نفسها بأنّها تقدمية وعلمانية وديموقراطيّة شعبية، أن يؤمّن الغطاء للتوريث، الذي استطاع أن يحكم سوريا، في ظلّ حافظ الأسد من وراء القبر، إلى حين اندلاع شرارة الثورة السوريّة في 15 آذار 2011.
'التوريث'.. وتعديل الخمس دقائق
في الوقت نفسه، شكّل الإستثناء السوريّ حافزاً لجميع الأنظمة التسلّطية الأخرى في المنطقة، فالنغمة لم تزحف على البلدان الأخرى بهذا الشكل، إلا بعد أن كان رؤساء الجمهوريّة العرب ينصتون لمحاضرات بشّار الأسد في القمم العربية المتعاقبة، فيستحضر كل واحد منهم صورة نجله أو زوجته، ويقول لنفسه انّه كما ورّث حافظ لإبنه، فلإبني أو لزوجتي الحقّ كذلك، والقمم العربية يمكن أن تتسع لشتى أنواع المحاضرات. بشّار الأسد كان استثناء من ناحية أنّ التوريث انتقل إليه، ليس بشكل تلقائيّ كما يخيّل للإعتقاد لكن من دون مصادمات في الشارع، ولا تظاهرات رافضة، كتلك التي واجهت بها بعض المجموعات السوريّة الإنقلاب 'التصحيحيّ' الذي أوصل والده الى السلطة في تشرين الثاني 1970. بيدَ أنّ التوريث في سوريا لم يحصل مع ذلك إلا بفضل نجاح كوكبة من ضبّاط العصبية الغالبة في النظام، في تأمين غطاء أمنيّ لازم لذلك فور وفاة حافظ الأسد في 10 حزيران 2000، الأمر الذي تعيده مصادر أساسية إلى غرفة عمليات كان يقودها العميد محمد سليمان، وتكفّلت بمراقبة ومنع التقاء أي من العناصر التي كان يمكنها أن تغامر سواء داخل الأجهزة الأمنيّة أو ضمن من يوصفون بأنّهم أهل العصبية الواحدة، وبشكل مركّز 'ذوي القربى'، في إفساد الطبخة، طبخة توريث رئاسة الجمهورية العربية السوريّة إلى بشّار الأسد. بفضل هذه التغطية الأمنيّة المتقنة كان ممكناً، في هذا البلد الذي عرف الحيوية السياسية، سلمية أو عنفية، أكثر من سواه، أن يشهد على توريث رئاسة الجمهوريّة للإبن، بعد وفاة الأب، من خلال تعديل الدستور في خمس دقائق، ودون أن يكون النجل وقتها قد احتلّ منصباً أساسيّاً في الدولة أو في الحزب. وحيث 'لا مكان لعفويّة الجماهير' (وهذا لا ينفي أنّ للنظام جمهوره لكنّه تحديداً جمهور لا عفويّة لديه)، أخذ التلفزيون الرسميّ يذيع جلسة طارئة للبرلمان تلا فيها رئيسه آنذاك عبد القادر قدورة نعياً للأسد، وعرض اقتراحاً بتغيير الدستور لتعديل السنّ القانونية للمرشح لرئاسة الجمهورية من أربعين عاماً إلى أربعة وثلاثين عاماً، في حين كان التلفزيون يواصل بثّ مشاهد لجموع تبايع بشّار الأسد. وفي 11 حزيران 2000، أصدر السيد عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس السوري، مرسومين تشريعيين، 'بترقية الدكتور العقيد الركن بشّار الأسد إلى رتبة فريق، وتعيينه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلّحة'.
'عبادة الفرد'.. والرواية اللحودية
وهنا، يظهر فارق كبير بين 'الحالة' بشّار الأسد، التي نجح نظام العصبية الفئوية والتركيبة الشموليّة في توريثها الحكم، وبين المشاريع التوريثيّة المجهضة في العالم العربيّ. فإذا قارنا مثلاً بحالة جمال مبارك، نجد أنّ مشروع توريث الأخير، اتخذ مساراً انتقالياً، اسمه 'لجنة السياسات في الحزب الوطني'، أمّا في حالة الأسد الإبن فبدا الأمر أشبه بهبوط مظليّ على كرسي الرئاسة الأوّلى في عاصمة الأمويين. بيد أنّ النظام البعثيّ، كان استقرّ على 'عبادة الفرد' المطلقة لحافظ الأسد وحده، خصوصاً بعد تخلّص الأخير من مغبّة الوقوع في ثالوث الأخوة، الموقعين ببعضهم البعض، حافظ وجميل ورفعت. و'عبادة الفرد' هذه ليس من السهل توريثها داخل النظام، إن لم يكن هناك 'وصيّة' أو 'نصّ' من حافظ الأسد يقضي بتوريث بشّار الأسد. وهنا، ولو كان الأمر رمزيّاً، إلا أنّ من تكفّل بالمهمّة كان الرئيس اللبنانيّ، البشّاريّ جدّاً، إميل لحّود. سيكرّس لحّود، ومعه النظام البعثيّ، الرواية التالية: انّ وفاة الرئيس حافظ الأسد حدثت في أثناء مكالمة هاتفية مع لحّود، وأنّ آخر جملة قالها الأسد للحود قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة كانت: 'قدرنا أن نبني لأولادنا مستقبلاً يطمئنون اليه، وواجبنا أن نورثهم أفضل مما ورثنا'. على الأقل، كانت هذه الكلمات، في الرواية اللحودية الدراماتيكية، المعتمدة بعثياً، تستبق تذرّع أي ضابط طموح من داخل الصفوة الحاكمة، بما كان سبق لحافظ الأسد أن صرّح به أكثر من مرّة في عقد التسعينيات. مثلاً، في مقابلته مع مجلة 'تايم' في 13 تشرين الثاني 1992، وردا على سؤال حول نيّته التوريث قال: 'ليس لدي خليفة. إن من يحدّد الخليفة هم المؤسسات والمنظمات الحكومية والدستورية والمؤسسات الحزبية، وأنا أؤمن أنّها جميعها تتمتع بجذور عميقة نظراً لخبرتها الطويلة الممتدة عبر عشرين أو اثنين وعشرين عاماً، وهي قادرة على احتواء هذا الموقف'. اللافت هنا، أنّ 'المؤسّسات الحزبية' تحديداً لم تلعب دوراً يُذكَر، ولو ثانويّاً، أو شكليّاً، في تأمين عملية التوريث، وهو ما أوقع البعض في الفترة الأولى في وهم أنّ من طعن مفهوم الجمهوريّة بإنتقال كرسي الرئاسة إليه بهذه الطريقة اللادستوريّة، التوريثية، الفظّة والسريعة والكاريكاتورية والخائفة، لا نعرف من أين 'تسلّل'، سوف يكون من نمط جديد، غير بعثيّ، أو إصلاحيّ. ويومها، قدّم الرئيس 'العتيد' على أنّه داعية المعلوماتية، وهو وهم سيبدّده لاحقاً فيلم المخرج الراحل عمر أميرالاي 'الطوفان في بلاد البعث'. واضح إذاً اليوم أنّ عملية أمنية لوجستية كبيرة استطاعت تأمين 'تعديل الخمس دقائق' على هذا النحو، وأنّ الخوف من حدوث أي ثغرة وصل وقتها إلى حدود قياسيّة في أجهزة النظام. هذه العملية الأمنية اللوجستية لعب فيها العميد محمد سليمان من ناحية، وعائلة مخلوف (أقرباء الأسد الإبن من جهة الأم) من ناحية ثانية (تحديداً عدنان مخلوف الذي كان قائداً للحرس الجمهوريّ وأولاده)، دوراً أساسيّاً، فكانوا العين الساهرة لتأمين الطريق أمام الرئيس العتيد، ريثما يشتدّ عوده أكثر، ويصير قادراً على قيادة 'الأمة العربية' إلى حيث تقتضي 'الرسالة الخالدة'. بهذا المعنى، لا يتناقض القول بأنّ بشّار الأسد جاء بتوريث 'بيولوجيّ' مع القول بأنّه جاء بعملية أمنيّة، من الممكن أن تنجلي تفاصيلها التقنية أكثر عندما تفتح ملفّات كثيرة بعد سقوط النظام.
'طبيب العيون'... على طريق التأهيل 'البعثي'
لكن ذلك لا يعني أنّ بشّار الأسد كان لا يزال 'طبيب العيون' إلى حينه. فبين 21 كانون 1994، تاريخ وفاة شقيقه الأكبر باسل اثر حادث سيارة عن عمر يناهز 32 عاماً، وبين تاريخ وفاة والده في 10 حزيران 2000، كان بشّار الأسد قطع ست سنوات من 'التأهيل البعثي'، وذلك على مستويين: المؤسسة الأمنية الداخلية، وتأمين تركيبة أمنية مساندة له إنطلاقاً من النظام الأمنيّ اللبنانيّ ـ السوريّ المشترك الذي كان يشكّل منظومة الوصاية السوريّة المطبقة على اللبنانيين بشكل شامل، منذ انتكاسة اللعبة الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانية الهشّة أساساً بعد الحرب، إنّما التي تعرّضت لضربة كبرى، بوصول إميل لحّود، إلى سدّة الرئاسة، في خريف 1998، بخطاب بونابرتيّ إستفزازيّ، يشكّل حركة مضادة لعملية الإعمار وإعادة تشغيل الإقتصاد اللبنانيّ من ناحية، وحركة مضادة للعبة الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانيّة على هشاشتها، كما قلنا، تلك الهشاشة التي برّر بها إميل لحّود والنظام الأمني، حملتهما على ما أسموه يومها 'الطبقة السياسية اللبنانية'. عُجِنَ بشّار الأسد في هاتين المدرستين بين العامين 1994 و2000: تجاذبات مراكز القوى داخل سوريا، والتركيبة التي كانت تلتقي خيوطها على الثنائيّ إميل لحّود وجميل السيّد في لبنان، وهو ثنائي يستكمل سوريا بالنظيرين، رستم غزالي وجامع جامع. صحيح أنّه عندما نتحدّث عن 'نظام أمنيّ مشترك' ينبغي عدم طمس علاقة التبعية الشديدة، والمذلّة، التي تربط المسؤولين اللبنانيين فيه بالمسؤولين السوريين عليهم، إلا أنّه، وفي الوقت نفسه، كان الفريق اللبنانيّ ضمن هذه المنظومة، محوريّاً، ومبادراً، في التحرّك لدعم التوريث لبشّار الأسد. من هنا، كان من تحصيل الحاصل بعدذاك أن يتقاسم بشّار الأسد مع هذا الفريق الأحقاد نفسها، والضغائن نفسها. أيّ أنّه بالمستطاع القول، انّ 'العداء للحريريّة' على وجه التحديد، كان حاضراً بشكل منهجيّ منذ نهاية التسعينيات في هذا الفريق الرئاسيّ الذي سيشكله بشّار الأسد، وأنّ الأسد الإبن كان ينظر إلى الحريرية منذ البدء، وتحديداً إلى الهالة التي يشكّلها الحضور السياسيّ والإقتصاديّ للرئيس رفيق الحريريّ، على أنها خطر حيويّ عليه. وفي الأساس، كانت هذه محاولة من بشّار الأسد وفريقه، للهروب إلى الأمام من المشكلة الأساسية التي بدأت تعترضهم، ولو بدأت بأشكال خافتة في حزيران 2000، وهي أنّ الشعب السوريّ 'لم يبلع' الطريقة الكاريكاتوريّة التي عدّل بها الدستور للإتيان بالإبن خلفاً للأب، ولو أنّ 'المضافات المدنية' التي سيتسامح معها الإبن نسبياً، وجزئياً، لأشهر قليلة، قبل أن يباشر سياسة قمعه الأولى، ضد 'ربيع دمشق' كما كان يوصف آنذاك، كانت مضافات وأندية من النوع الذي يطالب الإبن بـ'الغاء حالة الطوارئ' وبإعادة مناخ الحريات والتعدّدية شيئاً فشيئاً إلى النخب ثم إلى البلد، أي بمعنى آخر كانت تطالبه بأن يظهر اختلافه عن والده، أي أن يظهر أنّه محكوم ليس فقط بثوابت انتمائه إلى عشيرته وعصبيته، وإلى تاريخ دمويّ بلغ ذروته في مجازر حماة 1982، بل أن يظهر أنّه ينتمي إلى جيل آخر. لكن من كان ليرصد مسيرة الشاب آنذاك (مواليد 1965) منذ البدء، ما كانت لتخدعه حكاية 'طبيب العيون' الذي سيتزوّج بالحسناء البرجوازية أسماء فواز الأخرس (المولودة عام 1975)، ابنة الطبيب المعروف المقيم في لندن، كاسراً بذلك القيود الطائفية أو المذهبية، رغم اعتراض والدته وشقيقته وربعه.
صورة 'الجزار' بانت سريعاً
هذه اللوحة الزاهية ستنجح في خلق أوهام كثيرة لفترة غير قليلة حتى عند الكثيرين، ممن كان يراهن على أنّ التجربة اللندنيّة، الطبية والعاطفية فضلاً عن المناخ الثقافي العام، ستجعل الرئيس الجديد لسوريا بعيداً كل البعد عن شلالات الدمّ التي شكّلت تاريخ التجربة البعثية في سوريا، أو تاريخ نكبة سوريا بالبعث. كثيرون اعتقدوا أنّ مدنيّاً يجري إقحامه في الجيش فجأة، ويرفّع الرتب على نحو إعتباطيّ، سيكون أقل وطأة وجوراً وعنفية ودمويّة من الذين تمرّسوا في الإنقلابات، وتنقّلوا بين 'اللجان العسكريّة السريّة' و'مجالس قيادة الثورة' و'المحاكم الثوريّة'. وكم كانوا مخطئين. ومع أنّ نيقولاوس فان دام كان نشر كتابه 'الصراع على السلطة في سوريا' قبل بضع سنوات من وفاة حافظ الأسد، إلا أنّه كان من أوائل من رصد الصورة المتعنّتة لبشّار الأسد، قبل أن يتقلّد الأخير أي منصب رسميّ. يعيدنا فان دام إلى اللحظة التي غطى فيها الإعلام الرسمي بشكل واسع عملية تقلد بشّار المهام التي كان يقوم بها شقيقه باسل قبل وفاته. وهكذا تخرّج بشّار الأسد في 17 تشرين الثاني 1994، أي في ذكرى الحركة التصحيحية، رسمياً من الكلية العسكرية في حمص التي التحق بها مباشرة بعد مصرع باسل. وحصل طبعاً على المركز الأول بين دفعته، في حين حصل 'على المركز الثاني قريب بشار وهو ابن عدنان مخلوف قائد الحرس الجمهوري'. يقول فان دام، انه بدا آنذاك 'وكأن جيلاً من الشباب (العلوي) الذي يتكون جزئياً من أبناء وأقارب اللواءات العلويين كان في طريقه إلى التكوين ليخلف داخل القوات المسلحة والمخابرات وفروع الأمن عامي 1994 و1995'. في الوقت نفسه يلمّح فان دام إلى أنّ ذاك تضمّن أيضاً 'بعض العناصر المحتملة لنشوب نزاعات بين الأجيال داخل المجتمع العلويّ'، وهو يضع في هذا الإطار تصادم بعض كبار ضباط الجيل السابق، مع بشّار الذي كان لم يبلغ الثلاثين عاماً آنذاك، وهو ما حدث تحديداً للواء العلوي علي حيدر، الذي اعتقل مع آخرين لفترة في صيف 1994.
لكنّ ما بات واضحاً أكثر اليوم، هو أنّ بشّار الأسد استعاد من أخيه باسل مسألة الترويج لنفسه تحت مسمّى الإصلاح ومحاربة الفساد، إنّما ما كان يندرج عند باسل الأسد ضمن طقوس معيّنة لتشكيل جيل عسكريّ أمنيّ جديد يتمكّن من خلافة الجيل القديم، ويحافظ على شوكة العصبية الفئوية إيّاها، إنّما بعد أن يعيد الحيوية إليها، صار يندرج بشكل أكثر مباشرة مع بشّار الأسد، على أساس 'المعادلة المخلوفية الأسديّة'. أي أنّ مركز النظام سينزاح تماماً من 'ذوي القربى' بمعنى حافظ وجميل ورفعت وكامل الدائرة، ليستقرّ في عائلة رئاسية محدّدة، تشكّل عقدة الوصل البيولوجية بينها، زواج حافظ الأسد من أنيسة أحمد مخلوف. لكنها عقدة الوصل.. الأيديولوجيّة أيضاً.
فالمعروف أنّ السيدة أنيسة تزوّجت حافظ الأسد رغم معارضة عائلتها، رغم انتمائهما للطائفة نفسها. وذلك بسبب من التحزّب 'القوميّ الإجتماعيّ' عند آل مخلوف. إلا أنّ ما سيحصل بنتيجة هذا الزواج هو تزاوج البعث السوريّ، في صيغته الفئوية الشموليّة، الطائفية ثم العائلية، مع كثير من رؤى وتصوّرات القوميين الإجتماعيين. الأمر الذي يجعل من هذا البعث، خصوصاً في المرحلة البشّارية، بعثاً قوميّاً إجتماعيّاً، على الصعيد العقائديّ، وأسرة حاكمة 'مخلوفية أسديّة'، قد لا يظهر إختلافها عن سياسات حافظ الأسد بالشكل الذي سيظهر فيه في أسلوب إدارتها للصراعات داخل الطائفة العلويّة. فالأسد الأب كان يحاول التخفيف من إراقة الدماء ضمن هذه الطائفة، كما كان يميل للتخفّف، أو ابعاد كل من يغامر بجعل الطائفية علنية، ومجاهر بها، في حين أنّ من المطلوب، كي يبقى النظام واقفاً على قدميه أن تكون هذه طائفية سرّية. وفي المقابل، الأسد الإبن لم يتورّع في استخدام التصفية الجسديّة حتى داخل الطاقم العلويّ الحاكم، تحديداً مع حالة غازي كنعان، لكن أيضاً في حالة محمد سليمان. كما أنّه ما كان بمستطاعه استيعاب أولاد عمومته، سواء أبناء جميل أو رفعت، وتحديداً في ما يتّصل بالنفوذ على مرفأي اللاذقية وطرطوس. أمّا على صعيد المسألة الطائفية، فقد ذهب بشّار الأسد بعيداً على الصعيد الشخصيّ، بزواجه الجريء مذهبياً من أسماء الأخرس، رغم اعتراض والدته وشقيقته، إلا أنّ هذا المسلك العلمانيّ على الصعيد الشخصيّ شيء، ودخوله أكثر فأكثر، ومن موقع تبعيّ، في تحالف مع منظومة 'ولاية الفقيه' التي يقودها نظام الملالي في طهران شيء آخر. وبنتيجة هذا التحالف التبعيّ، كان من الطبيعيّ أن يشعر الشعب السوريّ مجدّداً بالمسلك الفئويّ، المذهبيّ، المقلق، للطاقم الحاكم، ولو كان التعبير الأوّلي عن هذا القلق هو الأحاديث الكثيرة التي صار يرويها السوريّون في السنوات الخمس السابقة على اندلاع الثورة، حول 'التشييع المنظّم' التي تمارسه ايران في أحياء من دمشق وغيرها. ويقيناً أنّ معظم هذا مبالغة، لكنّه يشي دون أدنى شك، بانزلاق فئويّ مذهبي كبير للنظام في مرحلة بشّار الأسد، الأمر الذي يعود إلى معطيين أساسيين: نشأة العائلة 'الأسدية المخلوفية الجديدة' من جهة، والتحالف مع ايران ولاية الفقيه من موقع التبعية من جهة ثانية. وهنا أيضاً، تجدر العودة إلى لبنان، وما شكّله هذا البلد في مرحلة 'إعداد' بشّار الأسد لـ'الخلافة'، التي هي توريث بتغطية أمنية محكمة. فعلاوة على صعوده داخل المؤسسة الأمنية الحاكمة التي استدعي إليها بعد وفاة شقيقه، وهو صعود اتسم أساساً بتصليب عود 'العائلة الأسدية المخلوفية المشتركة'، كان النظام الأمنيّ اللبنانيّ السوريّ المشترك ممرّاً أساسيّاً لتمكين التوريث السوريّ من أن يتمّ. وبهذا المعنى، لعب فرض هذا النظام الأمنيّ لإميل لحود رئيساً للجمهورية اللبنانية عام 1998، دوراً عضوياً في تأمين السبيل لوصول بشّار الأسد إلى الرئاسة بعد وفاة والده، ثم عادَ التوريث السوريّ فأراد أن يترجم نفسه لبنانيّاً، فاستبقته انتخابات آب 2000 التي ألحقت هزيمة كبيرة بالنظام الأمنيّ، ثم كان نداء مجلس المطارنة الموارنة مطلقاً عملية استعادة السيادة اللبنانية، وبعده إعادة تموضع 'قرنة شهوان'، وانطلاقة الحركة الإستقلالية المتعدّدة الأوجه والأطر والمستويات، فكانَ أن كشف 'طبيب العيون' مبكراً عن تعطّشه للقمع الدامي، من طريق أعوانه اللبنانيين، كما في ضربة 7 آب 2001، لكنّ الأخطر من ذلك كانت المعادلة التي أوجدها في خريف 2004: التوريث سوريّاً يعني التمديد في لبنان، ومن يعارض التمديد في لبنان يتآمر ضدّ التوريث في سوريّا، ومن يتآمر بهذا الشكل يُقتَل. إنّ التوريث في سوريّا كانَ، منذ البداية، وبالاً على السوريين واللبنانيين، وندر من كان يعرف ذلك منذ البدء. لكن يروى، أنّ البعض كان يتهامس، أثناء مراسم جنازة الأسد الأب حول المصيبة التي تنتظر البلدين، في زمن بشّار وماهر وآصف وآل مخلوف.
- 'المستقبل'
سامي الخطيب: كنا نقف على أبواب غازي كنعان لـ'أخذ التوجيهات'
عبدالسلام موسى:
يختزن الوزير والنائب السابق سامي الخطيب الكثير من الوقائع في ذاكرة تعتز بجذورها 'الشهابية'، وتتمنى لو أنها لا تتذكر مرحلة يملك جرأة الإعتراف بأنه كان فيها 'شاهد زور' على وصاية سورية حكمت لبنان طوال 30 عاماً. لكن، لم يكن باليد حيلة، فما كان سائداً في تلك الحقبة من إرتماء بحضن النظام السوري لم يكن تهمة لأي رجل يتعاطي السياسة أو الشأن العام، طالما أن العرف الذي ساهم السياسيون بتكريسه كان يقضي بالوقوف على باب غازي كنعان ورستم غزالي لـ'نيل الرضى واخذ التوجيهات'، كما يقول 'حيث كنت التقي بالسواد الأعظم من السياسيين'، وهذا ما أطلق يد السوريين 'فقد كانوا يطلبون منا متراً، فنعطيهم بدل المتر أربعين'.
تختصر جدران مكتبه الدافئ، بما تحمله من صور مع قادة وزعماء عرب وأجانب، تاريخه الحافل في العسكر وفي 'الشعبة الثانية'، قائداً للجيش في 'بيروت الغربية' وقائداً لقوات الردع العربية، كما في السياسة التي احترفها وزيراً ونائباً حتى العام 2005. لا يسعك وانت في حضرة مكتبه إلا أن تنظر إلى صورة يصافح فيها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وهو منغمس في الحديث عن كيفية حكمه للبنان. صورة تبقى للذكرى في مكتبه، لكنه للتاريخ يقول الحقيقة بموضوعية بمعزل عما كان يربطه من علاقات مع السوريين، كما تثبت هذه السطور. يقول الخطيب: 'منذ تولى الأسد رئاسة الجمهورية صمم أن يعطي سوريا دوراً مؤثراً في المنطقة، وقرر أن يأتي بالعرب إلى صفه أو أن يجعلهم يخافون منه، إلى حد أنه قام بحرب العام 1973 ضد العدو الإسرائيلي كي لا يزايد أحد عليه في المقاومة، سيما وأنه أدرك أن الدور المؤثر الذي يطمح إليه لن يكون إذا لم يمسك بالورقة الفلسطينية والورقة اللبنانية، وكان له ما اراد'. إذاً، لم يكن الدخول السوري إلى لبنان 'صدفة'، طالما أن اللواء الخطيب يرى 'أن بوسطة عين الرمانة لم تكن صدفة، وأن مقتل الـ4 كتائبيين لم يكن صدفة ايضاً'، بل كانت 'مقدمات' على درب الإمساك السوري بالورقة اللبنانية من ألفها إلى يائها، بعد أن وصل الأسد إلى 'قناعة بفعل أحداث العامين 1969 و1970 فلسطينياً، بضرورة الإمساك بالورقة الفلسطينية كمقدمة لوضع اليد على لبنان تحت عنوان إما أن يكون مع سوريا الداعمة لفلسطين أو يكون مع إسرائيل المحتلة لها'. يروي كيف أن الأسد الأب أتى بالعرب كـ'شهود زور' على دخوله إلى لبنان تحت غطاء 'قوات الردع العربية' لإنقاذه من الحرب الأهلية، إستناداً إلى قرار مؤتمر القمة العربية في الرياض بوضع 30 ألف عسكري بتصرف رئيس الجمهورية اللبنانية الياس سركيس شخصياً. حينها زايد الأسد على العرب بقوله: 'ترسلون 29 ألفاً أرسل ألفاً، ترسلون ألفاً أرسل 29 ألف جندي سوري'. وبالفعل، حقق الأسد غايته من ذلك، حين اقتصرت 'قوات الردع العربية' على مشاركة الممكلة العربية السعودية، السودان، اليمن والإمارات العربية المتحدة بكتيبة لكل منها لا تزيد عن 700 جندي !. منذ ذلك الوقت بدأ الأسد يمسك بزمام السلطة في لبنان، وبدأ دوره يكبر، وبدأت الدول تتجه نحو سوريا لبحث قضية لبنان. ومنذ دخوله اصطدم بالحركة الوطنية وبالفلسطينين فقام بضرب كل المعارضين لوجوده. يشير الخطيب إلى أن الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982 كان 'نكسة كبيرة' لمخططات الأسد، فمن جملة أهدافه كان 'فرملة' التطور السوري في القبض على السلطة في لبنان. لم يهضم الأسد الهزيمة، خصوصاً وأن الدول العربية لم تجدد لقوات الردع العربية آنذاك، وأصبح كل همه منصباً على العودة إلى بيروت والمناطق التي اُخرج منها بقوة الجيش الإسرائيلي. هنا، 'وجد أن لديه وسيلة واحدة لتحقيق مخططاته، ألا وهي الجمهورية الإسلامية في إيران. وضع يده بيد القيادة الإيرانية، كمن فتح أنبوب ضغط باتجاه كل من كان يحاول تحجيم دوره'. والكلام للخطيب، 'ففي العام 1986، عاد العميد غازي كنعان إلى بيروت على رأس مجموعة من المخابرات. عودة السوري إلى بيروت اتسمت بـ'استقواء' مرده إلى إعتقاد بانه اتفق مع الأميركي على ترشيح مخايل الضاهر لرئاسة الجمهورية، قبل أن يتم إفشال الإتفاق لبنانياً، ويدخل لبنان في فوضى رئاسية'. وجاء اتفاق الطائف، ووافق السوري على مضض على ما يقضي بإعادة إنتشاره خلال سنتين، لكنه لم ينفذه، والتف عليه بمحاولة تقديم نفسه بمثابة 'المخلص' للبنان تحت شعار 'شعب واحد في دولتين'. وعليه، بدأ النظام السوري يتدخل في السياسة اللبنانية من أعلى المستويات إلى أصغرها، يتدخلون مع وزير الخارجية وفي نفس االوقت مع عريف في الدرك. أصبح غازي كنعان 'الحاكم الفعلي للبنان'، والكلام للواء الخطيب 'انتخبوا الياس الهراوي رئيساً للجمهورية، ومن ثم إميل لحود، وكان الرجلان مجرد دميتين بيد كنعان الذي كان ينفذ القرار السوري بإبقاء لبنان مجرد أشلاء'. يقول: 'رجل واحد أزعجهم هو الرئيس الشهيد رفيق الحريري لأنه كان صاحب مشروع إعادة بناء لبنان وترميم سيادته وتحرير أرضه سلماً لا حرباً، لأنه كان يعلم أن موازين القوى ليست لصالح لبنان، ولم يكن يريد أن يُقتل شباب الوطن على مذبح شهوات السلطة'. لم يستطع النظام السوري أن يستوعب الحريري، 'ما قدروا يحملوه' على حد تعبير الخطيب فـ'اغتالوه'، علماً أنه 'كان ينفذ له طلباته، لكنه لم يكن موضع ثقة على أساس أنه لا يمشي في الصف كما الآخرين'. حرصت المخابرات السورية على إبعاد الرئيس الشهيد عن الخطيب، لحساب زرع أزلامها ممن تثق أنهم لا يحيدون عن الصف بالقرب من الحريري كـ'مخبرين'، كما كانت الحال مع الوزير والنائب السابق عبد الرحيم مراد، ونائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي. لم يكن الرئيس الحريري غافلاً عما يجري حوله، لكن كان لا بد من مهادنة الواقع والعمل على تغييره. فما يورده الخطيب في السطور الاتية، يوضح كيف أن الرئيس الشهيد كان يخوض معاركه ضد السوريين بـ'صمت'، وكيف كان يكسر إرادتهم من دون أن يصطدم معهم مباشرة. يقول: 'استعادني الرئيس الحريري في العام 2000، لا سيما قبل الإنتخابات النيابية، وفي عز حملة ضارية من قبل المخابرات السورية ضدي. حينها زارني النائب الحالي روبير غانم وقال لي بالحرف: 'روح دبر حالك. الجو السوري مش معك'. اتصلت بالرئيس الشهيد، وسألته 'عما إذا كان يرضى بأن أسقط في الانتخابات وبأن ينجح مرشح الحزب الشيوعي فاروق دحروج، ويحل مكاني'. فرد الحريري بالقول: 'لا أبداً، ما تعتل هم، أنا رح أعمل اللازم'. ثم أبلغني برغبته في أن يزورني في جب جنين على مأدبة غداء أجمع عليها من أريد من أصدقاء، وقال لي بالحرف: 'وجه الدعوة لمن تشاء. أنا يا سامي ما عندي عقد'. لكن، والكلام للخطيب، ما إن وصلت أنباء الغداء إلى السوريين، عملوا مع مراد والفرزلي على تعطيله، إذ هددوا الرئيس الحريري بأن ذهابه إلى جب جنين لزيارتي سيتم على وقع خلاف سياسي بين الخطيب وخصومه، وإذا ما تمت الزيارة فسيكون هناك دماء'. ويضيف: 'أتعلم ماذا يعني أن تهدد الرئيس الحريري بالدماء، وهو الذي لم تلمع أي نقطة دماء على يده'. تهديد الحريري بالدماء جعله يغض الطرف عن الزيارة، لكنه أبقى على دعمه 'من تحت الطاولة' للخطيب، ففاز الأخير في الإنتخابات، غصباً عن إرادة السوريين الذين هنأوه!.
ـ 'الشرق الأوسط'
النص القرآني والاستشراق الجديد
رضوان السيد:
انتهى الاستشراق الكلاسيكي (ما بين نولدكه ورودي باريت) إلى أن النص القرآني الذي يتداوله المسلمون في المصحف العثماني هو ما تركه النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأجمع عليه المسلمون منذ عهد عثمان بن عفان. ويحفل هذا النص بإشكاليات نحوية وصرفية ومضمونية وتركيبية، إنما لا مرجع لفهم هذا النص وإشكالياته إلا ميراث المسلمين التفسيري في القرون الثلاثة الأولى للإسلام. وجاء الاستشراق الجديد منذ السبعينات من القرن العشرين المنقضي، معيدا النظر وبشكل راديكالي في كل نتائج الاستشراق الكلاسيكي، سواء بالنسبة للقرآن، أو بالنسبة لتاريخ الإسلام الأول (القرن الهجري الأول). وقد مر هذا الاستشراق بموجتين؛ الموجة الأولى بين السبعينات والتسعينات، والموجة الثانية منذ النصف الثاني من التسعينات وحتى اليوم.
في الموجة الأولى رفض المراجعون الجدد كل النتائج البحثية السابقة، وذهبوا (من مثل وانسبورو وكرون وكوك وتلامذتهم) إلى أن القرآن ليس نصا قائما بذاته، أو أن ما بين أيدي المسلمين منه إنما هو أمشاج مما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأمويون، وأنه ما صار نصا قانونيا إلا في القرن الثالث الهجري! ولأنه ليس نصا، بل هو تركيب من عناصر متباينة أو مختلفة، فلا يمكن القيام ببحوث في المورفولوجيا كما هو الشأن مع النصوص الصافية. وقد تعرض هذا التصور الراديكالي لنقد قاس من جانب تلامذة الكلاسيكيين، ومن جانب أهل الألسنيات. بيد أن الغلبة ظلت لتلامذة المراجعين هؤلاء، وبخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة. وما اقتصر الأمر بالطبع على القرآن، بل تناول النصوص التاريخية، ومصادر الحديث؛ إذ صار هؤلاء النوابت ينطلقون من التصور نفسه في كل شيء: إن هذه الصورة أو الصور التي يعرضها القرآن أو تاريخ الطبري أو صحيح البخاري، إنما هي صور مركبة ومشذبة بحيث تتوافق وعقيدة أهل السنة التي كانت في مراحلها التكوينية. وقد بلغ من سطوة هذه الطريقة أن أحدا لم يسأل كيف يمكن في الجو الانقسامي ذاك (وهو عنوان كتاب لوانسبورو) أن يجري التوافق أو الإجماع على النص القرآني أخيرا بحيث يصبح نصا قانونيا يأتم به المسلمون جميعا. فحتى الباطنية أرغمهم تجذر النص على محاولة التفلت منه ليس من طريق الإنكار أو التعديل، بل من طريق الذهاب إلى أن للنص باطنا هو خلاف ظاهره تماما! على أن هذا الجموح المسيطر ما لبث أن تزعزع بعد فترة قصيرة، ليس بسبب النقد المحق؛ بل لأنه صار من المستحيل فهم القرآن أو حتى فهم تاريخ الطبري. بل صار الممكن والمتبع قراءة الطبقات والتحريفات وعناصر هذا التركيب أو ذاك؛ وكل ذلك يستند إلى فرضيات يقوم بها شاب في أطروحته للدكتوراه، فينقضها دارس آخر في أطروحة أخرى لا تقل عنها ضعفا وتهافتا. وقد تدخل في النقاش للموجة الأولى هذه بعض المسلمين العائشين في الغرب، والذين يعملون في الدراسات اللغوية أو الإسلامية، فأوضحوا لزملائهم أن هذه الراديكالية - إن لم تكن تآمرا - هي عبث لا تصح متابعته تحت ستار العلم النقدي، أو تبريره بأن هذا المنهج هو الذي اتبع في نقد النصوص المقدسة لدى اليهود والمسيحيين! إن هذه الموجة الراديكالية ما كان لها أثر في الواقع غير تخريب الدراسات القرآنية والإسلامية التي كان المستشرقون الكلاسيكيون قد أرسوا قواعدها بهذا القدر أو ذاك، وأفاد منها تلامذتهم من المسلمين في شتى الحقول. وكما سبق القول؛ فإن العبثية الظاهرة دفعت باتجاه ظهور أو تبلور الموجة الثانية، وهي لا تقل سوءا وعبثا. والموجة الجديدة تسلم من جديد وعلى نحو ما بأن هناك نصا قرآنيا كان قائما ويقرأه المسلمون عند وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. لكن هذا النص هو نتاج التراث المسيحي السرياني، أو أنه نتاج الأزمنة الكلاسيكية المتأخرة (ما بين القرنين الخامس والسابع للميلاد). وهناك عنصر آخر في هذا التصور وهو أن كاتب النص أو &laqascii117o;مترجمه" واحد، ثم تختلف الأخلاد والأقلام فيما عدا ذلك.
فالقائلون بالأصول السريانية للنص ينقسمون إلى قائل بالترجمة عن السريانية، والتي دخلت عليها تعديلات من أجل الملاءمة أيام النبي أو أيام خلفائه - أو أن الصياغة للنبي صلى الله عليه وسلم لكن عناصر الرؤية والموثيقات والموضوعات كلها متأثرة بالتراث السرياني الذي كان معروفا من طريق المسيحيين السريان والكلدانيين بالحجاز والشام والعراق. وما خلا الأمر من قائل أو قائلين بالأصول اليهودية في بعض أقسام القرآن، كما سبق أن حصل في عهد الاستشراق الكلاسيكي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتبرز لهذه الناحية أعمال رجلين غريبين من رجالات الاستشراق: ليلنغ من ألمانيا، ولوكسنبرغ (وهو اسم مستعار) من لبنان. وليلنغ الذي بدأ يكتب في الستينات، إنما لم تصل آراؤه للضوء إلا في التسعينات، يعتمد على جمع كل ما يعتبره مشابها لآية أو &laqascii117o;سورة قرآنية" في موروث الجزيرة وبلاد الشام قبل الإسلام، ومن &laqascii117o;إنجيل الأبيونيين" إلى أشعار امرئ القيس وأمية بن أبي الصلت. أما لوكسنبرغ فيورد مئات المفردات في القرآن، والتي يعيدها إلى أصول سريانية، وهو يعتبر أنها حرفت أو جرت ملاءمتها مع أساليب العرب في البيان. ومن ذلك قوله: إن &laqascii117o;الحور العين" في القرآن، جرى تحريف طرائق كتابتها ولفظها وتفسيرها بحيث أعطيت المعنى المتعارف عليه في أذهان المسلمين، أما معناها بالسريانية فهو عناقيد العنب الشقراء! ولا يزال دارسون كثيرون يعتبرون أن محاولة لوكسنبرغ على غرابتها جادة، وتستحق المناقشة والاعتبار. في حين يرى دارسون عريقون أن الفيلولوجيا مضللة، وبخاصة إن كان القائم على البحث يتقبل الأمر بصورة مسبقة. ثم إن الفيلولوجيا لا تفيد شيئا من دون التاريخ الذي يتجاهله معظم القائلين بهذه النزعة.
أما السبيل الآخر في هذه النزعة أو الموجة فهو الذهاب إلى أن القرآن إنما هو نتاج الأزمنة الكلاسيكية المتأخرة (من الخامس إلى السابع للميلاد). وهذا النتاج منه ما هو معنى أو مبنى أو مفرد أو جملة، وعلى الدارس أن يتتبع تلك العناصر كلها، فيحاول أن يوضح كيفيات إعادة الصياغة أو التحويل إلى نص من خلال شخص أو جماعة. وقد اعتقد دارسون كثيرون أن في هذا المدخل خروجا من عشوائيات الرؤية السريانية أو حرفياتها، فضلا على أنه يحفظ وحدة النص، لأن المتأثر بالكلاسيكيات قد يكون هو كاتب النص. فالبحث إذن ينصب على ثقافة الكاتب في بيئات القرن السابع الميلادي. وكنت أحسب أن مدرسة الأصول أو التأصيل هذه ثبت فشلها ولذلك ما عادت هناك حاجة أو فائدة من العودة إليها، بأي سبب أو مسوغ. ثم وجدت أن دارسة القرآنيات البارزة أنجليكا نويفرت قد دخلت في ذلك في أعمال عدة آخرها كتاب لها بالإنجليزية والألمانية هو &laqascii117o;القرآن والكلاسيكيات المتأخرة (2011)"، أما تلامذتها فلا يزالون منقسمين بين الكلاسيكيات والسريانيات.
إن الذي أراه أن القائلين بالأصول السريانية، هم في الغالب من ذوي الثقافة المسيحية الشرقية أو الدارسين للغات السامية. وهؤلاء يجدون سهولة في رد كل شيء في القرآن إلى هذا الموروث النصراني أو ذاك. حتى إذا وجدوا مفردة أو تعبيرا يتعذر الحصول على أصله السرياني المباشر، ذهبوا إلى أنه يهودي أو عبراني الأصل في الغالب! وهكذا فرغم الدعوى العلمية العريضة؛ فإنهم يعودون إلى مقولات ظهرت في مطالع القرن العشرين، وهي تقول بالأصول المسيحية أو اليهودية في القرآن - وتلك المقولات ذات منزع تبشيري بدليل أنها ما تلبث أن تعود لاعتبار القرآن نسخة أو طبعة أو ترجمة من الميراث المسيحي العربي في الجزيرة. ويلعب ورقة بن نوفل أو غيره دورا في هذه الرؤية وهذا التصور.
أما دعاة الرؤية الكلاسيكية المتأخرة؛ فإنهم في الغالب من دارسي الكلاسيكيات بهذا القدر أو ذاك. ومستند هؤلاء في توجههم ما شوهد من إقبال العرب والمسلمين على الهيللينيات واليونانيات منذ ما بين القرنين الثاني والخامس للهجرة. ويساعد على هذا التصور اختلاط العناصر الكلاسيكية وتأويلاتها بعناصر مسيحية أو ممسحة بهذا القدر أو ذاك. وقد غبر الباحثون زمنا اعتبروا فيه الإسلام نتاج العقلية السامية، ثم ما لبثوا أن توصلوا إلى أن هناك تلاقحا بين شتى العناصر، وليس للإسلام طابع معين يحول دون المواريث الأخرى! وكل هذه الأمور محاذير لا يسلم أي منها. كما لا تمكن متابعته بطرائق منطقية. وبقدر ما يغرم دارسو حقبة معينة بهذا التصور أو ذاك؛ فإن الزمن الآخر يأتي برؤية جديدة. ولا تعليل لذلك كله غير الهوى والزمان. وقد قال أحد الدارسين مرة: إن المشكلة مع القرآن أنه فريد وغريب في البيئة التي ظهر فيها وفي سائر البيئات؛ ولذلك تأتي هذه الاستمامة لنسبته إلى ثقافة معينة أو تقليد معين!