قضايا وآراء » عن إعلامنا... عن دمنا وثقافتنا

 

haidar_300

 

جهاد ملاح

ما إن وقعت هجمات باريس، حتى فجرّت في لبنان، نقاشاً حول سلوك الإعلام اللبناني في تغطية تفجيري برج البراجنة، حيث لجأ كثيرون إلى مهاجمة هذا الإعلام، على صور الدماء والأشلاء، وعلى 'انتهاكه حرمة الضحايا واستغلال المأساة'.
في طبيعة الحال، اختلف الإعلام اللبناني في تغطيته، عما فعله الإعلام الفرنسي. فلماذا هذا الاختلاف؟ الحديث هنا ليس عن الانحدار في المستوى المهني والعلمي عامةً. وليس عن مسألة الموضوعية، فلا حديث عن الموضوعية في القضايا الإنسانية وفي الوقوف إلى جانب الضحايا الأبرياء. بل إن الأمر يتعلق بالركن الأكبر في الإعلام، وهو الأخلاقيات.
فالأخلاقيات شكلت دافعاً أساسياً في تطور مهنة الصحافة تاريخياً، باعتبارها مهنة رسالية تسعى إلى فرض عقد اجتماعي سويّ، في مفهوم بدأ أولاً بإنتاج سلطة رابعة تختلف عن سلطات النبلاء ورجال الدين وعامة الشعب، ثم تطورّ بشكل كبير لتصبح الصحافة قوة ضاربة في المجتمعات والدول.
إلا أنه ما بات الإعلام اللبناني يفعله في الأحداث الدموية، هو الهرولة السريعة نحو الاستقطاب على حساب القيم والمعايير الأخلاقية، من خلال الاستسلام للتنافس السلبي وبث مشاهد الدماء والأشلاء، والتعرض للجرحى بأسئلة أقلّ ما يقال عنها أنها فظيعة. ولعلّ هذا الأمر يصبح أكثر قساوة عندما يكون الجرحى من الأطفال الذين فقدوا أشخاصاً عزيزين، حيث قد يتسبب الحديث معهم ومحاولة انتزاع بعض المشاعر منهم، بدمار في شخصيتهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل من العدل المقارنة بين الإعلاميّن اللبناني والفرنسي، في كيفية تغطية الأحداث الدموية؟ في الواقع، إن الإعلام اللبناني يختلف بشكل كبير عن الإعلام الفرنسي، في البيئة الحاضنة، وفي العوامل الثقافية والسياسية والتاريخية. فعلى هذه الأرض اللبنانية، وبعيداً عن ثقافة 'تقبرني' التي تُستخدم للتحبب- فلهذا حديث آخر-، إن أكثر ما اعتاد عليه الشعب، كما الإعلام، هو الحروب والاقتتال والمجازر والدماء. وصولاً في الفترة الأخيرة، إلى السواطير التي يحملها الشباب في سياراتهم ودرجاتهم، وإلى الرصاص الذي يملأ الدنيا عند كل مناسبة، وحتى من دون مناسبة. وبالتالي، تدرّج الإعلام اللبناني نحو صور الدماء والأشلاء، التي لا لم تعد تستفـز الكثير من الناس، إذ تحطمت الثقافة الإنسانية وسط أخبار الاقتتال والموت والدمار. وما هجوم برج البراجنة، إلا محطة من محطات المأساة المزمنة، ومن سلسلة تفجيرات وهجمات بدأت في بئر العبد والرويس وعرسال، وتكرّرت حتى اكتسبت صفة 'المشهد الاعتيادي'.
في السياق ذاته، عندما بدأت الهجمات في العراق بعد احتلاله عام 2003، كان سقوط قتيل خبراً ميدانياً للصفحة الأولى ولمقدمة النشرة، ثم أصبح العدد المطلوب أربعة ثم عشرة، ثم ثلاثين. وبعد مدة، أصبح حجز مكان على الصفحة الأولى أو في المقدمة مرهوناً بسقوط 50 قتيلاً في يوم واحد وفي هجوم واحد. وتلك هي سوريا، شاهدة على التدرج ذاته. أما في فلسطين، فيسقط 2000 شهيد في غزة، خلال شهر، ويُقتل الأطفال جماعياً، وتتيتّم أجيال وتتراكم المآسي، ثم بلحظة واحدة وبكل بساطة، كأنّ شيئاً لم يكن.
في المقلب الآخر، لم تشهد باريس مثل تلك الهجمات الدموية منذ عقود طويلة، وبالتالي فإن الإعلام الفرنسي لا يستطيع بكل بساطة، عرض صور الدماء. والحال هو نفسه، في ما يتعلق بهجمات 11 أيلول، حيث أكثر ما يبقى في الذاكرة مشهد البرجين، إذ لم يلجأ الإعلام، إلى صور الجثث المتفحمة أو الأشلاء.
لكن هل يعني ذلك رفع المسؤولية عن الإعلام اللبناني؟ بالطبع لا. فمهما كان 'الاعتياد'، ومهما جرت محاولات تبرير تطبيق نظرية السوق ومبدأ العرض والطلب من قبل وسائل الإعلام، يجب أن يبقى للمصلحة العامة مكان أساسي في إدارة المؤسسات الإعلامية وفي القرارات المتخذة للإنتاج والتغطية الإخبارية، خصوصاً خلال الأحداث الدموية. وإذا كان الدمج بين المصلحة العامة والحاجة لزيادة المشاهدين ضرورة مفهومة، فلا بد أن يكون هذا الدمج مخططاً بدقة، وذكياً، وإبداعياً قادراً على إيجاد بدائل للجذب. فهل يعرف هذا الإعلام أنه عند تغطية انفجاري برج البراجنة، اضطر الكثير من الآباء والأمهات أن ينتـقلوا إلى مشاهدة فيلم أو مسلسل ما أو مباراة في كرة قدم، حتى لا يشاهد أطفالهم رخص الإنسان، ومشاهد الدماء والأشلاء؟ فهذه المشاهد قد تصبح تلقائياً، طريقاً إلى الكوابيس، ثم إلى تقبل العنف، إلا ما رحم ربي.
أما إذا كان كل ذلك صعباً على الإعلام اللبناني، فأقله ألا يجعل كاميراته تقترب كثيراً من العيون، على أمل أن تلتقط دمعة وتسحبها من داخل المآقي! فهذا سبق غير أخلاقي. ألا يكفي نظامنا المقيت، وتلك السياسة التي تدمرّ الأرض وتسرق الأعمار وتدمي الأجيال، وتدق الأسافين في نعوش الدولة والمواطن والإنسان؟
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد