تتواصل معارك الحصول على الحريات الصحفية والإعلامية في السودان، والتي عادةً ما تأتي في مراتب متأخرة في قوائم المنظمات المعنية برصد ومتابعة مستويات الحريات في مجالات الإعلام والصحافة، فيما يعد الصحفيون الحلقة الأضعف في الصراع بين المؤسسات الصحفية والإعلامية وبين أجهزة الدولة، التي تشير اتجاهات عديدة إلى أنها تسعى دائمًا إلى بسط نفوذها على وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، لدرجة تؤدي في كثير من الأحيان إلى تكريس ظاهرة 'الرقابة الذاتية' باعتبارها إحدي السمات الرئيسية في المشهد الصحفي والإعلامي في السودان.
إذ تلجأ الأجهزة الأمنية، من فترة لأخرى، إلى مصادرة أو تعليق إصدار الصحف من دون إبداء أي أسباب، وهو الأمر الذي يدفع الصحفيين والمؤسسات الصحفية، في كثير من الأحيان، إلى عدم تناول بعض القضايا الشائكة بهدف تجنب الخسارة المالية الناتجة عن مصادرة أعداد أو تعليق الإصدار لفترة محددة أو مفتوحة في ظل الأزمات المالية التي تعانيها بالأساس المؤسسات الإعلامية في السودان.
تقييد مستمرتستند الأجهزة المعنية في تبرير الإجراءات التي تتخذها ضد وسائل الإعلام إلى اتهامها بنشر وترويج أخبار من شأنها المساس بالأمن القومي للبلاد، فعلى سبيل المثال قامت تلك الأجهزة، في 25 مايو 2015، بمصادرة 10 صحف يومية مستقلة بعد طباعتها وهي صحف: 'السوداني' و'الجريدة' و'آخر لحظة' و'الانتباهة' و'الرأي العام' و'ألوان' و'التيار' و'الخرطوم' و'اليوم التالي' و'الأخبار'، وتعليق صدور 4 صحف إلى أجل غير مسمي، وهي صحف: 'الجريدة' و'آخر لحظة' و'الخرطوم' و'الانتباهة'، فيما لم توضح السلطات أسباب المصادرة وتعليق الصدور، وهى المرة الثانية خلال ثلاثة أشهر التي تقوم فيها أجهزة الدولة بمصادرة بعض الصحف.
وقد فسرت اتجاهات عديدة تلك الإجراءات في ضوء نشر تلك الصحف أخبارًا عن حالات تحرش جنسي واغتصاب لأطفال في حافلات المدارس، فضلا عن تصريحات للمقررة الخاصة للأمم المتحدة حول العنف ضد المرأة رشيدة مانجو وجهت فيها انتقادات قوية للسلطات السودانية.
وقد ألقى تقرير منظمة صحفيون لحقوق الإنسان 'جهر'، والذي صدر في 3 مايو 2015، الضوءَ على الإجراءات التي تتخذها أجهزة الدولة ضد الصحف والصحفيين في السودان خلال الفترة من 3 مايو 2014 إلى 2 مايو 2015، إذ رصد التقرير 52 حالة مصادرة ومنع صدور اتخذت بحق الصحف، كان من بينها 14 حالة مصادرة صحف خلال يوم واحد في 16 فبراير 2015، بالإضافة إلى 34 حالة اعتقال وتوقيف واستدعاء وتحقيق، منها 13 حالة اعتداء على صحفيين تمت عن طريق الشرطة.
كما أكد التقرير على أن أجهزة الأمن تقوم باستخدام تقنيات عالية لاختراق بعض المواقع الإلكترونية الإعلامية، وأنه تم بالفعل اختراق 4 مواقع إلكترونية. وأشار أيضًا إلى أن بعض الصحفيين يقوموا بإنتاج مواد إعلامية مهنية لا تجد طريقها إلى النشر في وسائل الإعلام المحلية بسبب الرقابة الذاتية التي تحول دون وصولها إلى القراء.
وقد ساهمت الانتهاكات التي تُمارس بحق الصحافة والصحفيين بشكل عام في السودان في تأخر ترتيبها بين الدول فيما يخص حرية الصحافة. فعلى سبيل المثال، جاء ترتيب السودان في المرتبة الـ172 من بين 180 دولة شملها التقرير الصادر عن منظمة 'مراسلون بلا حدود' في الترتيب العالمي لحرية الصحافة لعام 2014 الذي نشرته المنظمة على موقعها الإلكتروني خلال فبراير 2015، ويعتمد هذا الترتيب على سبعة محددات هي: مستوى الانتهاكات التي تمارس بحق الصحافة والصحفيين، ومدى التعددية التي تشهدها الدولة، واستقلالية وسائل الإعلام عن نظام الحكم والمؤسسات الحكومية، ومدى الرقابة الذاتية التي تمارس تلقائيًّا من قبل الصحفيين أنفسهم، والإطار القانوني، والشفافية، والبنية التحتية للمؤسسات الصحفية.
ضغوط متعددةتحولت الرقابة القبلية والذاتية إلى إحدى أهم المشكلات والقيود التي تُواجه حرية الصحافة في السودان، حيث بات محظورًا على الصحف المختلفة تناول قضايا الفساد والإصلاح السياسي، والقصور في الأداء الحكومي، وغيرها من القضايا التي تمس الأمن القومي للبلاد بحسب القائمين على هذا النوع من الرقابة داخل الأجهزة المختلفة، بشكل أصبح يستدعي وجود مندوب لها في كل إصدار صحفي للاطلاع على المواد المنشورة قبل النشر والتوزيع.
وقد تسبب انتشار ظاهرة الرقابة القبلية والذاتية فضلا عن الإجراءات التي تتخذها أجهزة الدولة ضد بعض الصحفيين، في زيادة معدلات هجرة الصحفيين السودانيين إلى الخارج، وهو ما أشار إليه تقرير 'جهر'، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي تُواجهها الدولة، والتي فرضت تداعيات عديدة على فرص العمل بشكل عام، وعلى اقتصادات صناعة الصحافة بشكل خاص، بما فيها أسعار خامات الطباعة، والضرائب، والجمارك، في وقت تحتكر فيه الحكومة السودانية صناعة الإعلان التي تعد مصدر التمويل الأول والأساسي لصناعة الإعلام، وفي القلب منها الصحافة.
ومن دون شك، فإن الجهود الحثيثة التي تبذلها الدولة من أجل احتكار صناعة الإعلان إنما تأتي في إطار استخدام الإعلان لفرض ضغوط قوية على الصحف المختلفة، بهدف التأثير على استقلاليتها ودفعها إلى تبني سياسة مهادنة للسلطة للحصول على حصة من الإعلانات، وبالتالي توفير مورد أساسي لمواصلة عملها، بشكل يوحي في النهاية بأن الصحافة في السودان باتت تواجه أزمات مستعصية لا يبدو أنها سوف تتمكن من التعامل مع تداعياتها بشكل إيجابي خلال الفترة القادمة.
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية