عمرو عبدالعزيز منير
بخطواته الوئيدة المنتظمة مع إيقاع طبلته، يقطع سكون الليل. يطوف الشوارع والأزقة والحارات بفانوسه الصغير ويمسك طبلة بيده اليسرى، وسيراً من الجلد، أو قطعة من الخشب بيده اليمنى، يدق على الطبلة وقت السحور، ويترنم بأغانٍ مناسبة طوال هذا الشهر، وهو يمر عادة على البيوت، وينادي السكان بأسمائهم طالباً إليهم التأهب للصيام بتناول طعام السحور. وقد جرت العادة على أن يتقاضى أجرةً على هذا العمل من السكان، وأجرته قد تكون عينية من الكعك والفطائر وغيرها، وقد تكون مبلغاً من المال. إنه صاحب مهنة الشهر الواحد: المسحراتي أهم شخصيات هذا الشهر ومن أهم العادات التي تميز بها شهر رمضان الكريم، حيث يقوم بالمرور على البيوت في الحواري والأزقة كي يوقظ الناس وقت السحور بندائه الشهير: &laqascii117o;إصح يا نايم... وحّد الدايم... رمضان كريم"، إلا أن هذه الوظيفة القليل منا يعرف أن جذورها بدأت في مكة المكرمة حيث كان أهلها يعرفون جواز الأكل والشرب بأذان &laqascii117o;بلال" ويعرفون المنع بأذان &laqascii117o;ابن أم مكتوم" وقد جاء في الحديث الشريف :"إن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، وعلى الدوام كانت مآذن المساجد المكان الأثير للتسحير، سواء من طريق أذانين لمؤذّنين يختلف صوتهما اختلافاً بيّناً تأسياً بما كان يحدث في عهد الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) أو من طريق النداء بصيغ خاصة تختلف من بلد إلى آخر. ففي مصر كان المؤذنون في المسجد الجامع ينادون: &laqascii117o;تسحروا وكلوا واشربوا"، ثم يقرأون قوله تعالى: &laqascii117o;يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". ويكررون ذلك مرات عدة، ثم يقرأون قوله تعالى: &laqascii117o;إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً"، إلى قوله تعالى :"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً". ثم يعقبون ذلك بإنشاد القصائد.
وجرى العرف بأن يقوم المؤذنون بالسحر على أربع مرات أو تذكيرات فيقولون في الدور الأول من التذكير: &laqascii117o;أيها النوام قوموا للفلاح/ واذكروا الله الذي أجرى الرياح/ إن جيش الليل قد ولّى وراح/ وتدانى عسكر الصبح ولاح/ اشربوا عجلى قد جاء الصباح". وفي التذكير الثاني يقولون كلهم: &laqascii117o;رضى الله عنكم، كلوا غفر الله لكم، كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً واعملوا صالحاً، كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور".
أما في التذكير الرابع والأخير فيرددون:"اشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح الدعاء في الأسحار مستجاب، اذكروا الله في القعود وفي القيام وارغبوا إلى الله بالدعاء والثناء".
وفي المغرب كان بعض أهله ينفخون في النفير على منارات المساجد سبع مرات، ثم ينفخون في الأبواق سبعاً أو خمساً، فإذا انقطعوا عن ذلك انقطع المتسحرون عن الأكل.
ومع اتساع عمران المدن الإسلامية وتباعد أخطاطها وحاراتها عن المسجد الجامع، فكر المسلمون في التغلب على الصعوبات &laqascii117o;الصوتية" بابتكار أسلوب جديد يعتمد على الضوء الذي يمكن أن يراه أهل أبعد الأحياء ليلاً في يسر وسهولة. وبرزت فكرة فانوس السحور &laqascii117o;الذي يعلق بأعالي المآذن وهو مضاء منذ دخول وقت صلاة المغرب ويظل على ذلك الحال إلى قبيل أذان الفجر، فإذا ما أنزل الفانوس عرف الجميع أن الصوم قد بدأ".
ومن المرجح أن ابتكار فانوس السحور ظهر أولاً في مكة والمدينة، ومنهما انتشر سريعاً إلى كل الأقطار الإسلامية، وتحدث الرحالة المغربي ابن جبير بإسهاب عن هذا الفانوس وكيفية الصعود به إلى أعلى مآذن الحرم المكي خلال زيارته للأراضي المقدسة في رمضان سنة 578هـ.
وحدث في مصر في أوائل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي أن جلس بعض الأدباء بصحن جامع عمرو بن العاص في إحدى ليالي رمضان وقد أوقد فانوس السحور فاقترح بعضهم على الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي المعروف بالنعجة، أن يصنع فيه طلباً لتعجيزه فأنشد:
&laqascii117o;ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه/ ولكنه دون الكواكب لا يسري
ولم أر نجماً قط قبل طلوعه/ إذا غاب ينهي الصائمين عن الفطر".
فعارضه علي بن ظافر مؤكداً أن هذا تعجب لا يصح لأنه والحاضرين رأوا نجوماً لا تدخل تحت الحصر إذا غابت تنهى الصائمين عن الفطر وهي نجوم الصباح فأسرف القوم في تقريعه حتى شحذ قداح فكره وأنشد:
&laqascii117o;هذا لواء سحور يستضاء به/ وعسكر الشهب في الظلماء جرار/
والصائمون جميعاً يهتدون به/ كأنه علم في رأسه نار".
وخارجاً عن التسحير من أعالي المآذن بالنداء الصوتي، أو بأضواء فوانيس السحور، كان البعض يمارس ذلك في الطرقات على سبيل التطوع في بداية الأمر، فيؤثر عن عنبسة بن إسحاق والي مصر في سنة 238هـ / 852م أنه كان يذهب إلى جامع عمرو بن العاص ماشياً من مدينة العسكر وكان ينادي في طريقه بالسحور وكان الأديب ابن نقطة المزكلش المتوفى سنة 597هـ / 1200م، يسحّر الناس منادياً: &laqascii117o;نياماً... قوماً قوماً للسحور".
وكان أهل الإسكندرية تحت تأثير اتصالهم بالمغاربة وكذلك أهل اليمن يمارسون التسحير بدق الأبواب على أصحاب البيوت والمناداة عليهم: &laqascii117o;قوموا كلوا". وكان الشوام يفعلون ذلك بدق الطار وضرب الشبابة والغناء والرقص واللهو واللعب.
ولم يمدنا التاريخ على وجه اليقين متى أصبح التسحير مهنة للبعض يقوم بها لقاء مقابل من أهل البر والإحسان ولكننا نجد &laqascii117o;المسحر"، أو المسحراتي في الكثير من الأقطار العربية والإسلامية.
ولعل أشهر &laqascii117o;المسحرين" في التاريخ ذلك الذي يدعى &laqascii117o;أبا نقطة" والذي ارتبط اسمه بابتكار شعر شعبي يسمى &laqascii117o;القوما" له وزنان مختلفان وكان يسحر به الخليفة العباسي الناصر لدين الله مقابل راتب سنوي.
وقد عرف هذا النوع من الشعر بـ &laqascii117o;القوما" من قول بعض المغنين &laqascii117o;قوما لنسحر قوما"، وعندما توفى أبو نقطة أعقب ولداً صغيراً حاذقاً بنظم &laqascii117o;القوما" فأراد أن يعلم الخليفة بموت أبيه ليأخذ وظيفته فلم يتيسر له ذلك، فانتظر حتى جاء رمضان ووقف في أول ليلة منه مع أتباع والده قرب قصر الخليفة وغنى &laqascii117o;القوما" بصوت رخيم رقيق، فاهتز له الخليفة طرباً، وحين همّ بالانصراف انطلق ابن أبي نقطة ينشد:
&laqascii117o;يا سيد السادات/ لك في الكرم عادات/ أنا ابن أبي نقطة/ تعيش أبي قد مات".
فأعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته وحسن بيانه مع إيجازه، فأحضره وخلع عليه ورتّب له ضعف ما كان لوالده.
ومن طريف ما يذكره المؤرخ أحمد الصاوي أن مهنة &laqascii117o;السحر" لم تكن قصراً على الرجال، إذ عمل بها بعض النساء، وأنشأ في إحداهن الشيخ زين الدين بن الوردي قائلاً:
&laqascii117o;عجبت في رمضان من مسحرة/ بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت/ قامت تسحرنا ليلاً فقلت لها/ كيف السحور وهذي الشمس قد طلعت".
بدأ المسحراتي في الانحسار نتيجة لتوافر أدوات الإيقاظ الحديثة مثل الهاتف والمنبّه وغيرهما، فلم تعد له شعبية إلا في القرى والأحياء الفقيرة وفيها قد يختلف شكل المسحراتي وطريقة أدائه من هنا أو هناك ولكنه بعامة آخذ في الاضمحلال، والزوال، مع زحف إيقاع العصر السريع، على روح الشرق التأملية، لينتقل فانوس المسحراتي وشموعه من مجرد وحدة للإضاءة إلى لعبة يلهو بها الأطفال.
(*) كاتب مصري