الأرجح أنه لم يخطر في بال مارتن كوبر أن اختراعه الخليوي سيكون سبباً في اعتقال كثير من البشر وتعذيبهم وربما... قتلهم! ففي اليمن، صار الخليوي الذي أريد له أن يساهم في رفاهية الإنسان وتعزيز فرديته، سبباً لمصادرة الحريّة، وممارسة الاختطاف، والزج بالناس في سجون التعذيب.
وغالباً ما ينظر إلى الثورة التكنولوجيّة بوصفها تجسيداً للحداثة الغربيّة والديموقراطيّة الضامنة لحريّة الفرد وحقوقه، خصوصاً الحق في الخصوصيّة، بيد أن تلك التكنولوجيا ربما تغدو وبالاً على الناس، في كثير من البلدان العربيّة والعالمثالثيّة.
هواتف طائفيّة
&laqascii117o;سلّموا تلفوناتكم" ذلك كان أول أمر تصدره قوة أمنيّة تابعة لجهاز الأمن السياسي (المخابرات) عندما داهمت قبل أيام، صالة فندق في مدينة إب، في وسط اليمن.
وفي تلك الصالة، تجمع ما يزيد على 30 ناشطاً يمنيّاً بينهم كتّاب وصحافيّون، تحضيراً لمسيرة سلميّة سُميّت &laqascii117o;مسيرة الماء" تهدف إلى لفت الانتباه إلى الحصار الذي تفرضه الميليشيا الانقلابيّة على مدينة تعز.
ووفق رواية أحد المشاركين في الاجتماع، دخل الجنود القاعة وبنادقهم مصوّبة نحو الحضور، ثم صرخوا &laqascii117o;سلّموا تلفوناتكم"، قبل أن يقتادوا معظم الحاضرين إلى المعتقل. واستُخدِمَت البيانات المخزّنة على الخليوي في عمليات التحقيق مع المعتقلين، بل تعذيبهم أيضاً.
منذ سنوات، اعتاد اليمن إجراءات من نوع تفتيش أجهزة الخليوي والكومبيوتر الشخصي لمشتبه بهم، لكن الأمر لم يصبح أداة صراع سياسي وعسكري إلا مع اندلاع الحرب الأهليّة التي تشهدها البلاد على خلفيّة انقلاب مسلح تنفذه منذ أيلول (سبتمبر) 2014، ميليشيا الحوثيّين والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح. ومنذها، بات الخليوي بمثابة هوية وسجل تعقب للأفراد، بل ربما باباً لإدانتهم. والأخطر أنّه استخدام أداة للفرز الطائفي والسياسي من قِبَل أطراف الصراع.
ووفق مصادر مطّلعة، جاء الإفراج عن عدد من نشطاء &laqascii117o;مسيرة الماء"، بعد أن تبيّن للمحقّقين عدم انتمائهم إلى &laqascii117o;حزب الإصلاح الإسلامي" السنّي، وهو الخصم المذهبي الرئيسي لميليشيا الحوثيّين المدعومة من إيران، فيما بقي آخرون رهن الاعتقال بينهم الكاتب محمود ياسين صاحب فكرة تنظيم &laqascii117o;مسيرة الماء".
وتفيد معلومات لم يتسن تأكيدها رسمياً، بتعرّض ياسين للتعذيب على خلفية بيانات عثِر عليها في هاتفه النقّال، من بينها رسائل نصيّة قصيرة من أفراد تشتبه ميليشيا الحوثيّين بتعاطفهم مع &laqascii117o;المقاومة الشعبيّة" اليمنيّة.
الاتّصالات والإرهاب
في أحيان كثيرة، شكّل الخليوي أحد أسلحة الجماعات الإرهابيّة في اليمن، ما استدعى إجراءات مضادة كاستخدام أجهزة تشويش على شبكات الخليوي في المناطق التي تعبرها مواكب كبار المسؤولين الحكوميّين خوفاً من استخدام الخليوي أداة للتفجير من بُعد. كذلك يحظر على من يقابلون كبار المسؤولين حمل الخليوي.
وتفيد معلومات متقاطعة، باستخدام أجهزة أمنيّة واستخباراتيّة تقنيّات متقدّمة لتتبع خليويّات المشتبه بهم والتنصّت على مكالماتهم. ووفق معلومات رسميّة، أفادت تلك التقنيّات في تحديد مشتبه بهم ممن تورّطوا في تنفيذ تفجيرات إرهابيّة في اليمن.
وعقب تفجير &laqascii117o;مسجد دار الرئاسة" في حزيران (يونيو) 2011 الذي أدّى حينها، إلى إصابة الرئيس السابق علي عبدالله صالح وعدد من أركان حكمه، جرى اعتقال عدد من الأشخاص بعد تتبّع بطاقة الخليوي الذي استُخدِم في ذلك التفجير.
وخلال العام الجاري، اعتقلت ميليشيا الحوثيّين وصالح التي تسيطر على صنعاء ومعظم المحافظات الشماليّة، عدداً من الأشخاص بتهم توزّعت بين تصوير حوادث انفجار مخازن سلاح تعرضت لقصف طيران التحالف العربي، ووضع شرائح خليويّة في مواقع الميليشيا الانقلابيّة وتجمعاتها. وسبق لتنظيم &laqascii117o;القاعدة" أن أعدم أحد عناصره بتهمة وضع شرائح خليوي في مركبات استهدفتها طائرات أميركيّة من دون طيار (&laqascii117o;درون").
وعلى رغم فرض قيود على خدمات الاتصالات الخليويّة تشمل نسخة من أوراق الهويّة الشخصيّة، إلا أن ذلك لا يطبّق في بعض المناطق النائيّة. وقبل عامين، رصدت عمليات بيع شرائح خليويّة يمنيّة وسعوديّة مفعّلة، في شوارع مديرية &laqascii117o;حرض" الحدوديّة، من دون حاجة لإثبات الهوية.
خوف من الصور
في ظل تلك المعطيات، يبدو أن الصورة الاجتماعيّة والثقافيّة لمنجزات العلم، ترسم بخطوط متعرّجة، بل تسلك مسارات متناقضة. وخلافاً للمجتمعات الغربيّة التي تبدو فيها ثورة الاتصالات منسجمة تماماً مع التطور العقلي والثقافي للفرد، وضمنها النظرة إلى الجسد، يشي انتشار تكنولوجيا الاتصال في المجتمعات التقليديّة، بازدواجيّة وتنافر بين القيم الثقافيّة والاجتماعيّة للتكنولوجيا من جهة، والممارسات الواقعيّة من الجهة الثانيّة.
وبقول آخر، صار الخليوي جزءاً من الحياة اليوميّة للمجتمعات العربيّة مع ملاحظة أنّ استخدامه محاط بقيود الثقافة المحافظة المثقلة بالازدواجيّة والمل إلى قولبة السلوك.
وتعاني يمنيات يضطررن في صالات حفلات الزفاف النسائيّة إلى خلع الشرشف والحجاب، من رهاب التقاط صور لهن بواسطة الخليوي، إذ تواترت معلومات عن استخدام تلك الصور في التشهير الشخصي عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ووصل الأمر أحياناً إلى استخدام مقاطع من أشرطة شخصيّة حميمة لتلك الغاية.
على نطاق واسع، تحظر ميليشيا الحوثيّين وقوات صالح على عناصرها في الثكنات وجبهات القتال، حمل الخليوي. ووفق مصادر متنوّعة، يرجع ذلك الحظر إلى فرضيّة مفادها بأن قوات &laqascii117o;التحالف العربي" تستخدم تقنيات رصد الاتصالات الخليويّة في قصفها الجوي للميليشيات. وأفاد أقارب بعض العناصر التي تقاتل مع الميليشيات بأنهم فقدو الاتصال بذويهم منذ شهور. تفتيش الخليوي بغرض الفرز السياسي والطائفي، إجراء تستخدمه أطراف الصراع في اليمن جميعها، إذ أفادت معلومات عن اعتقال &laqascii117o;المقاومة الشعبيّة" في عدن وتنظيم &laqascii117o;القاعدة" في حضرموت، يمنيّين من شمال البلاد، على خلفية العثور في هواتفهم على معلومات تشي باحتمال ارتباطهم بميليشيات الحوثيّين والرئيس المخلوع.
في السياق عينه، يمثّل تطبيق &laqascii117o;واتس آب" سبباً كافيّاً للاعتقال أحياناً، إذ اعتقل موظف يمني شاب يعمل في مؤسّسة صحافيّة حكوميّة على خلفيّة عضويته في مجموعة على &laqascii117o;واتس آب" تؤيد &laqascii117o;المقاومة الشعبيّة". وأفاد زملاء ذلك المعتقل بأنه سيق إلى السجن إثر تفتيش عناصر نقطة أمنيّة تابعة للحوثيّين في ضاحية مدينة تعز، هاتفه وخليويّات آخرين كانت معه في سيارة أجرة.
ويعتبر اختطاف الميليشيات الانقلابيّة، لأحمد بن مبارك، وهو مدير مكتب رئيس الجمهورية وأمين عام &laqascii117o;مؤتمر الحوار الوطني"، في مطلع العام الحالي، من أبرز الحوادث ذات الصلة باستخدام محتويات الخليوي في الصراع السياسي. فعقب الاختطاف، بثّت فضائيّة &laqascii117o;المسيرة" التابعة للحوثيّين مكالمة صوتيّة بين بن مبارك والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، يعتقد كثيرون بأنها وجدت في خليوي بن مبارك.
وتسبّبت موجة الاعتقالات في إشاعة الخوف بين الناشطين، كما دفعت بعضهم إلى محو بيانات من الخليوي في حال شكه بأنها ربما مثّلت خطراً عليه. في ذلك الصدد، أفاد موظّف يعمل في شركة خاصة في صنعاء، بأنه يستخدم هاتفاً معيّناً عند ذهابه إلى العمل، ويستبقي في المنزل الخليوي الذي يحتوي معلومات يعتبرها مهمة!
المصدر: صحيفة الحياة