قضايا وآراء » صناعة الكراهية... وشركاتها

 

webterrior_300

 

نورا جبران

تعبّر الأحداث العنيفة التي يمر بها العالم العربي، لا سيما تلك الناتجة من العنف الديني والمذهبي، عن تغيّرات خطيرة تعيشها المنطقة في مختلف المجالات، لا سيما الاجتماعية والسياسية، فعلى رغم وجود تاريخ طويل للصراعات المذهبية والفكر التكفيري إلا أن أعمال العنف المترتبة على هذه الخلافات كانت حتى وقت قريب نسبياً، أقل بكثير أو لا تكاد تُذكر مقارنة بما هي عليه الآن، وهو ما يفرض تعاطياً مختلفاً مع القضية بحثاً ودراسة وعلاجاً.

كما هي الحال بالنسبة إلى غالبية القضايا الاجتماعية في العالم العربي، لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد ضحايا جرائم الكراهية، وجرائم الكراهية وفقاً لتعريف &laqascii117o;ويبستر"، وهو التعريف الذي تتبناه غالبية البلدان، هي جرائم الاعتداء أو التشويه، التي ترتكب ضد فرد أو مجموعة بسبب اللون (أسود/ أبيض)، أو العقيدة (التوجّه الديني)، أو الجنس (ذكر/ أنثى)، أو التوجّه الجنسي (الميول الجنسية المثلية أو غير المثلية).

وتعاني بلدان كثيرة، ومنها الولايات المتحدة، من اضطراب الإحصاءات الخاصة بجرائم الكراهية. ففي حين تشير إحصاءات السلطات الأمنية والقضائية إلى نحو 6 آلاف إلى 7 آلاف جريمة سنوياً، تشير نتائج المسح الوطني للجريمة إلى نحو 200 - 300 ألف جريمة كراهية سنوياً. ويعزو باحثون هذا الفرق الهائل في الإحصاءات إلى عدم دقة تصنيف رجال الشرطة والقضاء للجرائم كجرائم كراهية، فتصنّف كجنايات وجرائم أخرى.

أما بالنسبة إلى الإحصاءات في العالم العربي فيعود الأمر إلى حداثة المفهوم من الناحية العلمية والقانونية، في المنطقة العربية، وربما إلى عدم الجدية في التعامل مع عملية إحصاء القضايا الاجتماعية عموماً، إضافة إلى عدم وجود قوانين تجرّم الكراهية، وصعوبة الجزم بأن هذه الجرائم تندرج تحت هذا التصنيف، على رغم أن أحداثاً كثيرة من القتل والتفجيرات وغيرها، كالتي يشهدها العراق أو سورية وغيرهما، تتم على أساس مذهبي وديني واضح ومعلن.

إنّ ما يعصف بالعالمين العربي والإسلامي، من تطرّف واضطـــرابات مذهبية لم يبدأ بجماعات وتنظيمات وعصابات متناحرة، وصلت حدّ القدرة على مجابهة جيوش نظامية وإحتلال أجزاء من دول، كتنظيم &laqascii117o;داعش" مثلاً، ولن يقف عندها، بل هو نتاج طبيعي للفكر الإقصائي والإكراه والتكفير، خصوصاً أن هذا المنحى من التفكير يتسلل إلى عقول الصغار عبر بعض المناهج التربوية.

كما أن ما يُطالعــــه العرب والمسلمون وغيرهم حول العالم، يومياً، من قنــــوات تدعو إلى الكراهية والرفض على أساس الدين أو العـــرق أو المذهب هو عامل مهم جداً أيضاً في تأجيج الكراهية والتشـــنّج الفكري والمذهبي، والدعوة إلى إلغاء الآخر وإباحة الاعتداء على معتـــقداته، ما يعني أن شريحة لا يُستهان بها من مجتمعاتنا تتربّى على مــــبدأ إقصاء الآخر، والفكر التكفيري الذي يُعتبر جزءاً من التكوين الاجتماعي والثقافي والفكري لأفراد وجماعات وتجمّعات إثنية ودينية تُعلي من شأن الخلاف والاختلاف، وتسحق إنسانيتها والقيم المشتركة بينها وبين الآخر، لمصلحة الاختلاف مهما كان هامشياً أو شكلياً.

وهذا يجب ألا يُنسينا أنّ هذه ظاهرة جديدة، نسبياً، ربما لم تكن غائبة تماماً في الماضي، لكن كان يتم تنحيتها لمصلحة أفكار وطنية ووحدوية أسمى وأعلى من الطائفية والانقسامات الضيقة، فما الذي حصل؟

أنتجت قناة &laqascii117o;بي بي سي" العربية مطلع هذا العام فيلماً وثائقياً عنوانه &laqascii117o;أثير الكراهية: عن التحريض الطائفي في الإعلام"، رصدت فيه محتوى عشرات القنوات الدينية، على مدى ستة أشهر، وكيف تموّل وتُشغّل، وكيف تستغل هذه القنوات ورجال الدين فيها التوتر المذهبي الذي يعصف بالمنطقة العربية، في تأجيج نار الكراهية والعنف المذهبي.

وعلى رغم إن الطائفية ليست هوية دينية حتى من الناحية المنطقية؛ فلم ينشأ الدين الإسلامي ولا المسيحي ولا اليهودي بهوية طائفة محددة، وإنما خُلق الناس أتباع ديانات، ثم خُلقت الطوائف بسبب صراعات على السلطة وليس على الدين، وبذلك فإن الحروب الطائفية هي حروب تنازع على السلطة، وليست حروباً دينية، إذا سلّمنا بأن الصراعات الدينية هدفها الآخرة وليس السلطة.

تعتبر قوانيــــن تجريم الكراهية، التي سنّتها بلدان عربية مثـــل الأردن والكويت والإمارات، أسوة بـ 26 بلداً في العالم، خطوات مهمة في طريق الحدّ من جرائم الاعتداء على الأشــخاص والجماعات بسبب توجهاتهم الدينية، أو الحكم على معتقــــداتهم وتصنيفهم كفاراً ومؤمنين، إلا أنّ القوانين وحــــدها لا تكفــي في بيئات تتربّى شريحة كبيرة من أبنائها في بيــــوت ومدارس وجامعات ووسائل إعلام تُقصي الآخر وتلغيه، وتمنح نفسها حق تقرير مصيره إلى الجنة والنار. لذا، فإن الأمر في حاجة إلى مراجعات أكبر للبُنية الاجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية التي يعيشها العالمين العربي والإسلامي.

إن خطاب الكراهية والهدم والقتل أكثر وضوحاً واستفزازاً وحشداً للمشاعر، من خطاب الوحدة والإعمار والتسامح، وهو ما يصنع من صاحبه بطلاً من أبطال المرحلة إذا لم يتم التصدّي له في شكل حازم وقاطع. فالتسامح لا يحتاج حشداً وتعبئة بل يحتاج أن تمضي في حياتك وتعتمد على نفسك وتعمل بصمت، وهذا لا يوفّر فرص العمل والظهور لمن لا يتقن سوى النقد والشتم والذم والقتل.
المصدر: صحيفة الحياة

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد