حسن السوسي
تقدم الدول، بين الفينة والأخرى، على الإفراج عن وثائق ظلت مصنفة لديها ضمن خانة أسرار الدولة لفترة من الزمن، خاضعة في قصرها وطولها للأهمية التي تكتسيها الوقائع التي ترتبط بها تلك الوثائق ومدى تأثيرها على حاضر او مستقبل او صورة الدولة لدى الرأي العام المحلي او الإقليمي والدولي.
وما ان يتم اتخاذ هذا القرار حتى يسارع الكتاب وبعض المحللين السياسيين علاوة على المؤرخين الى تقليب صفحات تلك الوثائق بحثاً عن الجديد او السبق في مجال البحث والتحري، كما لو انهم وقعوا على كنز لا يفنى من المعلومات والمعطيات والحقائق التي لا يأتيها الباطل من أي جانب. وتعتبر بعض الصحف والدوريات السياسية أنها وجدت ضالتها والحقيقة التي تبحث عنها والراغبة في تقديمها الى القراء كبشرى وكفتح جديد في مجال التاريخ او السياسة او غيرها من المجالات التي تعرضت لها تلك الوثائق.
غير ان الإمعان بعض الشيء في هذه المسألة يؤدي بالضرورة الى تحجيم والحد من قوة العواطف المرتبطة بتلك الوقائع التي تختزنها بين فقراتها في شكل مباشر او غير مباشر والدفع بالأمور الى نوع من التروي وأخذ العبر إيجاباً او سلباً.
صحيح ان الحقيقة في جوهرها واحدة، من حيث المبدأ، كما يقال. غير ان لكل دولة حقائقها، في الزمان والمكان المحددين. وتعدد حقائق الدول والقوى الإقليمية والدولية هو الذي يدفعها الى الكشف عند حدوث الأحداث السياسية او الاستراتيجية المهمة عن حقيقة تعتبرها راهنة، لأنها تخدم مشروعها السياسي والاستراتيجي تجاه قضايا الواقع ومستجداته، بينما ترجئ الكشف عن حقائق اخرى لا تعود عليها بأي فائدة او يمكن ان تضر بمصالحها، وتخفيها بالتالي في دهاليز أرشيفها السري لعشرات السنين، بحسب تقدير تلك الدول.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، على المحلل السياسي او الاستراتيجي، يدور حول ما اذا كان ما سيتم الكشف عنه ورفع السرية عنه من وثائق، بعد فترة محددة، يمثل الحقيقة الموضوعية بالنسبة الى القضايا التي تغطيها تلك الوثائق، وبالطريقة التي غطتها بها، ام انها ليست غير الحقيقة التي ترغب الدول والقوى المعنية في ان يتعامل معها الرأي العام الوطني او الدولي كما لو كانت الحقيقة بعينها؟ وهو أمر ليس من السهل تصديقه، بنسب عالية على أقل تقدير، لأن الكتمان جزء لا يتجزأ من ممارسات الدول والقوى السياسية في مختلف الأزمان والأمكنة، وليس بإمكان اي كان الجزم والبرهنة على ان الحقيقة التي أعلنتها الوثائق السرية المفرج عنها تمثل الترجمة الحقيقية للأحداث التي تغطيها. اذ ليس مستحيلاً ان تكون صياغة الوثائق السرية قد أنجزت، أصلاً، في ضوء تصورات محددة لدى الدول المعنية لما ستكون عليه الأوضاع بعد ثلاثين او أربعين سنة. كما انه ليس بعيداً ان تتصرف الأنظمة بتلك الوثائق لإخراجها الى العلن بالطريقة التي ترغب فيها لتكون قادرة على خدمة أهدافها.
وبهذا المعنى، يبدو انه لا يستقيم تحليل اي وثيقة إقليمية او دولية يتم رفع السرية عنها، من دون أخذ الاحتياط الضروري الذي تمليه قواعد البحث المنهجي وشروط المقاربة السياسية، لأن الجهة التي صنفت تلك الوثائق ضمن خانة ما هو من اسرار الدولة هي الجهة التي قررت رفع السرية عنها وتقديمها للجمهور بعد مضي فترة زمنية محددة على الوقائع التي تغطيها.
والواقع ان الإجراءين معاً خضعا لمحددات وعوامل تكتيكية واستراتيجية مرتبطة أساساً بخدمة المصالح العليا للدولة. إذ من السذاجة ان يتم التعامل مع تلك الوثائق باعتبارها برهاناً على كذب الدولة وليّها عنق الحقائق في السابق، وأن الإفراج عنها نوع من النقد الذاتي والتعهد بعدم العودة الى تلك الأساليب التي تجانب التعامل مع المعطيات والحقائق الموضوعية. فليس منطقياً ان تحيد الدولة عن منهج الكتمان لأسباب ما والإعلان لأسباب اخرى كلها تخدم أهداف الدولة في كل مرحلة من مراحل تطورها.
وهكذا تمكن إعادة بناء الأحداث والوقائع التاريخية عبر محاولة التقابل بين وثائق الدول والقوى السياسية المتباينة وغربلتها ضمن تصور نقدي يضع في مقدمة انشغالاته التعرف إلى مصالح تلك القوى ورهاناتها الخاصة، وعدم أخذ وجهة نظر ما باعتبارها التجسيد الفعلي المطلق للحقيقة، على اعتبار ان هذه الأخيرة تظل دوماً نسبية.
(*) كاتب مغربي
المصدر: صحيفة الحياة