القاهرة ـ أمينة خيري
لم يحن موعدها بعد، لكنه آت لا محالة. لم تبدأ مرحلة الحساب، لكنها ستحدث، من دون شك. الغالبية المطلقة من العالم غارقة حتى أذنيها في متابعة تفجيرات هنا وتفخيخات هناك وتهديدات بحروب كيماوية هنا وبيولوجية هناك وتفريغ لبلدان من شعوبها وإعادة ترسيم حدود والسير على جثث ملايين من هنا لصالح عشرات من هناك، لكن ضلوع شاشات عربية في ما يجري في المنطقة لم يأخذ حقه من الاهتمام بعد. وبعدما أضحى الأثير متخماً بآلاف القنوات الناطقة بالعربية ليملأ فراغاً إعلامياً كبيراً بمقدار هائل مما لا يلذ وكم ضئيل بما يطيب من إعلام وإخبار وصناعة للرأي العام العربي وإعادة تشكيل للهويات وإعادة ترتيب للأولويات والدخول بالمشاهد العربي مرحلة الإحماء تجهيزاً للشرق الأوسط الجديد اقترب ـ أو بالأحرى استوجب ـ الحساب.
حساب عسير
حساب عسير ينتظر حفنة من الفضائيات التي بات دورها في تجهيز الأرض لما يضرب العالم اليوم من إرهاب بعضه يرتكز إلى قوام أيديولوجي، ومعها مئات الفضائيات التي تفجرت من رحم الأيديولوجيات المغلوطة والسياسات المرسومة والأهداف المحسوبة من أجل تحقيق مآرب بعينها على المدى الطويل، ولو كان ذلك باستخدام الدين. ولأن العرب بوجه عام لم يعتادوا التخطيط، فما بالك بطويل المدى منه، فإن قليلين فقط هم من تنبهوا إلى أخطار محدقة مصدرها الشاشات الفضية في حينها.
وحين تحولت المقابلات الحصرية واللقاءات الفردية ومقاطع الأفلام إلى سمة من سمات قنوات بعينها منذ ما يزيد على عقد من الزمان، اعتبرها القاصي والداني شطارة وحذاقة وقدرة إعلامية فريدة تحسدها عليها قنوات التلفزيون الرسمية العربية التي تحجرت وتكلست ودخلت مرحلة الموت السريري قبل سنوات. وقتها كلل ملايين المشاهدين العرب هذه الإنجازات الحصرية واللقاءات غير المسبوقة بألقاب لا تخرج عن إطار الإعجاب والإعزاز والتقدير والاحترام طلباً للمزيد. وجاء المزيد في استوديوات احترفت التسخين وحوارات ابتدعت التأجيج، وأخذت بيد المشاهد العربي من عالم الصوت الواحد والرأي الأوحد و"آمين" التي ترددها أبواق الإعلام الرسمية بعد كل بيان رسمي أو خطاب رئاسي أو قرار حكومي. وأصبح الرأي والرأي الآخر صناعة وحرفة ودقائق من الجذب الإعلامي والإعلاني تتسابق بقية القنوات لتطبقه في قنواتها عسى أن تحقق بعضاً مما حققته هذه القنوات من ريادة وتجارة.
الإتجار بالمشاهدين
وحين قال أحدهم قبل فترة أن &laqascii117o;الإتجار في البشر ليس حكراً على مهاجري المراكب والزواج القسري والعمالة التي تتدنى لدرجة العبودية وغيرها، بل أن الإتجار بأدمغة المشاهدين وصناعة رأي عام مُضَلل وتمويه الإرهاب عبر الشاشات ليبدو كأنه أيديولوجيا تتبع شكلاً من أشكال الإتجار في البشر" لم يلق الكلام استساغة أو استحساناً. فقد كان ذلك قبل عقد كامل من الزمان. ولكن حين كرره مجدداً هذه الأيام، وافقه الجميع وثمنوه عدا أولئك الذين رأوا في تنظيم الدولة الإسلامية مشروع خلافة واعداً أو بداية موفقة لاستعادة الهوية وإن كانت قد ضلت الطريق.
الطريق الذي انفتح أمام مئات القنوات لتبث فكراً يصفه بعضهم بـ &laqascii117o;العودة إلى الجذور" وآخرون بـ &laqascii117o;المتشدد" وفريق ثالث بـ &laqascii117o;الأصولي" ورابع بـ &laqascii117o;المنعزل" تمدد وتوسع وتشعب حتى باتت محاولات تطويقه والسيطرة عليه بل تصنيفه أقرب ما تكون إلى المهمة المستحيلة وربما الانتحارية.
توصيف العديد من العمليات الانتحارية التي يقوم بها أفراد من تنظيم &laqascii117o;داعش" وتنظيمات أخرى تعتنق العنف باعتبارها &laqascii117o;جهادية" أو &laqascii117o;فدائية" أو حتى &laqascii117o;عسكرية" في عدد من الشاشات العربية بات يستوجب بعض التدقيق. المثير أن النسبة الأكبر من هذه القنوات ليست إخبارية أو عامة، بل هي مصنفة تحت بند القنوات الدينية. والأكثر إثارة أن مثل هذه التسميات تأتي مدسوسة في عسل التفسير والإفتاء من دون أن يلحظ أحد، سواء بتسللها إلى أدمغة المشاهدين المتابعين بغرض الاستفادة ومن ثم إفادة الآخرين، أو بالسكوت عليها حيث الجهات الرسمية والسيادية غارقة في جهود محاربة الإرهاب.
شاشات تدحر الإرهاب
محاربة الإرهاب التي تدور رحاها التلفزيونية هذه الآونة سواء بهاشتاغ &laqascii117o;الدولة تحارب الإرهاب" أو ببرامج دحر التطرف بخطاب يخلو هو الآخر من الفكر المتنور ناهيك عن القدرة على الوصول لقلوب وعقول الشباب تقف وقوف العاجزين أمام استمرار الهجمة التلفزيونية الشرسة في فحواها الناعمة في مظهرها والتي تبث سمومها رأساً في الفئات العمرية الأصغر.
برامج اجتماعية، وأخرى نفسية، وثالثة سياسية، ورابعة اقتصادية تبثها شاشات عدة وترسخ من خلالها مفاهيم مغرقة في التطرف وأخرى هادمة لقيم الاختلاف ومعاني التنوع وثالثة مصنفة لكل من يناهض أو يخالف هذه التوجهات باعتبارهم خارجين عن الملة أو مارقين بلا دية.
المثير للاهتمام أنه قبل سنوات قليلة مضت، كان الغرب الداعم للحقوق الداعي إلى حرية التعبير من دون قيود، يناهض قنوات عربية بعينها باعتبارها &laqascii117o;داعمة للإرهاب ومصدر خطورة للأمن القومي للولايات المتحدة". ومعروف أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول طلب من أمير قطر في تشرين الأول (أكتوبر) 2003 عدم بث حديث أجرته القناة مع أسامة بن لادن في عام 1998. كما اتهم القناة بالتحيز ضد بلاده، واعترضت سفارة بلاده لدى قطر رسمياً. لكن قلما تُسمع مثل هذه الاعتراضات هذه الأيام. والأدهى من ذلك أن الدول التي تجد أمنها القومي معرضاً للخطر جراء ما تبثه قنوات تلفزيونية عربية بعينها من مواد مغلوطة، أو مسيسة، أو مؤدلجة وتتخذ إجراءات دفاعية، تجد في الولايات المتحدة خير نصير لـ &laqascii117o;حرية الإعلام" و &laqascii117o;حق الشاشات في بث الأخبار".
وفي ظل الاستقطاب العالمي انطلاقاً من تنامي &laqascii117o;داعش" شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وضلوع روسيا في مواجهة أميركا في قلب الشرق الأوسط الجديد الجاري تحميله بكل همة ونشاط، انقسمت الشاشات العربية بين مؤيد أكيد للضرب الأميركي باعتباره واجباً شرعياً، ومعارض عتيد للضرب الروسي باعتباره حراماً بيناً، ومتأرجحاً بين هذا وذاك، وباك على لبن العرب المسكوب، ودم المسلمين المهدور. الطريف والظريف والفريد هو أن الجميع – على رغم اختلاف التوجهات وتضارب الغايات - ينصب نفسه ناطقاً باسم الإسلام الوسطي الرافض لممارسات &laqascii117o;داعش" المارقة.
شاشات وسطية
شاشات تكاد ان تكون معدودة على اليد الواحدة تقدم أسئلة مشروعة وتحليلات ربما يقبلها العقل. العالم العربي غارق حتى أذنيه في غياهب الإرهاب، سواء كان صناعة محلية أو استيراداً عالمياً أو خليطاً من كليهما. هذه الشاشات المعدودة تبحث عن أصول وجذور لتمدد الإرهاب الفكري والترهيب الديني، فتجده في قنوات &laqascii117o;زميلة". وتحاول جاهدة أن تجد مخرجاً من المكمن الكبير، لكن المخارج موصدة وكذلك الآذان ومعها العقول والقلوب.
وإلى أن تُفتح، يجد المشاهد العربي نفسه غارقاً إما في هــزل بـرامج المسابـقات، وإما في دماء نشرات الأخبار، وإما في فتاوى التكفير والتغريب وجذب المزيد من التعاطف والتقارب مع جماعات التطرف والتشدد باعتبارها صانعة الأمل وحافظة الهمم وصاحبة الحق الحصري في إمداد المشاهد بأطواق النجاة الدينــيــة من المآسي الدينوية. أما الحساب فــآت لا محــالة، ولكن لم يتحدد موعده بعد.
المصدر: صحيفة الحياة