قضايا وآراء » قضايا وآراء من الصحف اللبنانية الصادرة الأربعاء 16/5/2012

- 'السفير'
طرابلس!
نهلة الشهال:

لن تنتهي مأساة طرابلس، المدينة الثانية في لبنان، بالمعالجة الناجحة التي ستطبق على الحدث الحالي المنفجر فيها. قد تُظهِر تلك المعالجة استعادة لزمام الامور: من قِبل الجيش ممثلاً &laqascii117o;الدولة"، من قِبل الجيش ممثلاً إجماع القوى المعنية بإغلاق اللحظة. هذا فيما لو أمكن ذلك، أو كانت النية تتجه إليه، وهو أمر يحتاج للفحص.ولكن النجاح هنا سيطال السطح. تعود المدينة في الظاهر واحدة، عادية، قد لا يلحظ المار فيها سوى فوضى السير غير المبررة، سوى بؤس يحتل ساحتها الرئيسية نفسها، &laqascii117o;التل"، بساعتها العثمانية الشهيرة. بؤس مظاهره تلك الفوضى المرورية وزعيق المنبهات الذي لا ينقطع وانتشار الاوساخ في الشوارع وعلى الارصفة، واحتلال هذه الاخيرة من عربات وبسطات تبيع كل شيء، ويطلق كل واحد من باعتها صراخه منادياً على بضاعته، بعدما نصب مذياعاً هائل القوة، يلوث الجو بأغان لا تُسمع إلا هنا، فكأنها صنعت لذلك المشهد. في وقت من الأوقات كانت تطغى أغاني علي الديك، ولكنه بات مقاطَعاً منذ اكتشفت &laqascii117o;علويته"! بقيت أغاني &laqascii117o;النوَر"، وأخرى لمغنين جعلوا من الديك ذاك مطرباً محترماً بالمقارنة. وهناك اناشيد &laqascii117o;الثورة السورية"، وفيها شتائم لا تخطر على بال. بينما تلتزم بعض المحال والبسطات والعربات بأناشيد دينية، وهي التي يديرها شبان تدل مظاهر محياهم وملبسهم أيضاً على &laqascii117o;الالتزام".يكاد تجار طرابلس التقليديون يختفون من &laqascii117o;التل" المحتل على هذه الصورة من قبل كتلة صاخبة، تتصرف بغربة عن المكان. مزيج من أبناء الريف البائس المحيط، ومن شرائح أشد بؤساً منهم، هم أبناء سوريا القريبة، العمال في لبنان الذين يكاد يكون مرورهم في طرابلس عند عودتهم الى بلداتهم وقراهم، إلزامياً، فهي الأقرب اليها.لم تتمكن طرابلس من استيعاب الوافدين إليها، بمعنى &laqascii117o;تمدينهم" كما تفعل عادة المدن، فارضة قواعد سلوكها و&laqascii117o;كود" الحياة فيها. فبقوا كما هم، بل أضاعوا &laqascii117o;المشيتين"، لا هم في محيطهم المعتاد بأنماطه وقواعده، ولا هم يتلقون ويستوعبون جديداً. لم تتمكن طرابلس لأنها كانت قد فقدت هي نفسها قوامها. وزادت الحرب الاهلية المديدة في تهميشها، عازلة إياها عن سائر لبنان بحكم معطيات الجغرافيا والديمغرافيا الاجتماعية، بينما سوريا، منفذها التاريخي الى دورها التجاري، كان ينغلق أمامها رويداً وبإحكام، بسبب التغييرات التي ألمت به هو نفسه: من يحكم هناك، وانتفاء دور حمص، المدينة الاقرب، كمركز مرور إقليمي للبضائع، كطريق تجارة وانتقال بشري كما كانت على الدوام، بينما حماه وريفها، القريبان هما أيضاً، لم يعودا مراكز زراعية هامة.فعلى ماذا تعتاش طرابلس، إن كانت مركزية لبنان الشديدة تخصص العاصمة بكل شيء، فيما انغلقت الصلة بالمحيط العربي، التي كانت تجعل من طرابلس كما كان يحلو للطرابلسيين القول، أكثر مدن لبنان عروبة... هذا اللبنان الذي قبل أهلها به على مضض. وهكذا تحولت باب التبانة، التي يتردد اسمها في كل الاحداث العاصفة، من &laqascii117o;باب الذهب" كما كان لقبها لأنها كانت مركز تجارة الجملة المزدهر، الى أحياء خربة يلعب فيها الأولاد مع الجرذان في مداخل بناياتهم وأزقتهم الغارقة بمياه المجارير وأكوام النفايات. نسبة عمالة الأطفال هي الأعلى هنا، نسبة عدم تمدرسهم هي الأعلى هنا. أما البطالة فهي القاعدة، يكادون لا يعرفون سواها: البؤس هنا &laqascii117o;عادي". وكذلك هي حال أحياء أخرى كثيرة من المدينة، تتردد اسماؤها دوماً في الأحداث. ليس عبثا أن يكون أحد تقارير وكالة من وكالات الامم المتحدة قد صنف طرابلس مؤخراً كأفقر مدينة مطلة على البحر الابيض المتوسط، بينما تقرير آخر لتلك الهيئة الدولية صنفها كأفقر منطقة في لبنان: 47 في المئة من سكانها تحت خط الفقر!
لطرابلس إمكانات: هي مدينة حِرف مشهورة عبر التاريخ، ومدينة أثرية غنية، بل يمكن القول إنها استثنائية لهذه الجهة، بقلاعها الصليبية وأحيائها المملوكية التي ما زالت قائمة. لموقع طرابلس الجغرافي، بالمعنى العلمي وليس السوسيولوجي، ميزات يمكن أن تجعل من مرفئها مركز نشاط رئيسياً لو سمح له بالتوسيع والتعميق. في طرابلس معرض كان يفترض به أن يكون دولياً، وأن يكون الاول في لبنان لهذه الجهة، بناه المعماري البرازيلي العالمي &laqascii117o;نيميير" منذ منتصف ستينيات القرن الفائت، وهو متروك تماماً مذاك. في طرابلس مصفاة &laqascii117o;شركة نفط العراق" (أَي بي سي)، وهي الأخرى خربة ومتروكة. في طرابلس شاطئ ممتد وخلاب هو في الممارسة مكب نفايات ومصب مجارير... واحدة من تلك المشاريع لو اُنعشت لنقلت المدينة من حال التأزم ـ بل الاندثار كما يقول بعض ابنائها بيأس قد يكون واقعياً ـ الى حال من &laqascii117o;الطبيعية" إن لم نقل الازدهار.
ما الذي يبقى للبؤساء غير الله؟ وما الذي يبقى للمهمشين غير السعي لانتزاع اعتراف بهم كيفما اتفق؟ المرض الطرابلسي قديم، فمن يذكر انتفاضة &laqascii117o;أحمد القدور" مطلع السبعينيات من القرن الفائت، وعصيانه وجماعته في المدينة القديمة لأشهر؟ كانت تلك الواقعة، وبكل المقاييس، استعادة لحوادث تنتمي الى حكايات &laqascii117o;العيارين والشطار". وهناك مثلها الكثير، كل يوم، وفي كل حي، وإن تنوعت الروايات.
المدينة المختنقة تأبى أن تموت بالسكتة القلبية. تذوي رويداً وبصخب، فهل تُلام على ذلك؟ المدينة مزدوجة، مدينتان، واحدة تقليدية منكفئة في البيوت، يشجع الأهل فيها ابناءهم على الهجرة للدراسة ثم للعمل &laqascii117o;أينما كان"، فـ&laqascii117o;كلُه ولا طرابلس" كما يقولون بلهجتهم الخاصة. ولكن لهؤلاء الخيار، ما زال لديهم الخيار، حتى وإن كان قرار هجرة الأبناء يستلزم بيع &laqascii117o;الرزق"، اي الأرض المتوارثة. أما الأخرى، وهي الأكبر، فتتشكل من نسيج متصل من الأحياء الشعبية، يسكنها طرابلسيون &laqascii117o;أصيلون"، ومهاجرون قدماء متوطنون، ووافدون جدد على دفعات. وهذه تضور جوعاً، يتقن حيالها &laqascii117o;زعماء" المدينة، ذوو الطموح السياسي، لعبة الاستزلام والزبائنية: &laqascii117o;قوت لا يموت". مكاتب الزعماء توزع حصصاً غذائية، وتسدد جزءاً من أقساط المدارس، ومن نفقات الاستشفاء، وهلمَّ جراً... بلغت الإهانة مبلغها، فراحت أعداد من أبناء المدينة تبحث عن آفاق أخرى. وزين بعضهم لهم أنهم يمكن أن يكونوا &laqascii117o;خزان السنَّة" في لبنان، أي وقود صراع طائفي لا يني يتجدد. ثم وقع الحدث السوري، فاتخذت التسمية ابعاداً جديدة. الازدواج هنا أيضاً يفعل فعله، وهو صنو الانفصام على أية حال، فيختلط كل هذا بلا قطيعة بين من يرتبط بزعيم أو بعدة زعماء معاً، ومن يرتبط بأطر أخرى، متعددة، وقد يصل بعضها الى... &laqascii117o;القاعدة": ثم ماذا، ولم لا؟ التنظيم ذاك محرم لدى الاميركان وسائر &laqascii117o;الخواجات". ولكن تلك ليست حجة هنا، ليست تهمة مبرمة. وهو ما يفهم في السياق السالف.
ولكن ذلك ليس قطعاً السبب وراء إطلاق أهل المدينة تسمية &laqascii117o;قندهار" على مدينتهم، يتلفظ بها البعض منهم بتأفف واستغراب (لم يعد أحد في المدينة يقوى على الاستهجان!)، بينما يتباهى بها بعضهم الآخر. بل هو البؤس، والفوضى، والعزلة، والترك، والتفكك، والمظاهر المرافقة..
قندهار؟ بل افدح! تحتاج طرابلس الى خطة إنقاذ وإنعاش قبل فوات الأوان، وهو يكاد يفوت من فرط تمكن وترسخ الفقر والإهمال والاحتقار، وتعقد معطياتها وتشابكها. ما الذي يفعله، معاً والآن، الوزراء الحاليون من أبنائها، ومن بينهم رئيس وزراء البلاد كلها؟ الفيحاء الخلابة مسكونة باليأس، فهل من جواب؟.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد