السيد هاشم صفي الدين(*)
الكلمة الطيبة قبل أن تكون حروفاً ومعانيَ، هي هداية وأنوار تخرق حجاب القلب، فتستقر في أصول الفطرة، وتنبت في ربوع التوحيد، وتنفرج عن حقائق ومعارف تتكاثر، وتنمو فروعاً، لا يتسع لها المكان، ولا يقف عطاؤها عند حد، ويطيب جناها ذكراً يأبى التلاشي، ويزهر ثمرها فوحاً ونسيماً وعطراً ألطف من الزمن، وأرق من خواطر الفكر، لتشق طريقها في مسارب الحياة، متعاظمة ومتجددة مع كل جديد، فكأنها تنبعث للتو. فلا تبلى مع الأبدان ولا تطوى في صفحات التاريخ وقساوة أيامه ووقائعه، بل ان القهر والإجحاف والتنكر يزيدها اختماراً بقدر اندماجها مع الحق والإخلاص، وبمستوى قدرتها على غزل الفكر والروح والعلم والأدب والجمال والفن، لتحوك من هذا كله سمواً يشتد جلاء وسطوعاً.
هؤلاء هم الطيبون المتأصلون والمتجذرون في منابت المعرفة والإخلاص، لا ينتهون ولا يقفون عند حدود لقائهم لربهم، والتحاقهم بمعشوقهم حين يحققون غاياتهم وأمانيهم، فيسعدون في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إنهم العلماء الربانيون. بهم استقام أمر الدِّين، وعلى أيديهم حفظت الشريعة، وانتصبت أعلام الإيمان ورايات الحق والاصلاح.
واذا كان لجبل عامل حظ وافر من هؤلاء الأفذاذ، فإن علامتنا المقدس السيد محمد رضا فضل الله هو أحد هؤلاء الأعلام العامليين الذين شاءت الأقدار، وسنن إظهار وجه الحقيقة، أن نتعرف على بعضٍ من مكنون علمه الغزير، وأدبه الوافر، وفرادة قلمه بعد مضي قرن كامل.
من الضروري الإشارة الى الظروف السياسية والاجتماعية والمعيشية التي رافقت مرحلة حياة هذا الرجل وعطائه، فكانت صعبة وشائكة وضاغطة ومعاكسة، تقتضي انصراف العلماء في جبل عامل الى أولويات وهموم ومشاغل، تفرض التقوقع والانكفاء نتيجة الظلم المتلاحق الذي ما غادرهم يوماً أبداً في ظل متغيرات فكرية وسياسية وإرهاصات الحروب الكونية، إيذاناً بتبدل خريطة المنطقة لحساب مصالح الدول الكبرى، ففي مثل هذه الظروف نرى السيد محمد رضا حاضراً في مجالات عدة ومهمة، مثبتاً فضائله وفارضاً لخصوصياته، ومقتحماً لساحات ذهل عنها كثيرون، وهذا ما يجعلنا نحتار أمام قدرة أمثاله على الابتكار والتميز.
ومن خلال مراجعة ما نُشر وكُتب وعُلم عن حياته سأتوقف عند ما يلي:
1- في العلم: من خلال التأمل في مساره العلمي في إطار العائلة والأساتذة في لبنان وخارجه، يمكن ان نضع أيدينا على المستوى العلمي الراقي الذي عاش في ظله، فإذا انضم الى هذا كله ذكاؤه الوقاد وإخلاصه الصافي وقريحته المتفتقة، فإنه مدعاة لإنتاج فاخر من الطراز الرفيع الذي يحضر قوياً في مصنفاته القليلة التي سلمت ووصلت إلينا.
وسأكتفي في هذا المجال بالتوقف عند الكتاب الذي نُشر تحت عنوان &laqascii117o;الإمامة" لنعرف بسهولة أننا أمام شخصية ممتلئة ومشبعة بالمعارف والعلوم النقلية والعقلية، فطريقة الاستدلال التي اعتمدها تعتبر فريدة في إحكامها، حيث قدم لمقصوده بذكر عدد كبير من الآيات القرآنية، واستخلص مضامينها وغاياتها بحذاقة، ليُحكم عراها بالعقل والحكمة والفلسفة والنظام العام وسيرة العقلاء والأمراء، فينتج من رصف المقدمات ومحاكاتها للبديهيات ببراعة الوصول الى مراده في إثبات لا بدية وحتمية الإمامة ودورها وموقعها الديني، كأصل ديني وقرآني، يُغني الدليل عن كثيرِ الحاجة لسلوك الطرق التقليدية المتبعة في تحقيق مسألة عقائدية وتاريخية ومفصلية، وأظن أن هذا النمط غير مسبوق، وأظن أن كتاباً كهذا جدير بالاعتماد عليه درساً وبحثاً في الحوزات والمعاهد العلمية، ثم ان هذا التعمق وملاحقة الموضوع من زوايا عدة، يؤسس لمنهجية علمية نراها جلية في مختلف أبحاثه، وقاعدة متينة تبنى عليها نتائج جليلة، كمعالجته لموضوع الاجتهاد والعلماء وأدوارهم تأسيساً على فهم واسع وممتد لموضوعة الإمامة.
2- في السلوك والعرفان: انصبّت اهتماماته على غايات روحية وإيمانية، فتحلى ببصيرة متيقظة أعانته على معالجة أدق وأخطر المسائل الأخلاقية والحكمية، وما يرتبط منها بتهذيب النفس في كتابه &laqascii117o;ميزان العدل" (السمكية) الذي يفصح عن غور عميق وفهم دقيق وتجربة صادقة في سَوق النفس نحو التقوى والقناعة والزهد والتطلع دوماً الى ما بعد الموت، وقد أعانه في ذلك حسن بيانه وعذب كلامه في تنضيد المعنى وإفاضة النفس عما يختلج فيها وما يساورها، وسأكتفي بذكر مقطع واحد حين يقول:
&laqascii117o; ويحكِ يا نفس، هذا عقلك أطفأ مصابيحَه حبُ الشهوات، وتراكمت عليها من الوساوس الظلماتُ، وفكركِ كَلَّ من الخوض في مذاهب الدنيا بخائبه، وأظلمت عليه الى الآخرة مذاهبه، ووهمكِ لا إيابَ لشارده، ولا ريَّ لوارده، وخيالك على تكرر الآناء يخبط العشواء ويتسنم الظلماء".
3 ـ في الأدب: حين تأملت في ما نشر له من مؤلفات علمية أو شعرية أو رسائل متعددة، أدركت انه والبيان صنوان، فالبلاغة العالية والفصاحة البينة، أشربتا في مطالبه العلمية المتخصصة. فهـو صاحـب قلم لا يجـري إلا وزناً وإيقاعاً، فاضـاف الى إحكـام العقل وتراصه، متانة التعبير وجماله. فلا يكاد يَخرج من جعبته إلا اللآلئ الفاخرة مع مقدرة نادرة على الجمع بين فنون الكلام وأساليبه. ففي موضوع واحد ينقلك من شعر مسبوك وافر وغزير على طريقة المتنبي أو ابو العتاهية الى نثر مسجوع تتلاطم فيه المعاني ازدحاماً والألفاظ فرادة على طريقة نهج البلاغة لسيد البلغاء، فترى في كلامه أنساً وجذباً واتساقاً وانسياباً، يحبب إليك المعنى ويربطك بالمقصد، وتشعر معه أنه قادر على الاستمرار الى ما شاء الله. لأن أدبه اتكأ على مخزون علمه وثقافته الغنية والواسعة:
ليس بيانه عجيباً لأمثاله، اذ وجدته ثاوياً في العلم عند محرابه
يلثم من رحيق نشوه ما صفى يُخرج من فم عقله سحر رضابه
يلوي الحرف أشكالاً لمراده يغزل المعنى فيضاً في سبك جوابه.
لله دره في جمع ما بان وخفي كأنه سلطان الكلام في ذهابه وإيابه
4ـ في دور الفقهاء والعلماء: لقد كوّن هذا العالم الرباني فهماً متقدماً وتشخيصاً كاملاً وصائباً لدور ووظيفة الفقهاء والعلماء في زمن الغيبة الكبرى، متجاوزاً في ذلك الطابع التقليدي الذي ساد في مراحل وأجواء، حشرت دور العلماء في زوايا محدودة واستند في رؤيته الى إدراكه الواسع بضرورة حفظ الشريعة، بالاجتهاد والتبحر منضمين الى التقوى وسلامة النفس والإعراض عن الدنيا. وأن يجسد العالم القدوة للعمل والهداية، وهذا بحد ذاته يتطلب تصدياً وحضوراً في المجتمع وبين الناس، لبيان الحكم الشرعي، ومواجهة الفساد، والظلم والحيف ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكلها بنظره تعبر عن الوظيفة المتكاملة التي لا تقبل التفكيك. كما ان النكوص والتراجع عن هذه المسؤولية سيكون سبباً لشيوع البدع وهيمنة الظالمين وتمزق الأمة وضياعها. إن هذا الفهم يعد سباقاً وقادراً على مواكبة التحديات التي لا تجيز للعالم ان يقف منها وفيها موقف الحياد والمراقب فحسب.
5- الوعي والمواقف: أهل جبل عامل في تلك الحقبة فقراء ومعدمو الحال. تتالت عليهم النكبات والمجازر، وأُريد لهم ان يقبعوا في زاوية معتمة من زوايا التاريخ وظلمه وقسوته. ولم يكن لهم حظ في السلطة، ولا مكانة أو اعتراف لهم بحقوقهم ولا بأدوارهم، ولم تكن آنذاك وسائل اتصال وإعلام، السائد عندهم هو القهر والجوع والأوجاع. يتخطَّفهم السلاطين والأمراء لسبب أو من دون سبب، ففي مثل هذه الأحوال القاسية اقتحمت العالم العربي والإسلامي مشاريع الاستعمار والهيمنة والاحتلال، وفي مثل هذه الأجواء يتوجه العلامة محمد رضا فضل الله برسالة الى السلطة العثمانية مستنهضاً وصارخاً بوجه الاحتلال الايطالي لليبيا، ومحذراً من التهاون ومخاطره على الأمة ووحدتها ومنبهاً الى الغرب وأطماعه:
&laqascii117o;فنهضاً يا ليوث العرب نهضاً لنا قد اضمرت شراً أوروبا".
أليس من حقنا ان نسأل: ما شأن عالم في جبل عامل بما يجري في ليبيا، بل لنا أن نسأل: كيف عرف طبيعة المخطط الاستعماري آنذاك؟ وهل كان سلاطين الدولة العثمانية الغارقون بظلمهم لجبل عامل قد سمعوا باسم هذا السيد الجليل؟
نحن أمام مشهد عظيم من مشاهد الوعي المبكر والتعالي والتضحية من أجل الأمة ووحدتها، ففي الوقت الذي استشهد فيه أخوه على أيدي الأتراك، كما أعدموا ابن عمه وكثيرين من أهله وأحبائه، فإنه يهب لنجدة الأمة ووحدتها...
هذا هو خطاب المقاومة اليوم، وهذه هي جذورها المتأصلة، وهذا هو التاريخ الذي يحكي علماءنا الأطهار، وينعكس في مرآة واقعنا مقاومة صادقة في انتمائها بالعلم والادب والشجاعة والتضحية والوعي والوحدة. فمقاومتنا اليوم على صورة العالم الرباني، هي مقاومة العلم والوعي والحكمة، وتحمُّل المسؤولية بوجه المتربصين بالأمة شراً، سواء كانوا صهاينة أو استكبارا غربيا أو ممَّن أعمى الله قلوبهم، وأعشى أبصارهم، وسد نوافذ عقولهم، فجعلهم يداً بأيدي أعدائهم يحركونهم لأهوائهم يشتدون على من أراد بها شراً وتفتيتاً وتقسيماً...
(*) رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله
المصدر: صحيفة السفير