قضايا وآراء » بين اللباس المدرسي والحرب على قطر.. شاشات تخترع قصصها الصحافيّة


سناء الخوري
بعد ابتداع قناة 'الجديد' للتقرير 'الخاص'، ورهان 'أل بي سي آي' على الشأن الاجتماعي والحياتي كعصب أساسي لنشرتها، بدأت معظم النشرات الإخباريّة في لبنان بدخول 'العصر الجديد'، من خلال البحث عن مواضيع 'أولى' غير سياسيّة، لإبرازها. الاتجاه نحو عرض قصص Stories من خارج الروزنامة السياسيّة، وسّع هامش الاستنسابيّة، في المفاضلة بين غير المهمّ والمهمّ والأهمّ. تدريجياً، راحت الحدود الفاصلة بين القصّة الصحافيّة المتماسكة، وتقارير 'النميمة'، تذوب. بتنا نشاهد مواداً تحمل عنوان 'تقارير اجتماعيّة'، يجمع بينها الافتقاد إلى بعض أبرز عناصر القصّة الصحافيّة، وخصوصاً حداثة الموضوع، واحتوائه على معلومات قد يشكّل حجبها خطراً على حياة وصحّة المواطنين. استطراداً، بات تقديم قصّة صحافيّة جذّابة يمرّ، بالنسبة لبعض القنوات، عبر مزجٍ عشوائي بين الجانب الخبري وجانب التحليل والرأي والإثارة.
في اختيار الموضوع
تحاول قناة 'أم تي في' أن تقدّم إخباراً واحداً للقضاء في الأسبوع، هلى الأقلّ. من السهل توقّع مضمون ذلك البلاغ: فإمّا القلق من بيع أراضي المسيحيين، أو المناداة بحماية المجتمع من الفساد الأخلاقي. الأسبوع الماضي، عرضت القناة تقريراً عن بيت 'مخالف' للدعارة في منطقة المعاملتين. صحيح أنّ المنطقة المذكورة، شهيرة بالمرابع الليليّة، إلا أنّ القناة كانت تجهل ذلك، كما يظهر في تقرير بعنوان 'المعاملتين مخالفات ودعارة' (19 أيار/ مايو الحالي). دعارة في المعاملتين! وإنّ تلك لظاهرة مستجدّة على المجتمع اللبناني، كشفت عنها 'أم تي في' للمرّة الأولى مطالبةً بحلّ سريع! لا أحد يعرف لماذا اعتبرت 'أم تي في' بيت الدعارة ذلك خطراً، من دون غيره من الأماكن المماثلة في المنطقة ذاتها. تطول قائمة التقارير المشابهة على 'أم تي في'، وغالباً ما تجد صعوبةً في فهم سبب الذعر الكامن في مضمونها.
الأكيد أنّ القناة لا تدّعي التوجّه لجميع اللبنانيين بنشراتها الإخباريّة. من هذا المنطلق ربما، تجد أنّها تمنح نفسها المبرّرات لتضخيم بعض العناوين الطائفيّة، بشكل لا يقدّم أيّ إضافة للنقاش العام، باستثناء ترسيخ صورة القناة كإعلام متعصّب، يسير على الحافة بين التذاكي والجهل. أحدث الأمثلة على ذلك، ما قدّمته مراسلة القناة جويس عقيقي على يومين متتاليين (30/5 و1/6) حول مدرسة SABIS في أدما. كغيرها من المدارس الخاصّة في لبنان، العلمانيّة منها والدينيّة، قرّرت المدرسة فرض سياسة لباس محدّدة على طلابها، تقتضي عدم إظهار الرموز الدينيّة. صادف أن يشمل قرار المدرسة الصليب، ولا يشمل الحجاب. لا ضرورة للإشارة إلى أنّ هناك مدارس لبنانيّة تسمح لطلابها بإظهار الصليب، مانعةً المحجّبات من ارتداء وشاحهنّ داخل جدرانها. لا يعدّ النقاش حول الملبس المدرسي المسموح أمراً هامشياً، في مجتمع كالمجتمع اللبناني، حيث الجميع حريص على ممارسة شعائره الدينيّة بأكثر شكل علنيّ ممكن. لكنّه يبدو نقاشاً مفتعلاً، خصوصاً أنّ مراسلة 'أم تي في' تلقّفت حالة SABIS من دون غيرها، للمطالبة بالمساواة بين طلاب الصليب المغبونين، في مواجهة طلاب الحجاب المتمتّعين بحصانة...
المقارنة الاستسهاليّة بين الصليب والحجاب، تضع النقاش فوراً في خانة طائفية، عوضاً عن البحث الجدّي للفصل بين ما يمكن وضعه في خانة التمييز، وبين ما يجب إدراجه في خانة الحفاظ على حريّة المعتقد. ولكن، للتدليل على 'خطورة التمييز' اللاحق بالطلاب المسيحيين، تستعين عقيقي بكاميرا خفيّة لإظهار مشهد رفض إدارة المدرسة منحها تعليقاً على الموضوع، ثمّ تعلن تقديم التقرير كإخبار لوزارة التربية.
وللمزيد من التهويل، تضع القناة التقرير خبراً أول في نشرتها، جاعلةً من ترتيبات المدرسة ذات المنهاج الأميركيّ، قضيّة وطنيّة. لم تتسم نبرة 'أم تي في' بالحدّة ذاتها، عند الحديث عن الخطر الذي يهدّد مستقبل الطلاب اللبنانيين مع تأجيل الامتحانات الرسميّة. في هذا الملفّ، بدت حازمة في رمي المسؤولية على هيئة التنسيق النقابيّة فقط. 'أم تي في' قناة تعرف تماماً كيف تقيّم خطورة الملفّات التربويّة!
في التحليل
قد يكون من الترف البحث عن مرصد محايد، يعمل على تحديد الفوارق بالأرقام، بين نسبة المعلومة ونسبة الرأي، في النشرات الإخباريّة اللبنانيّة. فخلال البحث عن قصصهم الخاصّة، صار بعض المراسلين يستسهلون الخلط بين رأيهم الشخصي، أو تمنياتهم، وبين المعلومات التي يجمعونها من مصادر أو من خلال شهادات. تهمل القنوات الفاصل بين التحليلي والخبري، رغم أنّ ذلك يعدّ شكلاً من أشكال التضليل.
أحد الأمثلة على ذلك، ما قدّمته مراسلة 'الجديد' نوال برّي في تقرير عن أحد أسخن المواضيع في الإعلام العربي والعالمي هذه الأيّام: تهم التزوير والسخرة التي تحوم حول كأس العالم 2022 في قطر. لا يتضمّن التقرير رأياً لخبير رياضي أو اقتصادي، بل فقط مشاهد أرشيفيّة للملاعب المبنيّة في قطر استعداداً للمونديال، ومشاهد أخرى تعود لأواخر العام 2010، تظهر فرحة الحاكم السابق حمد آل ثاني، وزوجته موزة، بفوز بلدهما باستضافة الحدث.
تبدأ برّي التقرير بإخبارنا أنّ خريطة العاصمة القطريّة تغيّرت تماماً بفعل التحضيرات لكأس العالم، وذلك ما يحصل تقريباً في أيّ مدينة تستضيف حدثاً رياضياً ضخماً. ثمّ تخبرنا أنّ تغيير خريطة الدوحة كلّف أكثر من أربع مليارات دولار. الرقم لا شكّ كبير، ولكنّه ميزانيّة ضئيلة لحدث رياضيّ من هذا النوع، إن تذكّرنا أنّ أولمبياد سوتشي في الشتاء المنصرم، كلّف روسيا 40 مليار دولار. بعد ذلك، تبدأ المراسلة بتفنيد مراحل ما تصفه بـ'الحرب على الدولة العربيّة الأولى التي تنال حقّ استضافة المونديال'. ومن بين 'العقبات' الموضوعة في طريق الدوحة، تورد برّي 'اتهام الدوحة بممارسة العبوديّة، بارتكاب أعمال سخرة للعاملين المشاركين في بناء ملاعب البطولة'. هنا، لم تلجأ معدّة التقرير إلى الأرشيف، ولم تنتقِ منه أيّة صورة تظهر ظروف عيش العمّال الأجانب في قطر. تلك الصور تهزّ الرأي العالمي منذ أشهر، منذ بادرت صحف عدّة إلى توثيقها، كونها تعدّ إثباتاً على وقوع انتهاكات في قطر، وجدتها المراسلة مجرّد 'عقبة' في طريق الإمارة نحو المجد.
ربما لا يعدّ البتّ بأمر حدوث انتهاكات من اختصاص برّي كصحافيّة، ولكن ليس من اختصاصها أيضاً أن تقرّر ما إذا كانت تهم السخرة والاستعباد تلك، مندرجةً في إطار 'حرب' تهدف لسرقة 'حلم قطر'. لم تلجأ برّي إلى خبير أو محامٍ قادر على تفنيد التهم الموجّهة لقطر، كما أنّها لم تستشر أيّ ناشط في مجال مناهضة العبوديّة الحديثة، لتعطي المشاهد حقّ سماع الرأي الآخر. وفي ذلك استسهال إن لم نقل شيئاً من الكسل، لناحية اختيار زاوية مقاربة تتعمّد تمييع ما تمّ الكشف عنه من قرائن استعباد، تحت أساسات ملاعب كأس العالم في قطر.
كلام 'هايترز'
عندما تشير إحدى الإصدارات المتخصّصة بالميديا، إلى هفوة من هفوات الإعلام اللبناني، يلومها القرّاء على اللجوء إلى تصنيفات معياريّة، من نوع 'غير مهنيّة'. ربما يكون ذلك اللوم في مكانه، إذ أنّ أشكال العمل التلفزيوني تتنوّع كثيراً، ويمكن بالتالي لما يعتبره مطبخ إحدى القنوات لائقاً ومهنياً وذكياً، أن يجده مطبخ الأخرى خارجاً عن المألوف، أو مبتذلاً... وفي النهاية، يمكن للقناتين أن تقدّما في النهاية منتجين مختلفين، لكنّهما يحظيان معاً بإعجاب وانتباه المشاهدين. كما أنّ مقاربة الصناعة التلفزيونيّة في لبنان، لا بدّ أن تأخذ بعين الاعتبار تشابك عدّة عوامل، منها السياسي والمالي والتشريعي، وإهمال بعض المؤسسات للشقّ التدريبي. كلّها عناصر تجعل من الصعب على الإعلام المحلّي تضييق هامش الخطأ، وتعرّض المراسلين لمواقف لا يحسدون عليها، خصوصاً عند وجود خطر أمني، أو خلال ساعات البثّ المباشر الطويلة. كما أنّه لم يعد بالإمكان اختصار تراجع أداء الإعلام اللبناني، بهفوة من هنا أو خطأ من هناك، إذ أنّه نتاج لعقليّة تفتقد إلى الرغبة بـ/أو القدرة على الابتكار والتجديد.
لكنّ بعض الزملاء العاملين في مجال المرئي والمسموع، يفضّلون تأويل النقد بعيداً عن السياق، سواء جاء على لسان مغرّد أو مدوّن أو صحافي أو أكاديمي. هكذا، يردّون على 'كارهيهم'، بالتذكير أنّهم يخوضون غمار الميدان، ويعرّضون أنفسهم للخطر، في حين أنّ 'الهايترز' لا يفعلون ذلك. بعضهم يضع النقد في خانة 'الغيرة'. على اعتبار أنّ الوقوف أمام الكاميرا وإمساك الميكروفون، أمر كفيل بوضع أحدهم على لائحة التميّز المهني، مهما كانت قيمة إنجازاته. ربما من الأفضل لبعض الحسّاسين تجاه النقد، وحسماً لذلك السجال، أن يضعوا 'خرزة زرقاء' في العنق عند كلّ إطلالة على الشاشة، لبقر عيون الحسّاد.
يستحقّ زملاء كثر في التلفزيون، أن تصبّ عليهم كلّ مشاعر الغيرة المهنيّة الممكنة، نظراً لعملهم المتكامل والمتقن، والمبني على جهد واضح سواء في الميدان أو في الكواليس. في المقابل، يستحقّ آخرون السؤال عن أيّ مصادفة غريبة تجعل من عملهم قابلاً للعرض على شاشة قناة يشاهدها الملايين. باتت نشرة الأخبار في أغلب الأحيان، مناسبة لنسف أيّ معيار مهنيّ يجمع عليه أصحاب الخبرة، والأكاديميون المختصّون في الإعلام، والمشاهدون. تكفي مراقبة 'تويتر' أثناء عرض النشرات، حيث يتسابق المتندّرون على تصيّد طرائف بعض المراسلين وغرائبهم، إن لم نقل الأدلّة على عدم أهليّتهم وحاجتهم إلى دورات مكثّفة في الثقافة العامّة، قبل أن يصيروا جاهزين لدورات مكثّفة أخرى في كيفيّة إعداد تقرير إخباريّ.
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد