ربيع بركات
تماماً كما حصل لدى إعلان موسكو تدخلها العسكري المباشر في سوريا، سال حبر كثير لمحاولة فهم أبعاد قرارها الأخير، القاضي هذه المرة بالانكفاء النسبي والمتدرّج عن أرض المعركة في بلاد الشام. كثيرة هي الاعتبارات التي قد تدفع بوتين إلى اتخاذ قرار من هذا النوع. لكن التركيز على أي منها هو ضرب من المبالغة، ما لم يُنظر إلى المسألة من زاويتها الأوسع.
ليس العامل الاقتصادي وحده ما يدفع الروس إلى إعادة النظر في حساباتهم. في نهاية كانون الثاني الماضي، أعلنت موسكو نيتها تقليص مصاريفها المحددة بموجب ميزانيتها السنوية بنسبة 10 في المئة، نتيجة انزلاق سعر برميل النفط إلى ما دون الثلاثين دولاراً، بعدما كانت قد أعدّت هذه الميزانية على أساس سعرٍ وسطي للبرميل قوامه 50 دولاراً. ثم أعلنت أرقامٌ رسمية روسية عن تقلّص حجم الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3.7 في المئة، قبل أن يصدر تصريح عن وزارة الدفاع الروسية يفيد بالتوجه نحو تخفيض ميزانية الدفاع بنسبة 5 في المئة للعام الحالي، وهي نسبة التخفيض الأكبر منذ تبوء بوتين السلطة في العام 2000. الاقتصاد عامل مهم لا ريب، وهو لا يلعب لمصلحة موسكو ولا قواتها المسلحة اليوم، لكنه ليس ضاغطاً وحده في اتجاه صياغة موقفها الأخير؛ فمصاريف الحملة العسكرية في سوريا، التي تراوحت ما بين 700 مليون ومليار دولار شهرياً، يمكن احتمالها في المدى المنظور.
كذلك، فإن الموقف السياسي لموسكو من التسوية السورية يتصل بخيارها الأخير، لكنه قاصر عن اختصار أسبابه. وقد ظهّرت الأشهر الأخيرة جملة من التباينات لهذه الناحية، بين الإدارة الروسية من جهة، وخصومها وحلفائها على السواء من جهة أخرى. فتركيا صارت في الموقع النقيض بعد حادثة إسقاط &laqascii117o;السوخوي"، وقد تآكلت فرصها بالتوسع المباشر في الشمال السوري وتوسعت في المقابل الرقعة الكردية جغرافياً جنوبها، فيما السعودية تعرضت لعملية تقليم أظافر في غوطة دمشق في الأيام الأولى من العملية العسكرية. في المقابل، برز الاختلاف مؤخراً بين موسكو ودمشق، حيال المدى الذي يُفترض أن تبلغه الاندفاعة الميدانية المنطلقة تحت جناح طائراتها، ولناحية جدية المفاوضات في جنيف، ولجهة ربط المسار التسووي بعملية انتخابية تتجاوز الشكليات التي اعتادها النظام. وبدا أن التباين ذلك ينسحب على إيران أيضاً، التي ترى اليوم فرص تقارب بين موسكو والرياض في الأفق، من بوابة الاتفاق على رفع أسعار النفط أولاً، والاستعداد للقبول بالرياض لاعباً وازناً في المفاوضات على حساب تركيا (في حين تفضل طهران أنقرة على حساب الرياض). كل من هذه العوامل يمكن تشريحها على حدة من أجل فهم الخطوة الروسية. لكن أياً من هذا التشريح غير كافٍ.
روسيا قررت أن تلعب ورقتها اليوم لتقول لمن يعنيهم الأمر في الإقليم إنها اللاعب الأثقل بينهم، وهي مديرة التوازنات الدقيقة التي أفضت إلى وقف إطلاق النار، بالتنسيق مع واشنطن. ومن يرغب بالاعتراض، فعليه أن يثبت أنه قادر على تحمّل التبعات.
على هذا الأساس، ستكون سوريا مختبراً للمقاربة الروسية تلك على مدى الأشهر المقبلة. يلي ذلك تطلع موسكو إلى إطلاق مسار التسوية وإدارة المرحلة بعدها.. ثم تأتي مشاريع الغاز وإعادة الإعمار. هكذا، يأتي الإمساك بخيوط اللعبة في سياق استراتيجي واستشرافي، لا بالمفرّق. وهو، على ما يبدو، يستوجب ضغطاً على الفرقاء كافة للانضواء في المسار المرسوم.. إن قدّر له أن يكتمل.
المصدر: صحيفة السفير