- 'السفير'
بعد عام على ربيع السعودية: مملكة تلد نقيضها
فؤاد ابراهيم (باحث في الفكر السياسي من السعودية):
ليست هي المملكة التي تعرفونها، المحافظة، المواربة، الهادئة.. كل شيء فيها يتغيّر وبوتائر متسارعة وغير مسبوقة. يشعر المراقب لما يجري في السعودية بأن ثمة تسافلاً سريعاً لمقام الدولة، وأن سلوك الأجهزة الأمنية والإعلامية والدينية في شكله الموتور إزاء حركة الاحتجاجات، يخبر عن تحوّل عميق في الوعي الشعبي وهو ما يقرر طبيعة ميزان القوى، فقد بدا السلوك الرسمي، وكأن السلطات السعودية باتت جزءاً من لعبة صغيرة، فلم تعد تتصرّف وفق منطق الدولة، وبات اللعب في عراء السياسة وليس في كواليسها، بل تحوّل رجال السلطة في لحظة (انفلات غرائزي) الى مجرد عصابة (فقد هدّد أمير المنطقة الشرقية محمد بن فهد زوّاره الشيعة ذات لقاء بأن أبناءكم المنتشرين في أرجاء المملكة مرصودون ويمكن اقتناصهم) إشارة الى القتل في عمليات طائفية. في قراءة ما تحت سطح الوقائع الجارية، لا بد من التفريق بين نوعين من الهيبة التي تحيط بالدولة، وتوفّر لها سياج حماية إزاء الثورات الشعبية والتمرّدات العسكرية وهما: الهيبة المعنوية والاعتبارية والهيبة الأمنية. وفق تحكيم إجمالي، فإن كثيراً من الحكومات العربية فقدت شخصيتها المعنوية والاعتبارية والاخلاقية، وإن ما يجعل بقاءها ممكناً حتى وقت قريب هو قدرتها القمعية، حيث لا تزال كفاءة الأجهزة الأمنية والعسكرية تحول دون اختراق الخطوط الحمراء التي وضعها بعض الحكومات، مثل التظاهرات الشعبية بأعداد ضخمة، أو الانتقاد العلني لذوات النظام (الذات الملكية والذات الأميرية..الخ)، أو انتهاك القوانين الأساسية التي تعيق عمل الدوائر الرسمية، وتحطيم بعض المؤسسات العمومية المرتبطة بالنظام، أو حتى حرق صور الأمراء بما ترمز إليه في الثقافة الشعبية من رمزية اعتبارية أو أداة ضبط سياسية. في الحالة السعودية، تتهاوى الهيبة المعنوية والأخلاقية للنظام الحاكم كما يظهر من التجاذب المفتوح بين النظام والقوى السياسية والاجتماعية. لدى غالبية سكّان المملكة قناعة راسخة بأن العائلة المالكة فاسدة مالياً وأخلاقياً، وغير جديرة بأن تحظى بالتقدير، ولكن ثمة ما هو أبعد من ذلك حصل أيضاً. اليوم، تمرّ الهيبة الأمنية للنظام باختبار حاسم، بعد أن عقمت (ثقافة الخوف) عن أن تلد جيلاً من المذعورين، رغم أن الامبراطورية الاعلامية السعودية تحوّلت الى ما يشبه جهازا أمنيا وأداة تخويف محض، كما تنبئ عن ذلك مقالات الكتّاب والصحافيين والتقارير التلفزيونية. المثال الأكثر جنوحاً في الآونة الأخيرة هو مقالة الكاتب علي الجحلي في صحيفة (الاقتصادية) بعنوان (مسؤوليات مواطني العوامية) بتاريخ 21 شباط (فبراير) الفائت، والذي حمل رسالة أمنية عارية لسكّان بلدة العوامية، الرائدة في الحركة الاحتجاجية في منطقة القطيف، بما نصّه &laqascii117o;إن ترك مواطنو العوامية هؤلاء الغوغائيين ليفعلوا ما يشاؤون، فهم هالكون جميعًا"! من المفارقات المقرفة أن صحيفة تعنى بشؤون الاقتصاد، ومستقبل التنمية الاقتصادية في هذا البلد يكرّس محرّروها مقالاتهم لإيصال رسائل الموت الى المحتجّين بصورة سلمية. رئيس تحرير الصحيفة سلمان الدوسري في مقالة بعنوان (القطيف وخطباء التزييف) في 22 شباط الفائت يقول بالحرف &laqascii117o;الحقيقة التي حاول أولئك الخطباء تزييفها، أنه لم تطلق رصاصة واحدة تجاه مَن خرجوا في تظاهراتهم، فهذه التظاهرات تتعاطى معها الدولة وفق آلية محددة معروفة مسبقاً"، فثار السؤال الغاضب: إذاً كيف قضى سبعة شباب نحبهم، وآثار الدماء والرصاص تغطي أجسادهم، الى جانب عشرات المصابين برصاص الأمن السعودي؟ الاعلام، كما الدولة، يعمل أحياناً على النقيض من رسالته، فلم يعد كشف الحقيقة وظيفة له، بل عكسها تماماً.. ويبقى للشعب حقيقة، بل حقائق أخرى جليلة.
أنا الشهيد التالي
موجة من البرامج المصوّرة النقدية التي لا تزال توضع على شبكة &laqascii117o;اليوتيوب" يعدّها ويقدّمها شباب عجز الاعلام الرسمي عن استيعاب رسائلهم، فراحوا يمارسون حرية التعبير على طريقتهم بنقد سياسات الدولة، والفقر، والبطالة مثل برنامج (ملعوب علينا) الذي جرى اعتقال الطاقم المشرف عليه بأكمله، بعد إنتاجه برنامجاً عن الفقر في السعودية، وبرامج شبابية أخرى خطفت النجومية في العام 2011، بحسب صحيفة (الرياض) في مطلع العام الجديد 2012، كونها عبّرت عن مطالب الشباب وشكّلت &laqascii117o;مساحة واسعة للتعبير عن جيلهم وتسجيل موقفهم الاجتماعي من الأحداث.." بحسب الصحيفة. في ذروة المشهد الشبابي في المملكة، تأتي ظاهرة &laqascii117o;الشهيد التالي" في تظاهرات القطيف، بكثافة حضورها الشعبي واكتظاظها الدلالي، ما تستوجب وقفة تأمل طويلة، فلأول مرة تصبح (الشهادة) قضية تخضع للمنافسة بين شباب يكتبون أسماءهم في قائمة الشهداء على صفحات (فيسبوك). على سبيل المثال، فقد كتب الشهيد الشاب زهير السعيد (من بلدة العوامية) جملة: &laqascii117o;يا رب متى ألتحق بشهداء القطيف" وقد تحققت أمنيته، وكتب الشهيد عصام أبو عبد الله في 6 كانون الثاني: &laqascii117o;متى ستضجُّ القطيف بخبر استشهادي، اللهم اجعل هذا اليوم قريباً"، وتحقق ذلك في 12 كانون الثاني الماضي. كلمة والد الشهيد عصام في وداع ابنه كانت هي الأخرى معبّرة، فلأول مرة في تاريخ هذه المنطقة يعاهد والد ابنه بالسير على خطاه، ومواصلة مسيرته حتى الموت. عشرات من الشباب كتبوا عبارة (أنا الشهيد التالي) على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يكشف عن ثقافة تضحوية عميقة برزت للسطح في لحظة تاريخية حاسمة. في الميدان، رفع عشرات الآلاف من الشباب في تظاهرات قرى وبلدات القطيف شعار &laqascii117o;أنا الشهيد التالي بالقمع لا أبالي"، والسؤال المشروع هو: ما الذي يدفع هؤلاء الشباب للتخطيط لجهة وضع نهاية لحياتهم بدلاً من التفكير في الحياة والتخطيط للمستقبل، ما لم يكن قد بلغ الإحباط حد كشف الصدور أمام رصاص القوات الأمنية السعودية، وأن يكون التسابق بين الشباب على الموت عنواناً لمسيراتهم فذاك جدير بالتأمل طويلاً. لأول مرة تصبح كلمة النظام، كما رصاصاته القاتلة، غير حاسمة ولا فاصلة. فالتهديد بـ&laqascii117o;الضرب بيد من حديد" لا يلبث أن يتحوّل الى وقود غضب شعبي آخر، حيث إن وراء كل تهديد أمني حضور كثيف في الساحات. وكذا الحال في السياسة، فقد تصدر الداخلية بياناً إزاء حدث ما ويتم رفضه والرد عليه من قبل قوى سياسية واجتماعية، بل ما يلفت ان الرد يأتي فورياً، فلا يمرّ عليه الناس بصمت أو تجاهل، ففي رد على قائمة الـ23 المطلوبين في منطقة القطيف على خلفية الاحتجات السلمية المتواصلة والتي أصدرتها الداخلية في 3 كانون الثاني الماضي، ظهر عدد من المطلوبين في تحقيقات مصوّرة انتشرت على (يوتيوب) تشـرح أوضاعهم المعيشية وتختتم بنفي اتهامات الداخلية والإصرار على مواصلة الاحتجاجات حتى تحقيق المطالب العادلة.. إنه مشهد مع كثافة البـعد الإنساني الدرامي الثاوي فيه، إلا أنه يشي بتحوّل جوهري في الوعي وفي العلاقة بين الدولة والمجتمع.
&laqascii117o;إفلاس سياسي"
لم تتوقف سلسلة الردود على بيانات الداخلية، وآخرها ما أعقب بيان الداخلية حول خطبة الجمعة للشيخ حسن الصفار، من علماء الشيعة البارزين في القطيف، والتي استنكر فيها استخدام قوات الأمن الرصاص الحي ضد المتظاهرين وتساءل: &laqascii117o;الحكومة التي تستنكر سفك الدماء في بلدان اخرى كيف تسمح للقوى الامنية أن تشرع في إطلاق النار على الناس العزل"؟". وفي رد فعل على بيان الداخلية، أصدر ما يربو عن 40 عالم دين في الإحساء، ذات الغالبية الشيعية، بياناً في 22 شباط الجاري عبّروا فيه عن رفض استخدام (لغة الرصاص) ضد المسيرات السلمية في القطيف، وطالبوا بفتح تحقيق مستقل وجاد عن حالات القتل والإصابات والعنف الذي تعرض له المواطنون في القطيف، &laqascii117o;وتعويض أهالي الشهداء والجرحى"، كما طالبوا بإزالة نقاط التفتيش، والافراج عن السجناء السياسيين. وفي اليوم التالي صدر بيان تضامن مع الشيخ الصفار من مجموعة رجال دين شيعة ونفي ما ورد في بيان الداخلية من اتهامات.. أحد رجال الدين وصف في بيان علني ما تقوم به الحكومة السعودية بأنه &laqascii117o;إفلاس سياسي". وبصورة عامة، كان رد فعل الشارع القطيفي غاضباً حيال تهديد وزارة الداخلية بالتعامل بحزم مع الاحتجاجات، حيث خرجت مسيرات في 22 شباط في مدن سيهات وصفوى والقطيف المدينة ورفعت شعارات مثل: &laqascii117o;نحن أبناء القطيف.. بيانكم لا يخيف". اللافت أن رجال الدين الشيعة المقرّبين من النظام نأوا بأنفسهم عنه، بعد أن اكتشفوا أن صحافته تحاول استخدامهم في معركته ضد حركة الاحتجاجات في المنطقة الشرقية. ليس المشهد الاحتجاجي قطيفياً أو بالأحرى شيعياً على أي حال، رغم محاولات النظام السعودي لجهة جعله كذلك، حتى يحقق خطاب (التجييش الطائفي) مفعوله المأمول، والواقع أن ظاهرة الاعتراض السياسي شعبية وعابرة للمناطق والطوائف، وتمثل مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك) المجسّات الحقيقية لعمق ومساحة التحوّل في وعي شعب المملكة السعودية. مثال عابر: ذكر رئيس جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية وعضو هيئة حقوق الإنسان في السعودية، وهي هيئة شبه رسمية، محمد فهد القحطاني في برنامج تلفزيوني على قناة الحرة في 2 أيلول من العام الماضي بأن هناك 30 ألف معتقل سياسي في السعودية. ومن المؤكّد أن الغالبية الساحقة من هؤلاء المعتقلين هم من المناطق الأخرى، أو بالأحرى من غير الشيعة. أما المشاهد الاحتجاجية فهي شبه يومية وجمّة، وأبرزها مداخلة زهير الكتبي، الكاتب والناشط السياسي الحجازي، في برنامج &laqascii117o;البيان التالي" على قناة &laqascii117o;دليل" الفضائية في 17 شباط حول الفقر في السعودية، ونزعه الألقاب عن كبار الأمراء وتحميلهم مسؤولية تفـشي ظاهرة الفقر، وتحذيره من ثورة شعبية، فقد كانت المداخلة علامة فارقة في الحراك الشعبي الداخلي. رد فعل النظام السعودي المعروف سلفاً حسب الكتبي نفسه على صفحته في تويتر هو التالي: أبلغني وكيل وزارة الاعلام السعودية بصدور تعليمات تقضي بمنعي من الكتابة. ثم ذكر في تغريدة له في 21 شباط &laqascii117o;ادعوا لي لان القوم يأتمرون ضدي وخاصة أني حجازي ليس لدي من يقف معي فادعوا لي بإخلاص وصدق فالدعاء هو ما نملك والله فوق كل جبار عنيد..". على مدى عام جرى اعتقال عدد من الكتّاب على خلفية التفاعل مع الربيع العربي، فقد تساءل خالد الماجد، أستاذ الفقه في جامعة الإمام بالرياض في 22 شباط من العام الماضي 2011 &laqascii117o;ماذا لو قال السعوديون: الشعب يريد إسقاط النظام؟"، فاعتقل في اليوم التالي، وجاء من بعده عشرات يكتبون مقالات نقدية وينشرونها في الصحف العربية خارج الحدود أو على الشبكة أو يتداولونها في مواقع التواصل الاجتماعي، وبنفس الزخم الاحتجاجي وسقف المطالب الشعبية.. باختصار: لم يعد فصل الخطاب بيد الدولة، فالمجتمع قد انتزع حق الرد، ويقاسمها القوة، ففي مقابل بيان هناك رد، ووراء كل قمع هناك غضب وإصرار على المواصلة.. وهذا بكلمة أخرى: انكسار النظام.
في الداخل كان ثمة ما يلفت الى الجنوح الطائفي. ففي قلب عاصمة المملكة السعودية، الرياض، وفي مركز سعود البابطين للتراث والثقافة، تعقد ندوة علمية لمدة ثلاثة أيام (16ـ 18 شباط 2012) بعنوان &laqascii117o;حقيقة المعتقد الرافضي وخطره على المجتمعات السنيّة"، تنبئ محاورها عن طبيعتها وأهدافها &laqascii117o;الاصل اليهودي والأصل المجوسي للتشيع ومخاطر المشروع الشيعي ووسائل وأدوات التصدي له نموذجاً". خلف العاصفة الطائفية يكمن قلق شديد لدى العائلة المالكة من أن خطراً وجودياً يحدق بالكيان بفعل تنامي موجة الربيع العربي وارتطامها بقصور الأمراء. إنها مملكة أخرى تتغير فيها أشياء كثيرة..وقد تفقد في لحظة ما هويتها وهواءها.
- 'الاخبار'
الثورات العربية تعرّي نفاق رجال الدين: القرضاوي نموذجاً
محمد ديبو:
تثير تصرفات رجال الدين وتصريحاتهم على خلفية الثورات المندلعة في العالم العربي السخرية المرة؛ إذ في الوقت الذي يقدمون فيه أنفسهم كرجال دين مسؤولين أمام الله، فإنّ أول ما يفعلونه هو تشويه وجه الله، عبر زجه في أتون السياسة التي تجيّر الدين لمصلحة أنظمة مستبدة. وإن كان يبدو مفهوماً أن يتخذ رجل دين موقفاً مع الاستبداد أو ضده، فإنّ ما هو غير مفهوم وهزلي فعلاً، أن يكون موقف رجل الدين ضد الاستبداد ومعه في آن واحد، عبر دعم الاستبداد في مكان والتحريض عليه في مكان آخر، في ازدواج فاضح بين تحليل ثورة و تحريم أخرى، وفق مصالح الحكام الذين يعملون عندهم، وهو ما يوصلنا في المحصلة النهائية إلى رجال دين لا علاقة لهم بالدين من قريب أو بعيد؛ إذ يغدو الدين مجرد ورقة قابلة للتوظيف وفق الحاجة. ولعل أهم ما فعلته الثورات العربية أنّها عرّت السلطات الدينية، وكشفت وظيفتها السابقة (ولا تزال) في تثبيت أركان الاستبداد، عبر تجيير الدين لخداع المؤمنين البسطاء الذين يمثّل الدين رأسمالهم الرمزي الوحيد لمواجهة الطغاة، فيستغله أولئك لتوجيه حربته إليهم مجدداً؛ إذ بدت المواقف المتذبذبة تبعاً لساحة الصراع، فضائحية وأكبر من أن يتحملها أي دين ينطق هؤلاء باسمه. لعل المثال الصارخ على هذا النموذج، هو الشيخ القرضاوي الذي أيّد وحرّض وأدى دوراً بارزاً في تجييش المشاعر الدينية ضد أنظمة الاستبداد في كلّ من تونس ومصر وليبيا وسوريا، إلى درجة أنّه أباح قتل الرئيس الليبي معمر القذافي الذي كان يصفه سابقاً بأنّه &laqascii117o;سيف الله على الأرض"، وفق قول رئيس هيئة إفتاء أهل السنة والجماعة في العراق الشيخ أحمد الصميدعي. وإن كان وقوف القرضاوي إلى جانب الثورات ضد الاستبداد، هو فعل حق وواجب، فإنّ هذا الموقف سينقلب بشكل معاكس حين نرى موقفه من ثورة البحرين، لتغدو مجرد &laqascii117o;ثورة طائفية". فما كان محللاً في سوريا واليمن وتونس ومصر، أضحى محرماً في البحرين: &laqascii117o;ما يحدث في البحرين ثورة طائفية، أما باقي الثورات الأربع فكلّها ثورة شعب ضد حاكمه الظالم". ولا يكتفي القرضاوي بذلك، بل يصل إلى حد توجيه تهم للمتظاهرين البحرينيين الشرفاء، تشبه تلك التهم التي توجهها السلطات لخصومها في سوريا واليمن ومصر وتونس؛ إذ قال: &laqascii117o;لم يكونوا سلميين... بل اعتدوا على كثير من أهل السنّة واستولوا على مساجد ليست لهم، واستعملوا الأسلحة كما يفعل البلطجيون في اليمن وفي مصر وغيرها ضد كثير من المستضعفين من أهل السنّة". هكذا أصبح متظاهرو البحرين مثل بلطجية مصر وشبيحة سوريا! كل ذلك فضلاً عن اللغة الطائفية التي تنضح من كلامه؛ ففي سوريا تتهم الثورة بالطائفية السنيّة، وفي البحرين يتهم القرضاوي الثورة بالطائفية الشيعية، هل من فرق؟ وفي تناقض فاضح لأقوال الشيخ القرضاوي، وانغماسه الهائل في السياسة، نراه يصل إلى حدّ ترويج الحلول؛ ففي البحرين يجب أن يتجه الناس نحو الحوار، داعياً &laqascii117o;العقلاء من الشيعة والعقلاء من أهل السنّة" إلى القيام بذلك، ومشيداً بدعوة ولي العهد البحريني، الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، للحوار. أما في سوريا ومصر وتونس فلا بد من إطاحة النظام، مع قتل رأسه في ليبيا! وهو موقف سيعكس رأي كلّ رجال الدين والأحزاب الدينية؛ إذ سنجدها تشجع رحيل الأنظمة المعارضة لها. لكن حين تصل الثورة إلى الأنظمة التي تؤيدها وتدعمها، ستخبئ مراوغتها تحت حجة دعم الإصلاح، واعتبار تلك السلطات جادة في الإصلاح على خلاف تلك؛ إذ تتخذ تلك النظم أو الأحزاب أو الشخصيات الدينية موقفاً مناهضاً من الثورة، كموقف النظام الإيراني المؤيد لثورة مصر وتونس، ولكنّه رافض لثورة سوريا، أو موقفاً وسطياً بأفضل الأحوال، كموقف حزب الله من النظام السوري، وموقف رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي خاطب ثوار سوريا قائلاً: &laqascii117o;الثوار في سوريا الحبيبة، كونوا على يقين بأني مؤمن كل الإيمان بقضيتكم"، مؤكداً أنّ ثمة فارقاً بين ما يحدث في سوريا و&laqascii117o;الثورات العظيمة في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن". وفي دلالة كبرى، على الاستخدام المزدوج للدين عند القرضاوي، نجده يتعامى عن أكبر استبداد موجود في المنطقة الخليجية وفي السعودية وقطر (حيث يقيم) على وجه التحديد؛ إذ لا يكتفي بالصمت، بل يحرّم التظاهر مندداً برفع الشعارات السياسية في الحج، فيتهم قائلاً إنّ &laqascii117o;من يقوم بذلك يحدث فتنة في الحج الإسلامي، وفي المجتمع الإسلامي، ويحدث نوعاً من أنواع الإلحاد في الحرم". لكن بالمقابل، يحيي التظاهرات في اليمن وتونس وسوريا، وإن خرجت من الجوامع، فما هو محرم في السعودية محلل في سوريا ومصر وتونس وليبيا! وبالروحية نفسها التي تحدث فيها القرضاوي، سيتحدث رجال دين آخرون، ليغدو كل رجل دين يتحدث باسم حاكمه. هكذا سنجد الشيخ البوطي الذي يحيا منذ عقود في حديقة النظام السوري (كما يحيا القرضاوي في حديقة آل ثاني)، يقف ضد ثورة سوريا، متهماً المتظاهرين بأنّ أغلبهم &laqascii117o;لا يعرف جبينه السجود أبداً"، وبأنّهم متآمرون. فقد قال: &laqascii117o;يوم الجمعة الفائت وقبل أن ننهي الصلاة كان الجو داخل المسجد طبيعيّاً، ولما خرجت من المسجد ولاح أمامي صحن المسجد الخارجي، وإذا بي أمام أناس كانوا موجودين في باحة المسجد لكن لم يصلوا، وكان ينتظرون الساعة التي ينفذون بها الأوامر (؟!)، ليست وجوههم وجوه مصلين، وليست تصرفاتهم تصرفات ناس يتعاملون مع المساجد، هذه ظاهرة رأيتها". هكذا بنظر البوطي أصبح متظاهرو سوريا، ينتظرون الأوامر، وتصرفاتهم ليست تصرفات &laqascii117o;أهل مساجد"، في الوقت الذي تصر فيه أبواق السلطة على أنّهم سلفيون وإخوان ويخرجون من الجوامع، ما يعني أنّهم &laqascii117o;أصحاب جوامع"! وهكذا سنجد أيضاً أنّ مفتي الجمهورية السورية، أحمد بدر الدين حسون (الذي كنت شخصياً أعوّل عليه لتمثيل الإسلام الوسطي في سوريا، والذي يرفض استخدام الدين في السياسة، وقال مرة داخل قاعة البرلمان الأوروبي إنّ الإسلام علماني، في ما يمكن اعتباره ثورة من رجل دين مسلم) يهدد فجأة بإرسال انتحاريين واستشهاديين إلى أوروبا؛ إذ قال: &laqascii117o;إنّني أقولها لأوروبا والولايات المتحدة: سنعد استشهاديين هم الآن عندكم إن قصفتم سوريا أو قصفتم لبنان"، ليصبح المحرم سابقاً محللاً الآن، ليخلط الدين بالسياسة في أسوأ استخدام يمكن أن يحصل، وليضيّع الرجل كل تراثه الذي بناه والذي كنا نعوّل عليه، لإحداث ثورة داخل الإسلام الكهنوتي، ثورة قد تقود إلى علمنة الإسلام مستقبلاً. وكذلك الأمر في السعودية، حيث يحكم أسوأ استبداد (لترافق الاستبداد السياسي والديني والعائلي والاجتماعي واضطهاد المرأة في خلطة عجيبة من أغرب أنواع الاستبداد وأعقدها)، ستصدر مجموعة من علماء السعودية بياناً يحمل اسم &laqascii117o;بيان علماء السعودية بشأن جرائم النظام السوري ضد شعبه"، من دون أن نسمع لهم كلمة واحدة بشأن جرائم نظامهم ضد شعبه، أو جرائم درع الجزيرة في البحرين. وفي ازدواج فاضح لهؤلاء العلماء سنجد أنّ رئيس هيئة كبار العلماء (أي رئيسهم) عبد العزيز آل الشيخ، يتهم المتظاهرين في القطيف بـ&laqascii117o;المفسدين وقتلة الأبرياء"، وقال: &laqascii117o;هؤلاء المارقون مثيرو الشغب ليسوا منا، وإنما فئة ضالة تتبع الخارج ويأتمرون بأوامر خارجية، وليس لهم علاقة بوطننا ولا بلادنا"، فضلاً عن اعتباره في خطبة له أنّ &laqascii117o;التظاهرات لا هدف لها حقيقياً ولا حقيقة لها، إنما هي أمور جيء بها لضرب الأمة في صميمها". أقوال رجال الدين السابقة، لا يمكن فهمها وتفسيرها، إلا من بوابة الولاء للحاكم ضد الرعية، لنجد أنفسنا أمام دين في خدمة الاستبداد، ولو كان ظاهرياً ضده. فمن يؤيد الاستبداد في مكان ويرفضه في مكان آخر، هو يخدم الاستبداد أينما كان؛ لأنّ مواقفه ليست نابعة من الدين، بقدر ما تجعل من الدين موظفاً في خدمة السياسة، إلى درجة العمل على زرع الفتنة الطائفية، وإثارتها. ورغم قول كل من هؤلاء الشيوخ ورجال الدين إنّه ضد الطائفية، إلا أنّ الطائفية تشح من تصريحاتهم اليومية. إلا أنّ الحق يقال بأنّ الطائفية ليست بالدرجة الأولى ما يحدد خيارتهم، بل مدى ولائهم للنظم التي ينطقون باسمها. ولأنّ مصلحة النظم فوق كل شيء، فلا مانع من تجييش الحس الطائفي خدمة لتلك النظم، ولو أدى الأمر إلى الوقوف على حافة حروب أهلية. لذا نجد القرضاوي ضد ثورة البحرين والسعودية، ومع ثورات مصر وتونس وليبيا وسوريا، ونجد علماء السعودية ضد ثورة البحرين ومصر، ولكن مع ثورة سوريا، ونجد سلطات الملالي في طهران ضد ثورة سوريا ومع ثورة البحرين ومصر. المواقف تنبع من نوازع طائفية في مكان، وسياسية في مكان آخر، حسب الحاجة. وعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم وقوف نظام الملالي في طهران إلى جانب ثورة البحرين بقوة، إلا من جانب طائفي بالدرجة الأولى وسياسي ثانياً، فيما يحكم موقفه من سوريا جانب سياسي بالدرجة الأولى ثم طائفي ثانياً، أو الاثنين معاً بدرجة واحدة. ويحكم موقفه من ثورات تونس ومصر وليبيا موقف سياسي فقط. وكذلك موقف حزب الله اللبناني وموقف حزب مقتدى الصدر العراقي، فيما يحكم موقف أحزاب الإخوان المسلمين على تعددها في الوطن العربي، الموقف الطائفي بالدرجة الأولى، إذ لا نجد كلمة واحدة لها بحق ثورة البحرين التي تواجه فعلياً نظم مجلس &laqascii117o;التهاون" الخليجي مجتمعة.
في المحصلة، نحن أمام دين مغرق في السياسة، يحلل ويحرم وفق ما تأمر الأجندة الطائفية أو قرارات القصر الجمهوري أو الملكي أوالأميري!