فجر يعقوب
ربما تجيء الكتابة في هذا المضمار متسرعة بعض الشيء. ربما لا تبدو كذلك في معاينة برانية لجوهر الموضوع الذي تجيء عليه. المتابعة الحثيثة المتفحصة قد تجرّ شيئاً من التلصص غير الحميد على كواليس برامج الحوار المتلفزة (الثقافية منها بخاصة) التي دفعت أسماء عدة لتصدّر الواجهات الثقافية العربية من غير حق.
بالفعل تبدو الكتابة هنا مثل عبور حقل للألغام قد يؤجل انفجاره لمواسم عدة من دون معرفة الوجهة التالية لكل عابر أو متلصص أو ضيف ومضيف.
ظهر مع الوفرة الفضائية العربية أن هناك كتاباً ومثقفين يتقنون موهبة العبور والتسلل الى هذه البرامج باعتبارات وادعاءات مختلفة. ليس صعباً الوصول الى بعض هذه البرامج الفضائية ان كان ثمة رغبات دفينة ومتأججة لدى بعضهم تحفز على القيام بذلك، وبخاصة أن موسم مايسمى الربيع العربي لم ينقض وهناك فرص كثيرة للتأسيس عليه. بالطبع تتحمل المطحنة التلفزيونية مسؤولية كبيرة في انبعاث هذه الظاهرة التي تصنف الجميع بالمستويات ذاتها. ربما كانت هذه احدى وظائف هذا الجهاز العجيب الذي لايقلل من شأن أحد ويقلل من شأن الجميع في الوقت ذاته على حد 'مزاعم' فيدريكو فيلليني ودزينة أخرى من المخرجين تعمل معه في الاتجاه ذاته على تربية ذائقة معادية لهذه المطحنة. هذا 'الانبعاث الثقافي' الجديد ربما يشبه في واقعيته المفرطة تسلل رسام بلغاري بائس الى سفينة شحن أميركية كانت ترسو في ميناء فارنا سنة 1916. وعندما ألقي القبض عليه بين محركات السفينة، واقتيد مخفوراً الى القبطان الأميركي الذي سأله عن هويته، أجاب الضيف غير المرغوب فيه إنه رسام ويريد الهجرة الى أميركا. صفن القبطان قليلاً وطلب منه رسم بورتريه له، وقال إن أعجب به، فسيبقيه على ظهر السفينة وان لم يعجبه، فسيلقي به للأسماك. قام الرسام المسكين بعمل ماهو مطلوب منه، وأعجب القبطان برسمه. وعندما وصلت السفينة الى ميناء نيويورك طلب القبطان اليه التوجه الى أحد فنادق المدينة ودفع له ثمن لباس جديد ليظهر بمظهر نظيف ومقنع، ونشر اعلاناً مأجوراً في صحيفة معروفة يقول فيه إن رسام القيصر البلغاري متواجد لفترة معينة في نيويورك. النتيجة كانت معروفة بطبيعة الحال. عشرات الصحف وعدسات المصورين وصلت الى الفندق المذكور وصار المسكين بنتيجة الدعاية المفرطة من أهم الرسامين البلغار في تلك الحقبة العاصفة.
ربما يبدو أن هذا هو 'الانبعاث' الإيجابي في الحكاية البلغارية، أما ماتقوم به بعض البرامج الثقافية العربية من رسم بورتريهات مزيفة لمثقفين والدعاية المجانية لهم فإنه يدفع الى تأمل رد فعل القبطان الأميركي وتخييره الرسام بين أداء وظيفته على أكمل وجه، أو تأمل وجهه على صفحة المياه المالحة لآخر مرة.
المصدر: صحيفة الحياة