قضايا وآراء » الزعم بعدم الفهم منظومة الخلافة الدينية والنظام العربي

جميل مطر
سُئلت في بداية أزمة غزة عن موقف الحكومة الجديدة في مصر إذا تدهورت الأزمة وسقط مئات الضحايا وتكررت المأساة. وقف وراء السؤال شبح الاعتقاد في أن الخصومة الشديدة بين السلطة الجديدة في مصر والسلطة القائمة في غزة، وهي الخصومة المدعومة بمشاعر شعبية غير ودية تجاه تنظيم &laqascii117o;حماس"، سوف تلعب دوراً هاماً في تحديد معالم الموقف المصري من احتدام الصراع المسلح في غزة وحولها. لا عتاب من جانبي يمس كل من لمّح إلى هذه الخصومة وتلك المشاعر، وهو يحاول أن يبرر صعوبة خروج السلطة المصرية عن سياستها التقليدية التي رسم خطوطها الرئيس الأسبق، فالخصومة حقيقة وفاعلة والمشاعر لم تبرد، ولن تبرد، ما بقيت سيناء رهينة في أيدي قوى دينية متطرفة.
توقعت أن لا تحيد السلطة الجديدة في مصر عن موقفها، بل توقعت أن تزداد تمسكاً بهذا الموقف كلما ازدادت الأزمة تدهوراً. قد يحدث تطور بسيط في فترات فتح المعبر، وفي حجم المعونات الإنسانية، وفي الالتزام بدور الطرف المهدئ أو الساعي لهدنة، ولكن ستبقى السلطة المصرية على امتداد الأزمة تحركها أو تجمدها جملة اعتبارات إقليمية استجدت ومخاوف وشكوك لها في الذاكرة ما يبررها، ولها في الواقع المعاصر على امتداد العالم، والشرق الأوسط، ومصر في الداخل، ما يعززها لفترة مقبلة لا تبدو قصيرة. استجدت أمور دولية وإقليمية وداخلية، جميعها من دون استثناء يفرض على سلطة الحكم في مصر، وغيرها من دول المنطقة، الحذر البالغ في كل خطوة تخطوها خارج حدودها، وفي حالات كثيرة، داخل حدودها.
***
لا أحد ينكر، وخاصة المحللين والمستشارين القريبين، نوعاً ما من مواقع القرار في العواصم العربية، أن أكثر الحكام العرب فقدوا الثقة في قدرة الولايات المتحدة الأميركية على تحقيق إنجاز يذكر في تحريك قضية فلسطين في اتجاه إقامة الدولتين أو في أي اتجاه آخر. ناهيك عن سمعة الفشل التي تلتصق الآن بالسياسة الخارجية الأميركية، متأثرة بالسقوط المدوّي للاستراتيجية الأميركية في كل من العراق وأفغانستان، وانفلات الصين في مجال تحديث هياكلها العسكرية وتوسيع نفوذها في آسيا. بالإضافة إلى تطورات الأمور في دول الجوار المشترك للاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي.
أتصور أيضا أنه في القاهرة، كما في عواصم عربية أخرى، تناقصت الثقة في كفاءة الديبلوماسية الثنائية الأميركية الروسية منذ أن سمحت هذه القيادة للأحوال في سوريا بالتدهور إلى حد التسبب في &laqascii117o;فوضى جغرافية"، كتلك التي حاول البريطانيون والفرنسيون تلافي وقوعها بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى. كذلك تناقصت الثقة في الديبلوماسية الثنائية عامة والأميركية خاصة منذ أن بدأ يتضح للمسؤولين العرب أن النية &laqascii117o;الدولية" تتجه إلى تشجيع لاعبين من غير العرب، على لعب أدوار، فشلت الدول العربية في أن تقوم بها. من ناحية أخرى، لم يكن غائبا عن ذهن &laqascii117o;الحاكم العربي" أن الدول الكبرى في أوروبا الغربية ما زالت عازمة على ممارسة هوايتها المفضلة، ألا وهي التسابق على أسواق وتحقيق مصالح فردية، رافضة أن تستثمر قوتها الاقتصادية والثقافية في خلق وزن مؤثر في السياسة الدولية وخاصة في الشرق الأوسط.
هذه الحالة الدولية لا تشجع سلطة عربية للمجازفة بتوظيف إمكاناتها المتواضعة، من أجل تحريك أو تهدئة أزمة خارج حدودها، إذا تيقنت من أنها لن تجد الغطاء الدولي المناسب إذا احتاجت إليه خلال وساطتها أو تدخلها. صار مألوفاً أن تتردد على لسان أكثر من مسؤول أو شخص قريب من المسؤولين والعواصم العربية عبارة أننا لم نعد نفهم السياسة الخارجية الأميركية وما زلنا في الوقت نفسه نفتقر إلى الثقة في السياسات الخارجية للدول الأوروبية كل على حدة أو كلها مجتمعة، ولن تجتمع.
***
لم يعد الرأي العام في حاجة لعالم سياسة أو خبير في تخصص الأنساق الدولية والإقليمية ليعرف أن النظام الإقليمي العربي دخل بكل مكوّناته في طريق الأزمة المستحكمة ذات الاتجاه الواحد. بمكونات النظام العربي، أقصد سياسات الدول الأعضاء وأوضاعها الداخلية. أقصد أيضا، إمكاناته وقدراته الكلية والقطرية وتحالفات الأعضاء وعلاقاتهم بعضهم ببعض. كذلك أقصد حالة &laqascii117o;عقيدته" السياسية والفكرية المحركة لشبابه وعقوله. هذه المكونات جميعها دخلت طريق الأزمة المستعصية، ومعها بطبيعة الحال أزمة النظام الإقليمي كله. من علامات الأزمة المستعصية هذه الحالة الغريبة التي يعيشها النظام، حيث ينتقل متدرجاً أحياناً، وفي قفزات أحياناً أخرى، تحت عيون قياداته الرسمية، والنخب السياسية والفكرية، من نظام إقليمي عماده الدولة القطرية ذات السيادة، إلى نظام إقليمي عماده الجماعة المتطرفة دينيا، عابرة الحدود أو غير العابئة بالحدود، جماعة أو جماعات تجهر بأنها ضد الدولة في كل خياراتها وأشكالها ومع الخلافة، أي ضد الأنساق الدولية والإقليمية المتعارف عليها، ومنها النظام الدولي والنظام الإقليمي العربي.
نعرف ما تعرفه جيدا القيادات الأكبر التي تعهدت تنفيذ مشروع الخلافة، وتعرفه القيادات الأصغر التي تعهدت تنفيذ أهداف أقل شأنا. نعرف جميعا أن المعارك الأهم التي تستعد لها هذه الجماعة أو الجماعات خلال السنوات العديدة المقبلة لا تتضمن معركة مع &laqascii117o;إسرائيل" أو قوى الهيمنة الغربية، أو مع الصين وروسيا، المعركة الأهم، وقد بدأت، هي مع النظام الإقليمي العربي. أما وقد بدأت المعركة فسيكون من الصعوبة بمكان إقناع حكومات في الدول العربية بأن تقبل طواعية أن تنشغل بقضية أخرى، قومية أو دولية، تجذب انتباهها بعيدا عن زحف جيوش الخلافة وخطر سقوط الدولة وعواقب انهيار النظام الإقليمي العربي.
لا يسعدني أن أعترف بأن في القاهرة كثيراً من النافذين الحائرين بين توصيف &laqascii117o;حماس" كحركة مقاومة مندرجة في منظومة القوى التي اعترف بها وساندها النظام الإقليمي العربي على امتداد تاريخه، أم أنها طليعة من طلائع جيوش الخلافة الزاحفة نحو العواصم لاحتلالها وتدمير رموز وهياكل السلطة فيها، كخطوة أساسية نحو هدف إسقاط الدولة القطرية العربية.
الأزمة الراهنة في النظام الإقليمي العربي هيكلية وربما وجودية، بمعنى &laqascii117o;يكون النظام أو لا يكون". لقد استطاع النظام العربي على امتداد حياته أن يتعايش مع وجود إسرائيل، حرباً أم سلماً. شكلت إسرائيل تهديداً لعقيدته وأمنه وطموحاته في التنمية والاستقلال، ولكنها لم تهدد كل مكوناته دفعة واحدة، ولم تمثل في أي وقت خطراً على وجوده. كان يمكن نظرياً على الأقل، أن يستمر وجود النظام الإقليمي العربي، مع استمرار الوجود الصهيوني، متوسعاً أو منكمشاً، ولكن من غير الممكن، حتى على المستوى النظري، استمرار النظام العربي بشكله وهيكله الراهن مع منظومة خلافة دينية، تنفي بوجودها الحاجة للآخر.
***
هذه الحيرة التي أمسكت بتلابيب العقل الرسمي العربي تجاه &laqascii117o;المقاومة" بمعناها الحماسي هي السبب في كل ما يثار من أسئلة حول موقف مصر تحديدا، ومواقف بقية الدول العربية ودول أجنبية عديدة، بل حول التغييرات الملموسة في مشاعر قطاعات مهمة في الرأي العام العربي. ظلم فادح وجريمة لا تغتفر أن يموت المئات ويصاب الألوف وتخرب غزة ولا يخرج من تحت دخان القنابل والحرائق من يزيل هذه الحيرة الجاثمة في عقول وقلوب عرب كثيرين وهذا التردد الذي كاد يشل حركة حكومات عربية وإسلامية عديدة. تستطيع حماس أن تزيل بعض الحيرة إذا قدمت الدليل على أنها حريصة على دعم مبدأ الدولة كأساس في التنظيم الإقليمي في الحال والمستقبل، والدليل على أنها ليست ولن تكون جزءا من مشروع خلافة أقسمت قياداته على تدمير هياكل النظام الإقليمي العربي وبخاصة الدولة القطرية، كهدف أول وعاجل يسبق أي هدف آخر.
كان هذا جانبا واحدا من جوانب الأزمة الراهنة، وهو ما يتعلق بدور لـ&laqascii117o;حماس" لا يمكن تجاهله وإن أمكن التغاضي عنه مؤقتا لحين انفراج الأزمة وبدء محاسبة مختلف أطرافها على إنجازات تحققت أو مصائب تراكمت. أما الجانب الآخر، فيتعلق بالحالة البائسة التي يعيشها النظام الاقليمي العربي بمختلف مكوناته، كالعروبة، ومؤسساته، كمجلس جامعة الدول العربية، باعتباره الجهاز الأعظم المسؤول عن العمل العربي المشترك. أعود فأكرر أن هذه الحالة البائسة إنما هي انعكاس أخف لحالة أشد بؤساً تعيشها أغلب حكومات الدول العربية، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالوضع غير المتوازن في القوة بينها وبين إسرائيل، من جهة، وبينها وبين دول إقليمية أخرى من جهة ثانية.
سمعت من يقول إن الوضع العربي يزداد سوءا، ودليلهم أن المزايدين على مصر من الدول العربية اختفوا من الساحة، وهو ما يعني زيادة في الطلب على مصر في وقت لم تكد تخطو حكومتها الخطوة الأولى نحو طريق النهوض. ولن تكون الخطوات المقبلة أقل صعوبة. لا أستبعد، مع ذلك، أن يختار النظام الجديد أن تكون إحدى مهماته الحيوية الإقدام على إزالة الصدأ الذي تراكم على منظومة السياسة الخارجية منذ أن دخلت مصر قبل أربعين عاما في علاقات واتفاقات غير متوازنة مع إسرائيل لتحقيق هدفين: أولهما تحقيق سلام شامل في المنطقة، والثاني الانطلاق بمصر نحو نهضة حضارية.
لم يتحقق السلام الشامل ولم تنهض مصر.

تنشر بالتزامن مع &laqascii117o;الشروق" المصرية
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد