قضايا وآراء » قضايا وآراء من الصحف اللبنانية الصادرة الإثنين 23/4/2012

- 'السفير'
معجزات لبنانية
ساطع نور الدين:

ما زال لبنان يصنع المعجزة تلو الأخرى، وما زال يقدم مثالاً يتعارض مع تاريخه، ويتناقض مع جوهر وجوده: ما زال يحتفظ بسلمه الاهلي على الرغم من الزلازل المحيطة به التي سبق لأقل منها خطورة بل وأهمية ان زعزعت كيانه وقوضت دولته وفككت مجتمعه ودفعت شعبه الى القتال.المعجزة الكبرى لم تحصل صدفة. سبقها تحوّل جذري في مسيرة العالم العربي، وفي طبيعة دوله وأنظمته التي تشكلت في مرحلة ما بعد الاستعمار الأوروبي والإسرائيلي: نظام عربي كامل ينهار من الداخل وبضغط من قوى وعوامل محلية مؤثرة، بينما يحافظ لبنان على قدر نسبي لا بأس به من الاستقرار الداخلي، بما ينبئ بعودته الى سيرته الاصلية التي لم يكتب لها النجاح، باعتباره بلداً يحظى بوضع خاص نتيجة تركيبته السكانية الفريدة وضعف بنيانه السياسي والاجتماعي.
في الأدبيات السياسية العربية، ما يوحي بأن الفكرة الاولى عن لبنان كانت تختصر بالتسليم انه تركة أوروبية ذات مكوّن مسيحي وازن، يمكن أن تستخدم كحزام سياسي وثقافي او كممر الى الغرب. لكن هذه الفكرة لم تصمد طويلاً لدى أي من العرب الذين أغراهم لبنان وأغواهم اللبنانيون حتى صار البلد الصغير مستقراً لجميع الثورات العربية..عدا الثورة الديموقراطية الحالية التي كان يتوقع أن تلهب حماسة الجمهور اللبناني الى حد حمل السلاح والشروع بإطلاق النار.
ظاهرة استثنائية فعلاً أن ينعم لبنان بالهدوء والسكينة النسبية بينما محيطه العربي المباشر يغرق في فوضى التغيير وتحدياته. وان يبدو لبنان للمرة الاولى في تاريخه أشبه بجزيرة معزولة تلتزم حياداً سويسرياً وتقاوم النداءات الصادرة من الداخل والخارج من اجل الالتحاق بالركب وإحياء وظيفة الساحة المشرعة والحدود المفتوحة.. التي لم تنضبط منذ عقود طويلة كما هي منضبطة اليوم، برغم بعض الانتهاكات.
هذه المعجزة ليست وليدة الصدفة. هي نتيجة تراكم وعي عام بني على الحروب الاهلية الماضية وعواقبها الحاضرة، يكتشف للمرة الاولى حجم لبنان المتواضع ووزن شعبه الخفيف ودوره الأخف في التأثير على مجرى هذه التحولات التاريخية التي يشهدها العالم العربي.. ويختبر للمرة الاولى منذ الثورة الناصرية فرصة الاستفادة النفعية من الاضطرابات العربية.
هي معجزة ان يظل لبنان هادئاً مع مرور اكثر من سنة على العاصفة المدمرة التي تضرب سورية خاصة. قد يعزى السبب الى التواضع والتعقل، او الى الحسابات الجديدة المتغيرة لموازين القوى. كما قد ينسب الى الصدفة العابرة، التي لا تبرر سوء الظن باللبنانيين... الى حد الاعتقاد أنهم صاروا مثل الشعب السويسري.المعجزة صامدة حتى الآن، لكن انهيارها في أي لحظة وارد ايضاً.


- 'الأخبار'
الانتفاضات العربيّة وآفاق مقاطعة 'إسرائيل'
سماح إدريس:

في مقال سابق كتبتُ أنّ الانتفاضات العربيّة، وخلافاً لرغبات الناشطين من أجل تحرير فلسطين، لم تُعِرْ أيَّ مسألةٍ تتعدّى إسقاطَ الاستبداد المحلّيّ كبيرَ اهتمام، وإنما أصرّ معظمُ دعاتها على أنّ تحرير فلسطين لن يتمّ إلّا بعد &laqascii117o;تحرير البلدان العربيّة من الطغيان" وعلى أنّ &laqascii117o;فلسطين لا يحرّرها إلا العربُ الأحرار"(1).
ولأعترفْ بأنّني سايرتُ هذا التفكيرَ على امتداد الانتفاضتين التونسيّة والمصريّة، فضلاً عن الأشهر الخمسة الأولى من عمر الانتفاضة السوريّة (2). وربّما يعود ذلك إلى عملي النشريّ والصحافيّ الذي يَهجس بالحريّات؛ أو قد يعود إلى تربيةٍ شبابيّةٍ بين بيروت ونيويورك، ربطتْ بين التحرير القوميّ والحريّات الفرديّة.فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ استبدادَ مبارك وبن عليّ في الداخل ترافَقَ طوال عقود مع انصياعهما للأجندة الأميركيّة ــ الإسرائيليّة، فهمنا لماذا تراءى لكثيرين، ومنهم كاتبُ هذه السطور، أنّ إسقاطهما سيؤدّي لا محالة، وبشكلٍ آليّ، إلى إسقاط هذه الأجندة نفسها، لصالح أجندةٍ مغايرةٍ تماماً تنادي بتحرير فلسطين.
غير أنّ مسار الأحداث المتلاحقة هشّم الآمالَ وقوّض الأوهام. وقد بدأ انقشاعُ الأوهام هذا مع أحداث ليبيا. إذ بغضّ النظر عمّا إذا كانت الانتفاضةُ الليبيّةُ ذاتَ جذورٍ محليّةٍ (وهي لا بدّ أن تكون كذلك بسبب طغيان القذافي المتواصل منذ الفاتح من سبتمبر عامَ 1969)، فإنّها سرعان ما تحوّلتْ إلى أداةٍ في يد القوى الغربيّة الطامعة في احتكار ثروات ليبيا، والطامحةِ إلى مصادرةِ عمليّة إعادة إعمارها بعد &laqascii117o;التحرير" إلى حدّ إغضاب الحليف الروسيّ اللدود. وتبيّن أيضاً أنّ السلطة الجديدة هناك باتت في قبضة قوى ذاتِ ارتباطٍ سابقٍ بتنظيم القاعدة، وارتباطٍ حاليّ بالولايات المتحدة، وذاتِ رؤيةٍ تُرْجع المرأةَ الليبيّةَ إلى عهودٍ أسوأَ ممّا هي عليه، الآن بعدما شرّع &laqascii117o;الإسلامُ المعتدلُ" هناك تعدّدَ الزوجات. وتسارعتِ الأنباءُ التي تفيد بوجود نيّةٍ لدى القيادة الليبيّة الجديدة في التطبيع مع العدوّ الإسرائيليّ، بعدما أكّد &laqascii117o;فيلسوفُ الربيع العربيّ"، المفكّرُ الصهيونيُّ الفرنسيّ برنار هنري ــ ليفي، لنتنياهو أنّ مصطفى عبد الجليل وَعده بإقامة علاقاتٍ متينةٍ مع إسرائيل.
هذا في ليبيا التي انتصرتْ على الاستبداد القذافيّ فعلاً لكنّها توشك أن تغرق اليوم في النهب الاقتصاديّ، والتبعيّةِ السياسيّة، والنكوصيّةِ الدينيّة، والغزلِ مع إسرائيل. بيْد أنّ التراجع عن خطّ الانتفاضة باتجاه هذا الغزل لم يقتصرْ على ليبيا، بل امتدّ إلى تونس ومصر، والديْ الانتفاضات العربيّة الأساسييْن. فراشد الغنوشي، زعيمُ حزب النهضة الإسلاميّ، نفى أن ينصّ الدستورُ التونسيّ على ما يمنع تونسَ من إقامة علاقات مع إسرائيل(3). وأبو المنعم أبو الفتوح، زعيمُ الإخوان وأحدُ المرشّحين الأساسيين لرئاسة مصر، أقرّ قبل حوالى العامين في حديث إلى القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيليّ، بوجود إسرائيل، وطالب الفلسطينيين بالاعتراف بها، وتعهّد باحترام اتفاقيّات كامب ديفيد(4).
غير أنّ الانتكاسة الكبرى في الانتفاضات العربيّة، في ما خصّ المسألة الفلسطينيّة تحديداً، جاءت من سوريا. ففي البداية، في آذار 2011، تفاءل كثيرون في أن يؤدّي التخلّصُ من استبداد النظام السوريّ إلى تخليص فلسطين من احتكاره، مذكّرين بدوره في شقّ صفوف الفلسطينيين ومحاولة احتوائهم. وآخرون اعتبروا أنّ دعم هذا النظام لبعض الفصائل الفلسطينيّة لا يبرّر إبقاءَ جبهة الجولان صامتةً أكثر من أربعين عاماً، ولا يسوّغ آلامَ السوريين الهائلة (نتذكّر هنا عبارةَ تميم البرغوثي: &laqascii117o;إنْ كان تحريرُ فلسطين يقتضي تعذيبَ أطفالِ سوريا، فأبقُوها محتلّةً خيرٌ لأطفالِكم وأطفالِها!"). غير أنّ توجّهاتِ فصيلٍ معارض بارزٍ لم تحملْ إشاراتٍ مطمْئنةً إلى استراتيجيّة &laqascii117o;سوريا الجديدة" حيال فلسطين. فرئيسُ المجلس الوطني السوريّ أكّد أنّ &laqascii117o;سوريا الجديدة" ستوقف دعمَها لحركة حماس (جاء تأكيدُه هذا قبل إدارة &laqascii117o;حماس" ظهرَها للنظام السوريّ باتجاه التحالف مع قطر وتركيا، لكني لا أعتقد أنّ سوريا في ظلّ حكم &laqascii117o;المجلس الوطنيّ" ستدعم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين مثلاً!). ونائبتُه، بسمة قضماني، جهرتْ قبل أعوام بضرورة وجود إسرائيل(5). ونائبُ المرشد العامّ للإخوان المسلمين، محمد فاروق طيفور، جلس في الصفوف الأماميّة في مؤتمرٍ نظّمه الصهيونيّ هنري ــ ليفي في باريس(6). والمتظاهرون السوريون أنفسُهم لم يُطْلقوا اسمَ &laqascii117o;جمعة فلسطين" على أيٍّ من جُمَعهم طوال عامٍ كامل ــ وكأنّ المجلس الوطنيّ لا يريد أن يبعث &laqascii117o;رسالة خاطئة" إلى &laqascii117o;المجتمع الدوليّ"، الذي يعني اليوم بالنسبة إليه حلفاءَه في أوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج وتركيا أردوغان!
كلُّ ذلك لا يحُول دون وجود بعض الإيجابيّات القليلة وسط الانتفاضات العربيّة في ما يخصّ قضيّة فلسطين والصراع مع العدوّ. أهمُّها تفجيرُ أنابيب الغاز بين مصر والكيان الصهيونيّ والأردن 14 مرّةً (ألا زادها الله!)؛ واقتحامُ السفارة الإسرائيليّة في القاهرة؛ وتطور عمل مقاطعة العدوّ (ومن ذلك نجاحُ &laqascii117o;حملة مقاطعة داعمي إسرائيل ــ لبنان" في دفع مغنّيةٍ صهيونيّةٍ إلى الامتناع عن القدوم إلى بيروت، ونجاحُها في أن تحرِّكَ لدى &laqascii117o;مكتب مقاطعة إسرائيل" قضيّة منع استيراد منتجات شركة سينيروم الإسرائيليّة، وإبلاغ المكتب العامّ لمقاطعة إسرائيل بشركةٍ تقدِّم معدّاتٍ عسكريّةً للاحتلال هي شركة جي. 4 أس). فضلاً عن بعض الاعتصامات والتظاهرات التقليديّة المتضامنة مع الأسرى الفلسطينيين أو المندِّدة بهمجيّة العدو، وذلك في تونس والمغرب وأقطارٍ أخرى. من الطبيعيّ أن تركّز الانتفاضاتُ العربيّةُ على تغيير أنظمتها الاستبداديّة، أعميلةً كانت أمْ متواطئةً أمْ ممانعةً. فالحريّةُ والقضاءُ على الفساد وتحسينُ الأوضاع المعيشيّة مطالبُ مشروعةٌ وملحّةٌ، وليس في مقدور أيٍّ كان أن يؤجّلَها إلى ما لا نهاية، وإنْ بذريعةِ غايةٍ نبيلةٍ كتحرير فلسطين. لكنّنا سنكون واهمين إنْ ظننّا أنّ إسقاط الرئيس المستبدّ كفيلٌ في ذاته بإسقاط النظام، أو كفيلٌ بالاستدارة نحو تحرير فلسطين. فواقعُ الأمر أنّ أجندةَ التغيير الداخليّ وأجندةَ تحرير فلسطين لا تتماهيان بالضرورة، بل تتقاطعان. ومثلما أنّ فلسطين كانت إحدى ذرائع الأنظمة لممارسة الطغيان الداخليّ، فإنّ الديموقراطيّة قد تكون ذريعةً للتنصّل من تحرير فلسطين أو من الاهتمام بأيّ قضيّةٍ قوميّةٍ أخرى.
حتى الظواهرُ الإيجابيّةُ التي ذكرتُ عدداً منها لم يكن كلُّها مقصوداً: فتطوّرُ حملة مقاطعة داعمي العدوّ في لبنان اليوم، مثلاً، لم يتمّ في سياق الانتفاضة اللبنانيّة الضعيفة لإسقاط النظام الطائفيّ، بل كردّة فعلٍ على دعوى ماليّةٍ ضخمةٍ رفعها متعهّدُ حفلاتٍ على الحملة، بعد دعوتها إلى مقاطعة فرقةٍ داعمةٍ للعدوّ كان قد استقدمها آنذاك. واقتحامُ السفارة الإسرائيليّة في القاهرة لم يحدث احتجاجاً على كامب ديفيد أو جرائم الاحتلال، رغم شجب المتظاهرين للأمرين طبعاً، بل بعد مقتل ستة جنود مصريين على يد الاحتلال.
أيعني ذلك كلُّه أن يَغْرق أنصارُ تحرير فلسطين ومقاطعة العدوّ في التشاؤم، فيتراجعوا عن نشاطهم أو يجلسوا صامتين بانتظار ما ستؤُول إليه الانتفاضاتُ العربيّة؟ كلا طبعاً. فالتراجعُ والصمتُ مقدّمةٌ لصمتٍ أكبر وتراجعٍ أكبر في قضيّة تحرير فلسطين. لكنْ هل ستؤدّي الانتفاضاتُ إلى أيّ تقدمٍ في أجندة تحرير فلسطين؟ الجواب هنا يتوقّف على سيرورة هذه الانتفاضات وسط التجاذبات الداخليّة والخارجيّة، وصولاً إلى إسقاط النظام، لا رمزِه الأولِ فحسب. كما أنّه يتوقّف على دور الناشطين المؤيّدين لتحرير فلسطين ـــ وأقصد: 1) دورَهم في الربط بين إسقاط الأنظمة وإسقاط تبعيّتها السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة والعسكريّة للدول الغربيّة الرأسماليّة حليفةِ إسرائيل، وذلك في حالات الأنظمة التابعة لذلك الغرب؛ 2) دورَهم في الربط بين حريّة أقطارهم في الداخل وبين التحرير على المستوى القوميّ، وذلك في حالة الأنظمة الاستبداديّة غير المتحالفة مع العدوّ. المهمّ في كلّ الحالات ألّا نسمح بتأجيل نصرة فلسطين، أيّاً كانت الذريعة. وقد يكون أفضلَ ما يستطيع أنصارُ فلسطين فعلَه في هذا الوقت الدقيق ثلاثة أمور: 1) تثقيفُ الذات والآخرين بتاريخ فلسطين ومقاومتِها الطويلة وتاريخِ مقاطعة الظلم والعنصريّة في العالم، وذلك عبر الكتابة والندوات والأنشطة الميدانيّة. 2) &laqascii117o;النقّ" داخل أيّ مجموعةٍ سياسيّةٍ محلّيّةٍ على عدم تجاهل قضيّة فلسطين أو تأجيل حلّها إلى ما بعد تغيير النظام الاستبداديّ المحلّيّ؛ فمن يؤجّلُ فلسطين سنةً قد يؤجّلُها إلى الأبد. 3) تفعيل مقاطعة العدوّ وداعميه.
ختاماً، فإنّ الانتفاضات العربيّة لم توسّعْ جبهةَ الكفاح المسلّح ضدّ العدوّ حتى اللحظة. فهل تكون الوسيلة الأفعل المتاحةَ أمام المواطنين العرب اليوم، وفي المدى المنظور، هي وسيلةُ مقاطعة الشركات الإسرائيليّة حيثما وُجدتْ، ومقاطعة ممثّلي العدوّ التجاريين والديبلوماسيين حيثما وُجدوا، ومقاطعة الشركات التجاريّة والفِرق الفنيّة الداعمة للعدوّ، وفضح كافة الأنشطة التطبيعيّة معه؟ المسألة لم تكن يوماً الخيارَ بين المقاومة المدنيّة، وعلى رأسها المقاطعة، والمقاومةِ المسلّحة. فالمقاومتان مشروعتان، أخلاقياً وقانونياً وإنسانياً. وليس ثمّة شعبٌ طرد الاحتلالَ مستخدماً نوعاً واحداً من المقاومة، وإنما بتضافر أشكالٍ متعدّدةٍ منها. المسألة هي في التقاط الوسائل الأجدى في كلّ محطةٍ تاريخيّةٍ أو بقعةٍ جغرافيّةٍ بعينها، من دون التخلّي عن الوسائل الأخرى في محطّاتٍ لاحقةٍ أو بقاعٍ جغرافيّةٍ أخرى.


- 'الأخبار'
المواجهة مستمرة فوق الحلبة السورية
محمد سيد رصاص:

أُهرق الكثير من الكلام في الفضائيات والصحف، في الربع الثاني من 2011، عندما تزامن الحدثان الليبي والسوري، حول أنّ &laqascii117o;ليبيا هي أكثر أهمية من سوريا" بسبب النفط. خلال النصف الثاني من العام الماضي، كانت سوريا موضوعاً لاستقطابات دولية أشارت لأول مرة إلى بداية تمرد منهجي من محور موسكو _ بكين على القطبية الأحادية للعالم التي مارستها واشنطن منذ 1989، وهو شيء جديد لم نره في أزمة وحرب الخليج، ولا في حرب أميركا في كوسوفو ضد صربيا في 1999، ولا أثناء غزو واشنطن للعراق في 2003. تزامن ذلك مع استقطاب إقليمي حول الموضوع السوري، جعل منطقة الشرق الأوسط في معسكرين: محور أنقرة _ الرياض، في مواجهة محور طهران _ بغداد _ حزب الله، مع حيادية غامضة للقاهرة، وهو شيء لم تستطع حربا 1991 و2003 أن تولّداه. هذا الاستقطاب الإقليمي تكرر لأول مرة في 2011 حول سوريا، وذلك للمرة الأولى منذ 1955، لما كان الصراع على سوريا بين محور حلف بغداد وقاهرة عبد الناصر، هو صراع على من يسود المنطقة.
ما يلفت النظر في هذا الاستقطاب الذي تقف فيه وراء موسكو وبكين دول مجموعة &laqascii117o;البريكس"، ولو بتردد، أنّه يشير إلى تحرك روسيا والصين نحو مواجهة عالمية مع واشنطن، للمرة الأولى خلال العقدين الماضيين، بعد أن كانتا قد تركتا الساحة فارغة أمام &laqascii117o;القطب الواحد للعالم". وهو تحرك كان مسبوقاً عندهما، منذ 2008 لما ظهرت علامات الضعف الأميركي في الشرق الأوسط إثر حرب تموز، ثم بوادر الأزمة المالية في أيلول 2008، بمكاسب أحرزاها في المحيط الإقليمي المجاور لهما (موسكو &laqascii117o;ربحت" في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا، على التوالي، فيما ظهر تشدد صيني متزامن في مواضيع تايوان وبورما وكوريا الشمالية). لم تحصل تلك النقلة الروسية _ الصينية النوعية في يوم تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار 1973 المتعلق بليبيا، وإنما لما استخدمتا الفيتو في الموضوع السوري في تشرين الأول 2011، الذي تكرر بعد أربعة أشهر، ولتكون تلك القاعة بنيويورك الساحة التي أوحت بعودة أشباح الحرب الباردة.
في هذه المواجهة العالمية حول سوريا، يبدو أنّ الحسابات عند أطرافها أبعد من النطاق الجغرافي السوري؛ إذ ترى واشنطن (ومن ورائها الاتحاد الأوروبي وأنقرة والرياض) أنّ تغييراً في دمشق سيجعل محور طهران _ بغداد _ دمشق _ حزب الله، في طريق التداعي، هي التي يزعجها وقوع بلاد الرافدين في أيدي القوى العراقية الموالية لطهران بعد الغزو الذي قادته بنفسها للعراق. في الأسبوع الذي صُوِّت فيه على القرار المتعلق بسوريا في مجلس الأمن في تشرين الأول الماضي، قبِل رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، بنشر &laqascii117o;الدرع الصاروخية الأميركية" في الأناضول، في خطوة أعلنت طي صفحة التقارب التركي _ الإيراني، الذي كانت ذروته الاتفاق التركي _ البرازيلي _ الإيراني على الملف النووي الإيراني في 17 أيار 2010 الذي كان &laqascii117o;فاولاً" ارتكبه أردوغان في ملعب واشنطن. هذه الأخيرة أغمضت عينيها راضية بعد أسبوعين من ذلك الاتفاق عن هجوم البحرية الإسرائيلية على سفن المساعدات التركية لغزة. في السياق نفسه، يجب وضع إرسال سفن أسطول البحر الأسود الروسي إلى مرفأ طرطوس وقبالة السواحل السورية في أواخر تشرين الثاني الماضي، بعد أيام قليلة من طلب مراقب جماعة الإخوان المسلمين السوريين، رياض الشقفة &laqascii117o;تدخلاً عسكرياً تركياً"؛ إذ لا يمكن عزل ذلك عن سياق المواجهة الروسية _ التركية حول النفوذ في القوقاز وآسيا الوسطى الإسلامية السوفياتية السابقة، والتي كان أحد مظاهرها الصراع حول أنابيب نفط وغاز تلك المنطقتين، إن كانت ستمر بأحد المعبرين التركي أوالروسي إلى أوروبا. ولا ينفصل ذلك عن هواجس روسية بأنّ سوريا موالية للغرب، ستكون مع تركيا معبراً لأنابيب الغاز والنفط الخليجيين إلى القارة العجوز، ما سيؤدي إلى فقدان موسكو لأحد أقوى أسلحتها الراهنة مع الغرب.
هذا يعني عند كلّ تلك الأطراف المشاركة في &laqascii117o;الصراع على سوريا" أنّ &laqascii117o;دمشق هي مفتاح المنطقة"، وهو ما ينطبق على كل الأطراف التي تريد من خلال التغيير في دمشق إنشاء تغيير جيوبوليتيكي في المنطقة الممتدة بين كابول والشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، ينهي المدّ الإقليمي الإيراني. ينطبق ذلك أيضاً على موسكو التي ترى دمشق كآخر معاقلها في المنطقة، وقلعة أخيرة إن سقطت ستقود إلى تداعي الشرق الأوسط بكامله بيد واشنطن، ما يؤدي وفق الحسابات الروسية إلى تأثيرات على مسلمي الجمهوريات الآسيوية السوفياتية السابقة، وعلى مسلمي الاتحاد الروسي، تشابه تأثيرات الهزيمة السوفياتية في أفغانستان. عند الصين هناك حسابات مماثلة تتعلق بمسلميها وبهواجس من سيطرة أميركية مطلقة على نفط الشرق الأوسط الذي يشكل قسماً متضخماً من استيراداتها. لدى إيران، ونوري المالكي في بغداد، والسيد حسن نصر الله، هناك تفكير بنظرية الدومينو (مثلاً ترابط سقوط الأنظمة الموالية لواشنطن في كمبوديا وفيتنام الجنوبية ولاوس خلال أربعين يوماً فقط في نيسان وأيار 1975).
بين 4 تشرين الأول 2011، عندما مورس الفيتو الروسي _ الصيني المزدوج، و21 آذار 2012، لما صدر البيان الرئاسي عن مجلس الأمن الداعم لخطة كوفي أنان، بدا أنّ هناك توازناً سورياً ثلاثياً: دولي روسي _ أميركي، وإقليمي، وداخلي. هذا التوازن المثلث الأبعاد هو الذي قاد إلى تشكيل ملامح تسوية سورية في خطة أنان تستبعد &laqascii117o;السيناريو اليمني" الذي كانت تحويه النسخة الثانية من مبادرة الجامعة العربية.
في الأسبوع الأخير من شهر تشرين ثاني2011، وعندما كان قادة مجلس إسطنبول يبنون الآمال على تكرار &laqascii117o;السيناريو الليبي"، قال وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ لوفد سوري معارض التقاه في لندن: &laqascii117o;لا حل في سوريا من دون روسيا"، وهو الأمر الذي استطاعت موسكو فرضه كطريق اجباري أمام واشنطن، خلال الأشهر اللاحقة. وهو حدث يتجاوز المسألة السورية ليصل إلى رسم حقائق جديدة في العلاقات الدولية. يشير ذلك إلى اهتزاز موقع القطب الواحد للعالم، وإلى دخول العلاقات الدولية في منعطف مفصلي، لا يعرف حتى الآن إن كان يعني بدء غروب الأحادية الأميركية للعالم أو لا.


- 'السفير'
Independent : الثورة المضادة: 'التغيير' بفصله الدموي
 روبرت فيسك (ترجمة: دنيز يمين):

كان زميلي الاردني - الفلسطيني رامي خوري أول من حددّ ما يجري في الشرق الاوسط حالياً بـ&laqascii117o;الثورة المضادة". في البحرين يُسحق الثوار. في سوريا، تُسحق المعارضة. في مصر، يترشح رئيس جهاز الاستخبارات في عهد حسني مبارك، عمر سليمان، لرئاسة الجمهورية. في ليبيا، الدولة في حالة حرب مع نفسها. في اليمن، يعود الديكتاتور السابق مرة أخرى بطريقة اخرى. الكل في الكل.. هي الفوضى الخلاقة.
لكن، لنقتبس مما قاله خوري: &laqascii117o;وفق المنظور الاميركي، ان مفهوم الازمة هو كمفهوم الحب، يمكنك تفسيره كما تشاء. ان ثورة مدنية دفاعا عن الحريات في البحرين هي أزمة يجب أن تُقمع بالقوة، أما في سوريا فهي ثورة مباركة تستحق الدعم. كذلك، تُحذر ايران من مدّ الحوثيين في اليمن بما يحتاجونه، فيما تنشط الولايات المتحدة في دعم المتمردين الذين تفضلهم"..
كما قال خوري، اليوم بات هناك مجموعة جديدة باسم &laqascii117o;منتدى التعاون الامني" يربط بين أميركا ومجلس التعاون الخليجي. وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون، عملت على طمأنة الدول النفطية الحليفة لها لجهة &laqascii117o;الالتزام الصلب تجاه أمن" دول مجلس التعاون الخليجي. أين سمعنا ذلك من قبل؟ ألم يكن بنيامين نتنياهو والملك السعودي المسؤولين اللذين طلبا الى أوباما مساعدة مبارك في محنته؟
في سوريا - حيث يجهد القطريون والسعوديون لمدّ المتمردين بالسلاح - لا يبدو أن الأمور تسير لمصلحة الثورة. فبعدما قيل العام الماضي بأن &laqascii117o;عصابات مسلحة" تهاجم قوات النظام، ها هي &laqascii117o;العصابات المسلحة" اينما كان اليوم، وتستهدف مجموعات الرئيس السوري بشار الاسد. هذا ما يصفه بعض الثوار بـ&laqascii117o;التراجيديا"، حيث يتهمون الدول الخليجية بالتشجيع على التسلح.. &laqascii117o;ثورتنا كانت نقية ونظيفة.. والآن باتت مجرد حرب"... أصدّقهم.
أعتقد أنها مراقبة حزينة لما يجري. لكن يمكن القول إن بعض الثورات التاريخية في العالم العربي لم تقم تماماً وفق خطة واضحة. قبل بضعة أيام، احتفل الجزائريون بالذكرى الـ50 لانتصارهم على الفرنسيين. عرض التلفزيون الفرنسي وثائقياً مفصلاً عن النضال الذي راح ضحيته ما لا يقل عن نصف مليون شخص.. ولكن علام حصل العرب بعد معركة مماثلة؟ مجرد ديكتاتور، نخبة فاسدة، رقم مخجل للبطالة، وكمية نفط كافية لجعل الجزائر تنافس السعودية - لو نجحت الثورة الجزائرية بالفعل لكانت لعبت هذا الدور.
ثورة جمال عبد الناصر لم تكن ناجحة بالضبط. ربما حقق عبد الناصر ذلك على المستوى الشخصي، إلا أن خلفاءه كانوا فظيعين. قادوا مصر وكأنها جزء من ممتلكاتهم الخاصة، معرّضين بلادهم لحربين ضد اسرائيل.
أفق مليء بالتشاؤم.. أظن أن الصحوة العربية ستبقى مستمرة حتى بعد مماتنا. لكن في نهاية المطاف، ستكون هناك حريات حقيقية في الشرق الأوسط. نعم. الكرامة لجميع شعوب المنطقة. وسيخالج الجيل المقبل شعور بالدهشة حيال جيل آبائهم وأجدادهم الذين تسامحوا مع الطغاة لفترة طويلة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد