قضايا وآراء » الحزب والقضية بين الخطاب والممارسة

فارس اشتي
يتأسس الحزب السياسي من أجل قضية يراها المؤسسون قضية شريفة يُستحق أنْ يُعمل من أجلها وينتمي المحازبون اليه من أجلها. وتأخذ القضية في الحزب السياسي شكلين أساسَين: قضية الجماعة أو قضية الفرد.
ومن قضايا الجماعة: وحدة الأمة، نهوض الأمة، حقوق الطـــائفة او الجـــماعة، رفعة الوطن، حقوق الطبقة العاملة. بينما قضـــايا الفرد: تحسين شروط العــــيش، زيادة الاجور، تأمين السكن، الحرية، الديموقراطية...
وبرغم التداخل بين النوعين البادي في القول بأنَّ قضية الجماعة هي حكماً، قضية الافراد المنتمين اليها، وبأنَّ قضية الفرد، بتماثل شروط الانتاج او السكن، قضية جماعة، فإنَّ غلبة الهم الجمعي في الأولى وغلبة الهم الفردي في الثانية يجعل التضحية بالثانوي، اي الفرد في الأولى والجماعة في الثانية، مسلّما بها أو غير معترض عليها.
والقضية، أياً كانت، هي ـ بحسب التــــدرج في التحقق ـ الغاية التي يُســــعى اليها، اي البعيدة المنال، وهي ـ بحسب درجة التجريد في الفهم ـ على درجـــــة عالية منه، اي غير قريبة من الملمــــوس المجتمعي، وهي ـ بحسب الدقة في التحديد ـ عائمة وفضفاضة.
ويعني هذا أنّ القضية فكرة مجردة وعائمة وبعيدة المنال. ويتطلب الوصول اليها أو تحقيقها قوى تعمل لها ومراحل تُجتاز فيها ومغالبة تُدار فيها.
وتفترض القضية في أي حزب سياسي استهداف التغيير، أيا كان معناه وأيا كانت وجهته. كما يفترض التغيير وضوحاً في الاهداف المرحلية للوصول اليه وتحديدا للنصاب السياسي الذي سيعمل فيه وآليات تحقيقه وقوى مجتمعية تعمل لذلك، وبكلام موجز تفترض القضية بناء مشروع لتحقيقها.
ويفترض تنكب الحزب السياسي لحمل قضية بناء مشروع، بما يعني من هدف/ مطلب وآليات وقوى ووسائل لتحقيقه ونصاب يُعمل ضمنه، لتحقيق مندرجات القضية ومتطلبات تحقيقها، وهذا مبرر وجوده.
ويأخذ ارتباط الحزب بالقضية، أي مشروعه، شكل العلاقة غير المباشرة في مواجهة شكل مباشر يتبدى في الجمعيات. إذ ينتج الحزب فكراً واستراتيجية وبرنامجاً لتحقيق الهدف المنطوي في القضية، وإليه يُستقطب القابلون بالفكرة وبموجبه يعملون وعلى معاييره تتعدد الاحزاب في القضية الواحدة.
وتتوضح هذه العلاقة بنقيضها القائم على علاقة مباشرة بالقضية القائمة في الجمعيات، حيث تكون القضية فكرة واحدة لا تحتاج الى استراتيجية وبرنامج وشرح أيديولوجي، بل تحتاج الى ممارسة تنتج فكراً للجمعية ومشروعها.
وتعتبر القضية ومندرجاتها معياراً لممارسة الحزب وشرطاً لاستمراريته، كما تعتبر شرطاً تكوينياً لانتماء الافراد اليه وممارستهم على هدي استراتيجيته وبرامجه، فعليها يقسم المنتمون ويقوم العقد بين الفرد والزعيم، مثلا.
وتكمن في الدعوة للانتساب الى الحزب وفي التجاوب معها، انتماء وممارسة، فكرة بناء القوة القادرة على تحقيق الهدف، برنامجاً واستراتيجية، والوصول الى الغاية، والاتساق مع القضية.
وهذا النموذج للحزب في ارتباطه بالقضية، دعوة وانتماء وممارسة، هو لحظة نظرية استثنائية، قد يقاربها المؤسسون والجيل الاول من المنتمين ويستخدمها الممسكون بالقيادة دائماً، ويستحضرها المحبذون والمعارضون في مواجهتهم لقيادة الحزب، دعماً او نقضاً.
وواقع الامر أنَّ العلاقة بين الحزب وقضيته مشوبة بالالتباس دائماً، وعلى اكثر من مستوى وفي المراحل كافة.
فالالتــــباس الاول يتمثل في ادعاء الحزب أنّه الحامل الوحيد للقضية، في حين أنَّ القضــية، اي قضية، بحكم طبيــــعتها العامة وغير المحددة، لا يمكن أنْ تُحصر بقوة ما.
والالتباس الثاني يتمثل في ادعاء الحزب أنَّ الفكر الذي أنتجه، مبادئ واستراتيجية وبرامج، هو المؤهل الوحيد لتحقيق القضية، في حين أنَّ إنتاج الفكر بحد ذاته احد خيارات انجاز القضية.
والالتباس الثالث يتمثل في ادعاء الحزب بأنّه، كقوة، المؤهل الوحيد لتحقيق القضية، في حين أنَّ القوة كخيار إنجاز مشروع/ استراتيجية وبرنامج هي خيار في أحد المشاريع، لا المشروع الوحيد.
والالتباس الرابع يتمثل في تماهي الحزب مع القضية، فيصبح الحزب هو القضية، الدفاع عنه دفاع عنها والانتساب اليه انتساب اليها.
ومرد هذه الالتباسات أنّ الاحزاب طرحت مبادئ ولم تضع مشاريع وبرامج؛ والمبدأ قولٌ تجريدي قريب من القضية في تجريديته في حين أنّ المشروع والبرنامج اقل تجريداً واقرب الى الملموس المجتمعي، الامر الذي يسهل الالتباس.
ويكمن خلف هذه الالتباسات منطق في فهم العمل الحزبي فهماً عصبوياً ينغلق فيه الحزب على ذاته فتصبح القضية والتنظيم والمبادئ والبرامج، إنْ وجدت، واحداً، ويصبح المس بإحداها مساً بالكل ويؤول نقدُ العضوِ الحزبَ او النقطةَ البرنامجيةَ أو أداءً تفصيلياً للجــهاز تعرضاً للقضية وتعريضاً لها، وغالباً ما تكون القضية مقدسة عند القائلين بها.
ويمكن توضيح الفكرة بمثل مُعاش، &laqascii117o;تحرير فلسطين". فهي قضية أُسِست احزاب من اجلها، لكن الحزب، أي حزب، ليكون كذلك، يحتاج الى مشروع لتحقيق القضية، تحرير فلسطين هنا، ويستحيل على القضية، أن تنحصر بمشروع واحد لعموميتها وتشعبها. ويمكن أن يطرح اكثر من مشروع للقضية الواحدة وبذا يكون الحزب، اذا وضع مشروعاً، احد خيارات تحقيق القضية. ويكون مشروعه احد المشاريع، لا المشروع. والمشروع، كهدف وآليات وقوى لتحقيقه ونصاب سياسي يعمل في اطاره، يحمل في طياته امكانية وجود اكثر من قوة حاملة له، وبذا يظهر، بالامكان أو بالقوة، مروحة واسعة من الاحزاب في اطار القـــــوى العاملة لهذه القـــــضية تتوزع ضمن مستويات متعـــددة: مستوى المشاريع وتعددها، مستوى القوى الممكنة الوجود ضمن المشروع الواحد.
وعليه، يشكل ربط الحزب بقضيته من دون هذا الفهم تهويما ايديولوجيا يضلل جمهوره وتتظلل القيادة به لتحقيق مآرب مباينة للقضية ومفارقة لجمهورها.
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد