مشعل السديري
لم أحب بلدًا بعد بلدي أكثر من لبنان، وهو أول أرض تطأها قدمي منذ الطفولة الباكرة، ووقفت في حينها مشدوهًا ومبهورًا بالبنايات والأنوار والسينمات والفترينات والملاهي والفساتين لقصيرة، وكذلك بالشواطئ والجبال والأغاني، وترسخ في ذهني وقناعاتي بعد سنوات، أن تلك الأرض إنما هي فعلاً (قطعه من سما) مثلما صدح بها المطرب (وديع الصافي).
في الخمسينات والستينات إلى منتصف السبعينات، كان لبنان مربط خيل العرب بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فالذي ينشد الراحة والاستمتاع يجدهما، والذي يريد الاستثمار والعلاج والخدمات يجدها، والذي يبحث عن الفكر والعلم يجده، لقد سحب البساط في حينها من مصر بكل جدارة واقتدار.
في ذلك الوقت بدأت الطفرة البترولية الأولى في دول الخليج، وكان لبنان مهيأ بالدرجة الأولى للاستفادة من تلك الطفرة، لولا أن (الأبالسة) ـ الداخليين والخارجيين ـ لم يتركوه بحاله، فتكالبوا عليه من كل حدب وصوب، وأرغموه إرغامًا على حرب أهلية عبثية دمرته وجمدته أكثر من عشرين عامًا، وقد ساهم في تلك الحرب بكل (بطولة) زعران لبنان نفسه والفصائل الفلسطينية والأم الرؤوم سوريا، إلى درجة أنه أصبح من محمياتها، وعندما هدأت الأمور وخرجت سوريا مرغمة، إذا (بالطيور قد طارت بأرزاقها)، فخلال تلك المدة ظهرت معطيات جديدة
لم تخطر على البال، فأصبح هناك دبي، وشرم الشيخ، والمغرب، وتركيا، وماليزيا، وتأشيرة (شنغن)، والتسهيلات السياحية، والطيران دون توقف إلى أبعد المنتجعات في دول العالم، وآخرًا وليس آخرها هي دول أوروبا الشرقية اليوم تفتح ذراعيها لكل سائح ومستثمر، وضاعت الفرصة التي لن تعود للبنان.
ومن مضحكات القدر، ها هي دولة سوريا (الفاشلة)، تشرب من الكأس نفسها التي جرعتها للبنان، ولكن على أسوأ وأسخم.
لا أظن أن هناك دولة في العالم مضى عليها أكثر من عام ونصف العام وهي دون رئيس غير لبنان، بسبب ما تفتقت عنه عبقرية (الزعران) باختراع ما يسمى بـ(الثلث المعطل)!! ولا أملك إلا أن أقول: (يا مثبت العقول).
إنني والله لحزين جدًا، وأتمنى أن تشاركوني ذلك الحزن وتقرأوا معي الخبر التالي:
اختارت إحدى المدارس اللبنانية أن تحتفل بذكرى الاستقلال بطريقة خاصة بها، حيث قامت بخبز أكبر منقوشة زعتر على الصاج في العالم، لتحطم الرقم القياسي ـ انتهى الخبر.
(منقوشة زعتر)!! هل هذا هو لبنان الذي كنا نراهن عليه أن يكون (سويسرا الشرق) قد وصل إلى هذا الحد؟! إنني لا أستهجن حماس هؤلاء التلاميذ، كما أنني شخصيًا أحب المنقوشة، ولكنني أستغرب كيف استطاعوا أن يطبخوها ويحضروها، وكل ما حواليهم من الجهات الأربع أكداس من الزبالة مضى عليها عدة أشهر وما زالت رائحتها تزكم الأنوف؟!
المصدر: الشرق الأوسط