عروبة عثمان
بعد ضغوط وهجوم من كل حدب وصوب، نشرت جريدة «الحياة الجديدة» (رام الله) الفلسطينية أمس بياناً اعتذرت فيه عن نشرها رسمة لفنان الكاريكاتور محمد سباعنة يوم الأحد الماضي. وجاء في البيان أنّها «تنفي بشكل قاطع أي شبهة أو تفسير يحاول التقريب بين الرسم المنشور وتجسيد صور الأنبياء والرسل». وتابعت أنّها «شكلت لجنة للتحقق من الرسم المنشور الذي وقع في شبهة التفسير»، مؤكدةً أنّ «مقاصد الكاريكاتور لحظة النشر كانت تهدف إلى الدفاع عن الأديان ورسالة المحبة والسلام».
منذ الأحد الماضي، تتفاعل هذه القضية على الساحة الإعلامية والسياسية الفلسطينية، فيما كان محمد سباعنة في مرمى «النيران» العشوائية. ويبدو أنّ حمّى الإسلاموفوبيا التي تصاعدت في الغرب بعد حادثة «شارلي إيبدو»، قابلتها هستيريا دينية ضربت العالم العربي وأوجدت «تابوهات» دينية جديدة، بعدما أصابت حرية الرأي والتعبير في مقتل. رسام الكاريكاتور الشهير والأسير السابق محمد سباعنة (جنين ـــ 1978) كان أهم ضحايا تلك الهستيريا الهوجاء. إذ اهتاجت غالبية الأوساط الصحافية والعامة الفلسطينية على كاريكاتور رسمه سباعنة، ونشرته صحيفة «الحياة الجديدة» الأحد الماضي. وكان سباعنة قد جسّد شخصاً محاطاً بهالة من النور يقف فوق الكرة الأرضية ويحمل قلباً نابضاً بالحب وينثر بذور التسامح.
ورغم أنّ الكاريكاتور لا لبث في مدلوله، غير أنّ كثيرين راقت لهم مصارعة طواحين الهواء والعزف على وتر المقدّسات. هكذا، استعرضوا عضلاتهم في الدفاع الزائف عن الرسول محمد، جاعلين من رسومات صحيفة «شارلي إيبدو» معادلاً موضوعياً لكاريكاتور سباعنة، رغم أن البون الشاسع بين الحالتين. آخرون تعلّقوا بقشّة الفتاوى التي أصدرها «مجمع الفقه الإسلامي الدولي» أخيراً، وقضت بـ «حُرمة تخييل شخص الرسول عليه السلام بالصور سواء كانت مرسومة أو متحرّكة أو ثابتة، ومنع وزارات الإعلام وأصحاب وسائل النشر من تصويره في الروايات والمسرحيات والأفلام والتلفاز والسينما وغيرها».
وعلى الرغم من أنّ سباعنة آثر ألا يقع رهينةً لثنائية الهجوم والهجوم المضاد بين العالمين العربي والغربي بعد مذبحة «شارلي إيبدو»، فلجأ في رسمته إلى المنطق الدفاعي عن الرسول بدلاً من الهجومي أو الاعتذاري، غير أن ذلك لم يشفع له عند بعض الصحافيين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي. اتهمه هؤلاء بـ»الكفر والخروج عن تعاليم الدين الإسلامي». كما انكبّ بعض الصحافيين على تأجيج الموقف وخدش صورة رسام الكاريكاتور المعروف بمواقفه الوطنية الصلبة.
وحاول سباعنة أن يخمد البركان الذي انفجر سريعاً في الإعلامين التقليدي والبديل بعد نشر كاريكاتوره. كتب على حسابه على الفايسبوك: «أرفض ما يتناقله بعضهم بأن الكاريكاتور يحمل تمثيلاً للرسول. الشخص هو تمثيل للمسلم الذي يتّبع رسالة سيدنا محمد. أما النور المحيط، فهو نوره والخير المنثور هو السلام». المثير للسخرية أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس دخل المعركة الساخنة، فاتحاً باباً جديداً من السجال العنيف. إذ أعلنت وكالة «وفا» الرسمية مساء أول من أمس «أمر الرئيس بإجراء تحقيق فوري في نشر رسم كاريكاتوري عن النبي محمد في صحيفة «الحياة الجديدة». ويبدو أنّ الجلبة الكبيرة التي صاحبت قضية سباعنة دفعت عباس إلى إمساكه بعصا التهديد والوعيد، والخروج استباقياً بحكم غير قانوني يضع حرية الرأي والتعبير على المحكّ. نقلت «وفا» عنه: «أكد سيادته ضرورة اتخاذ إجراءات رادعة بحق المتسبب بهذا الخطأ الفادح، مشدّداً على احترام الرموز الدينية المقدّسة، وفي مقدمها أشخاص الأنبياء والمرسلين».
عباس الذي تقدّم مسيرة باريس التاريخية إلى جوار رئيسي الوزراء الفرنسي والإسرائيلي بعد حادثة «شارلي إيبدو» بحجّة الدفاع عن الحريات، ضاق ذرعاً بكاريكاتور سباعنة الذي حاول بالطاقات الفنيّة التي يملكها الابتعاد من السعار الديني الذي لحق الحادثة، ونسج هويته الخاصة في الدفاع عن الرسول. هكذا، تطفو هذه الازدواجية التي حكمت الرئيس المعروف بـ»كرزاي فلسطين» على السطح كدليل إضافي على تجزئة الحرية في عرف عباس والسلطة التي لطالما أهانت كل «المقدّسات» بتقديم العزاء لقتلى العدو الإسرائيلي! وسط هذه العبثية السياسية وامتطاء الدين، جاء الرد القاطع على لسان سباعنة الذي قال: «أمام أيّ لجنة تحقيق... أنا أحب هذا البلد».
المصدر: جريدة الاخبار